صدور ثلاثة كتب لبول أوستر بترجمة سامر أبو هواش

2017-05-12 01:00:00

صدور ثلاثة كتب لبول أوستر بترجمة سامر أبو هواش

صدرت الكتب الثلاثة مؤخراً عن منشورات المتوسط، وقد نقلها عن الإنكليزية الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش. ننشر هنا فصلاً من «رحلات في حجرة الكتابة» خصّه المترجم للمجلة:

يجلس الشيخ على طرف السّرير الضيّق، واضعاً راحتي يديه فوق ركبتيه، مطرقاً الرأس يحملق بالأرض. لا فكرة لديه بأن ثمة كاميرا على السقف مصوّبة مباشرة نحوه. مصراع الكاميرا يغلق ويفتح بصمت مرة كلّ ثانية، منتجاً ثمانية وستين ألفاً وأربعمائة صورة مع كلّ دوران للأرض. وحتى لو عرف بأنه مراقب، لما شكّل ذلك أي فرق. فعقله سارح في مكان آخر، في مخيلته، بحثاً عن جواب عن السؤال المؤرق.

من هو؟ ما الذي يفعله هنا؟ متى وصل إلى هنا، وكم سيبقى؟ نأمل بأن الوقت سيخبرنا بذلك. أما في الوقت الراهن، فإن مهمتنا الوحيدة تنحصر في دراسة الصور بقدر ما أمكننا من التيقّظ، والامتناع عن استخلاص أيّة نتائج متعجلة.

أشياء عدة تتوزّع في أرجاء الغرفة، وفوق كلّ واحد منها شريط أبيض كتب عليه كلمة واحدة بأحرف منفصلة. على منضدة السرير، مثلاً، كتب "منضدة". وعلى المصباح "مصباح". وحتى على الجدار، وهو لا يعدّ "شيئاً" بكلّ معنى الكلمة، كتب على الشريط اللاصق كلمة "جدار". يرفع الشيخ رأسه لبرهة، يرى الجدار، ويرى الشريط الملصق عليه، ويلفظ، همساً، كلمة "جدار". ما لا يستطيع معرفته في هذه المرحلة هو ما إذا كان يقرأ الكلمة على الشريط أو أنه يشير ببساطة إلى الجدار نفسه. ربما يكون قد نسي القراءة لكنّه ما زال يميّز الأشياء على حقيقتها ويستطيع معرفتها من أسمائها، أو على العكس، ربما فقد المقدرة على تمييز الأشياء على حقيقتها لكنه ما زال قادراً على القراءة.

يرتدي منامة قطنية مقلّمة بخطوط زرقاء وصفراء، وفي قدميه زوج من الأخفاف الجلدية السوداء. ليس بيّناً بالنسبة إليه أين هو على وجه التعيين. صحيح أنه في الحجرة، ولكن في أي مبنى تقع هذه الغرفة؟ أهي في بيت؟ أم مشفى؟ أم في سجن؟ لا يستطيع تذكّر الوقت الذي مضى عليه ههنا أو طبيعة الظروف التي أدّت إلى وجوده في هذا المكان. ربما كان هنا منذ البداية؛ ربما يكون هذا المكان الذي يعيش فيه منذ ولادته. ما يعرفه جيداً أن قلبه طافح بإحساس قاتل بالذنب. وفي الوقت عينه لا يمكنه التخلّص من شعوره بأنه ضحية ظلم مروّع.

في الغرفة نافذة واحدة، لكنّ الستارة مسدلة فوقها، وبقدر ما تسعفه الذاكرة فإنه لم ينظر بعد من هذه النافذة. والأمر نفسه ينطبق على الباب ومقبضه البورسلانيّ الأبيض. أهو محبوس، أم أنه حرّ بالدخول والخروج كيفما يشاء؟ ما زال عليه استكشاف ذلك–إذ أن عقله، وكما هو مبيّن في الفقرة أعلاه، سارح في مكان آخر، في الماضي، بينما يطوف متنقلاً بين أطياف في رأسه، مكابداً للإجابة عن السؤال الذي يقضّ مضجعه.

الصور الفوتوغرافية لا تكذب، وفي الوقت نفسه لا تروي القصة الكاملة. فهي مجرّد سجلّ عن مرور الزمن، الدليل البرّاني على ذلك. فعلى سبيل المثال يصعب تحديد سنّ الشيخ اعتماداً على الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود والتي تعلوها طبقة من الضباب. الحقيقة الوحيدة التي يمكن ذكرها بشيء من التيقّن هي أنه ليس شابّاً، غير أن كلمة "شيخ" هي تعبير فضفاض ويمكن استعمالها لوصف الشخص في أيّ عمر ما بين الستين والمئة. وبالتالي سنتخلى من الآن فصاعداً عن كنية "الشيخ" ونشير إلى الرجل في الحجرة باسم "السيد بلانك"، ولن نحتاج إلى اسم أول.

أخيراً ينهض السيد بلانك، يتريّث برهة ليحافظ على توازنه، ثم يجرّ قدميه إلى المنضدة في الطرف المقابل من الحجرة. يشعر بالتعب وكأنه أفاق للتوّ من نوم قصير متقطّع، وصوت انجرار خفّيه على الأرض الخشبية العارية، يذكره بصوت ورق السّنفرة. بعيداً، خارج هذه الحجرة والمبنى الذي يضمّها، يسمع زعيق طير بعيد–ربما كان غراباً، ربما نورساً، لا يستطيع أن يعرف أيّهما على وجه اليقين.

يجلس السيد بلانك على الكرسي وراء المنضدة. يتبيّن له كرسيّ مريح للغاية، فهو مصنوع من الجلد البنيّ الناعم وله ذراعان عريضان يتسعان لمرفقيه وذراعيه، ناهيك عن آلية خفيّة من النوابض تتيح له أن يميل الكرسي إلى الأمام والخلف متى رغب في ذلك، وهو بالضبط ما يشرع بالقيام به لحظة استوائه جالساً على الكرسيّ. فهذا التأرجح له أثر مسكّن في نفسه، وبينما يواصل السيد بلانك الاستمتاع بهذه الهزهزة السارّة، يتذكّر الحصان الهزّاز الذي كان يجلس عليه في غرفة نومه حين كان ما زال طفلاً، ثم يبدأ بعيش بعض الرحلات المتخيلة التي اعتاد القيام بها على صهوة ذلك الجواد، والذي كان اسمه "وايتي" والذي لم يكن، بحسب السيد بلانك صغيراً، شيئاً مصنوعاً من الخشب ومزوّقاً بالطلاء الأبيض، بل كائناً حيّاً، جواداً بكلّ معنى الكلمة.

بعد هذه النزهة الوجيزة إلى فتوّته المبكرة، يتصاعد الألم في حلق السيد بلانك مجدداً. يقول بصوت مسموع ملؤه السأم: عليّ ألا أسمح بحدوث ذلك. ثم يميل إلى الأمام لكي يتفحّص أكداس الورق والصور الفوتوغرافية المكوّمة فوق بعضها على سطح المنضدة المصنوعة من خشب الماهاغوني. يحمل الصور أولاً، ثلاث دزينات من البورتريهات بالأبيض والأسود قياس ثمانية بعشرة إنشات، تمثّل رجالاً ونسوة من مختلف الأعمار والأعراق. الصورة في الأعلى هي صورة شابة في مطلع العشرينات. شعرها الداكن قصّ قصيراً، وثمة نظرة حادة مضطربة في عينيها الشاخصتين نحو العدسة. تقف في الخارج في مدينة ما، ربما كانت مدينة إيطالية أو فرنسية، لأنها تقف أمام كنيسة من القرون الوسطى، وتضع على رأسها وشاحاً وترتدي معطفاً، فلن نجانب الصواب إذا افترضنا أن الصور التقطت في الشتاء. يحملق السيد بلانك بعينيّ الشابة محاولاً تذكّر من تكون. وبعد زهاء عشرين ثانية، يسمع نفسه هامساً كلمة واحدة: آنا. إحساس بالحبّ الطاغي يجتاح كيانه. ويتساءل ما إذا كانت آنا زوجته في ماضي الأيام، أو لعلها تكون ابنته. بعد هنيهة واحدة من هذه الأفكار، يجتاحه شعور عارم بالذنب، ويدرك أن آنا ميتة. بل أسوأ من ذلك، يراوده حدسٌ بأنه المسؤول عن موتها. وربما– يحدّث نفسه– يكون هو من قتلها.

يئنّ السيد بلانك ألماً. النظر إلى الصور الفوتوغرافية يفوق احتماله، فيدفعها جانباً ويحوّل اهتمامه نحو الورق. ثمة أربع كدسات بالمجمل، كل منها بارتفاع نحو ستة إنشات. وبلا سبب محدّد بالنسبة إليه، يمدّ يده إلى أعلى الكدسة الأبعد نحو اليسار. الكلمات المكتوبة بخط اليد، وبحروف منفصلة شبيهة بتلك التي على قصاصات الأشرطة البيض، على النحو التالي:

بالنظر إليها من الفضاء البعيد، لا تبدو الأرض أكثر من نقطة غبار. تذكّر هذا في المرة التالية التي تكتب فيها كلمة: "إنسانية".

من سيماء الاشمئزاز الذي يعلو وجهه وهو يفحص بعينيه هذه العبارات، يمكننا القول بشيء من اليقين إن السيد بلانك فقد المقدرة على القراءة. لكنْ يظلّ السؤال قائماً: من هو كاتب هذه الأسطر؟

يمدّ السيد بلانك يده نحو الصفحة التالية في الكدسة ويكتشف أنها مخطوط مطبوع أو ما شابه. الفقرة الأولى هي:

لحظة بدأت بسرد قصتي، صرعوني أرضاً وركلونا رأسي بالأقدام. وحينما عاودت الوقوف لكي أتكلم ثانية، لكمني أحدهم على فمي، ثم لكمني آخر على معدتي. تهاويت أرضاً. تمكنت من النهوض ثانية، ولكن ما إن شرعت بسرد قصتي للمرة الثالثة، حتى رماني الكولونيل نحو الحائط فأغمي عليّ.

هناك فقرتان أخريان على الصفحة، ولكن قبل أن يتمكن السيد بلانك من قراءة الفقرة الثانية، يرنّ الهاتف. إنه هاتف أسود ذو قرص دوار يعود إلى نهاية الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الماضي، وبما أنه موضوع على منضدة السرير، فإن السيد بلانك يضطر إلى النهوض عن المقعد الجلدي الوثير وجرّ قدميه إلى الطرف المقابل من الحجرة. يرفع السماعة عند الرنّة الرابعة.

مرحباً، يقول السيد بلانك.

سيد بلانك؟ يسأل الصوت على الطرف الآخر.

إذا كان هذا ما تقوله.

أأنت واثق من ذلك؟ لا يمكنني القيام بأيّة مجازفات.

لست واثقاً من شيء. إذا أردت مناداتي بالسيد بلانك فيسرني الإجابة على هذا الاسم. مع من أتكلّم؟

جايمس.

لا أعرف أحداً يدعى جايمس.

جايمس ب. فلود.

أنعش ذاكرتي.

جئت لزيارتك أمس. أمضينا ساعتين معاً.

آه. الشرطيّ.

الشرطيّ السابق.

صحيح. الشرطي السابق. بمَ أستطيع خدمتك؟

أريد مقابلتك ثانية.

ألم تكن محادثة واحدة كافية؟

ليس فعلاً. أعرف أنني مجرد شخصية ثانوية في هذه المسألة، ولكنْ قيل لي إنه يسمح لي مقابلتك مرتين.

أنت تقول لي إنه لا خيار لي.

هذا ما أخشاه. لكننا لسنا مضطرين للتحدّث في الغرفة إنْ لم تكن ترغب في ذلك. يمكننا الخروج والجلوس في الحديقة إن كنتَ تفضّل.

ليس لديّ ما أرتديه. إنني أقف هنا مرتدياً المنامة ومنتعلاً الخفّين.

انظر في الخزانة. لديك كلّ الملابس التي تحتاج إليها.

آه. الخزانة. شكراً لك.

أتناولت فطورك سيد بلانك؟

لا أظنّ ذلك. أمسموح لي بتناول الطعام؟

ثلاث وجبات يومياً. ما زال الوقت مبكراً، لكنْ من المفترض أن تصل آنا عمّا قريب.

آنا؟ أقلت آنا؟

إنها الشخص المكلفة العناية بك.

حسبتها ميتة.

بالكاد.

ربما كانت آنا أخرى.

أشك في ذلك. من بين كل الضالعين بهذه القصة، هي الوحيدة التي تقف كلياً إلى جانبك.

والآخرون؟

فلنكتف بالقول إنه ثمة الكثير من الاستياء، ولنترك المسألة عند هذا الحدّ.