مهدي عامل ومسألة العلاقة والوجود

2017-05-13 07:00:00

مهدي عامل ومسألة العلاقة والوجود
جدارية لمهدي عامل في بيروت

كنت قد كتبت مقالاً يتعلق بمسألة العلاقة والوجود من منظور الماركسية في مجلة رمان، وكان يتضمن إشارة إلى مهدي عامل تنطلق من كيفية أنه يغلِّب العلاقة على الوجود، أثارت رداً من قبل خالد فارس، نشر في رمان كذلك. والرد محاولة لتوضيح منظور مهدي عامل، حيث ينفي ما أصدرته من حكم على مهدي موضحاً كيف ينظر مهدي إلى الأمر، وما علاقة البنية بالعلاقة لديه. ولا شك في أن الأمر يحتاج إلى نقاش، وأظن أن هذا المستوى من النقاش مهم وضروري لتحديد الأسس المنهجية التي تحكم المنظور الماركسي، وهي مسألة جرى تجاهلها، فلم تحظَ بنقاش وافٍ، حتى بالتفاعل مع ما كتب مهدي عامل، وهو مهم ويطرح مشكلات تحتاج إلى نقاش معمق، لأن ضبط المنهجية يسمح بفهم علمي للواقع. لكن مع الأسف لم يظهر أن هناك قدرات تستطيع محاورة المستوى الذي كتب مهدي به (سوى ربما قليلون هم من تصدى لذلك، مثل فيصل دراج).

ولأنني لم أكن في مجال نقاش مهدي عامل في النص سالف الذكر، فقد أشرت إليه وإلى الماركسية السوفيتية كتمثيل على الإشكالية التي أرى أنها قائمة. ولا شك في أنني أرى أن مهدي يستحق أكثر من ذلك. في كل الأحوال يمكن أن يكون الدخول في نقاش مع ما طرح خالد فارس مدخلاً لتوسيع النقاش حول منظور مهدي. ولا شك في أنه استطاع أن يطرح في رده جوهر المنظور الذي يؤسس كلية منظور مهدي، رغم أن ردي لا يعفي من أن أعود إلى مهدي مباشرة. وبالتالي عليّ العودة لقراءة مهدي، وفتح النقاش حول ما طرح، فهو يطرح في مستوى فلسفي عالٍ ليس موجوداً لدى التيارات الشيوعية والماركسية، وربما كان هذا أحد أسباب "التجاهل"، حيث أنها كانت "فقيرة" في التجريد بينما كان لدى مهدي "تخمة" منه.

في كل الأحوال، أرى في الرد إشكاليتين منهجيتين، وأظن أنهما قائمتان لدى مهدي. الإشكالية الأولة تتمثل في عدم التمييز بين الوجود والفهم المادي والمثالي لهذا الوجود. والإشكالية الثانية تتمثل في عدم التمييز بين الأساس والصيرورة، بين ما يحدِّد كلية المنظور، وحركة الواقع الديالكتيكية. وسنلمس كيف فرضت هاتين الإشكاليتين تأسيس جوهر منظور مهدي، وأوصلتا إلى فهم مثالي واضح.

1) الوجود وفهم الوجود

في الرد خلط واضح بين الوجود وفهم هذا الوجود ماركسياً، حيث يُضمِّن الوجود كل قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والسياسة والثقافة. ويشير إلى أن فهم المجتمع يتطلب فهم طبيعة التناقضات، التي لا تقتصر على الاقتصاد، بل يجب فهم كل التناقضات المجتمعية بما فيها السياسية والثقافية. ومن ثم لا يجوز تجزئة المادي وحصره بالاقتصادي، وبالتالي فصله عن السياسي والثقافي.

بمعنى أن الوجود يشمل ليس الاقتصاد (قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) بل يشمل السياسة والثقافة. الوجود يشمل كل ذلك، لا شك في الأمر، فهو يشتمل المستويات التي أشارت الماركسية إليها، أي المستوى الاقتصادي والمستوى الطبقي والمستوى السياسي والأيديولوجي. هذه هي كلية المجتمع، لكن هذا أمر يختلف عن تحديد طبيعة الفهم الذي ننطلق منه ونحن نبحث في هذا الوجود. فنحن نتحدث عن الوجود كوجود، وعن فهم هذا الوجود، ولا نشير إلى الوجود مقابل ما فوق الوجود (الميتافيزيقا). هناك كان الوجود بمجمله خاضع لما هو خارج الوجود (الله)، لكننا غادرنا هذا المنطق منذ زمن طويل، وبتنا نبحث عن فهم الوجود من داخله.

 فالفكر المثالي يقرّ بالوجود المادي، لكنه يعتبر أنه من صنع العقل (أو كما أسماها هيغل، من صنع الفكرة). هنا الأفكار هي أساس الوجود، هي التي تحدِّ الوجود المادي ذاته. وفي هذه النقطة بالذات ماركس قام بقلب جدل هيغل، حيث أصبح "الوجود المادي" هو الأساس الذي تقوم عليه السياسة والأفكار، هو محدِّد "البنية الفوقية"، وأساساً المؤسس لنشوء "علاقات الإنتاج"، و"يؤلف مجموع هذه العلاقات الإنتاجية البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة المشخصة التي تقوم فوقها بنية فوقية حقوقية وسياسية، والتي تقابلها أشكال معينة من الوعي الاجتماعي" (الإسهام ص25). ويظهر هنا أن الوجود المادي الذي يشكّل الأساس في كلية هذه البنية هو "قواهم الإنتاجية المادية" (ص25). ويشرح إنجلز الأمر على الشكل التالي: "إن الإنتاج الاقتصادي والبناء الاجتماعي الذي ينشأ بالضرورة عنه، يؤلفان في كل عهد تاريخي أساس التاريخ السياسي والفكري لهذا العهد" (البيان ص11).

بالتالي إذا كان الوجود يشمل كلية المجتمع، بما في ذلك قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والطبقات والدولة والأيديولوجية، وكذلك اللغة والثقافة الشعبية، فإن هذا لا يعني تساوي تأثير كل منها، بل تعيد الماركسية (وهذا هو أساس الفهم المادي الذي تطرحه) إلى أن الاقتصاد هو العنصر المحدِّد، وإن كان إنجلز قد احتاج لتوضيح أن ذلك لا يعني تحويل الماركسية إلى اقتصادوية، بل أن الاقتصاد هو المحدِّد "في التحليل الأخير". وربما ظلت هذه الفقرة مبهمة رغم أنها تؤكد أن الأساس العام هو الاقتصاد، لكنه ليس "الوحيد" إلا في التحليل الأخير. وهو ما سوف ألمسه في الفقرة الثانية، حيث أتناول علاقة الأساس بالصيرورة. 

إذن، يمكن التحديد بأن الفهم المادي يفرض الإنطلاق في التحديد من الأساس الاقتصادي. لكن ذلك لا يعني أنه العنصر الوحيد القائم، هو العنصر المحدِّد في ظل وجود عدد من العناصر الأخرى التي بالضرورة لها تأثير في الصيرورة. بالتالي فإن تحديد الأساس لا يعني "تجزئة المادي"، وحصره في الاقتصادي ومن ثم فصله عن السياسي والثقافي كما يرد في الرد ككشف لخطل التأكيد على الأساس الاقتصادي.  ليطرح سؤال مثل: "هل يوجد وسيلة إنتاج في أي تشكيلة ليس لها علاقات إنتاج؟"، وبالتالي "كيف يمكن الحديث عن علاقات إنتاج دون وسيلة إنتاج؟"

هذا كمن يسألة: هل يوجد إنسان بدون اسم؟ بالتأكيد لا يوجد إنسان بدون إسم، لكن ورغم أن الأسماء موجودة في اللغة، إلا أن هذا الشخص بالتحديد قد بات له اسم بعد أن وُلد (أو بعد أن تشكّل). بمعنى أن الأمر لا يتعلق بوجود أو عدم وجود وسيلة إنتاج لها علاقات إنتاج، حيث بالضرورة فإن وجود وسيلة الإنتاج وقوة العمل يؤسس بالضرورة علاقة إنتاج. وفي هذا الأمر يكمن بالضبط التمييز بين الفهم المادي والفهم المثالي، حيث الأسبقية لمن؟ هل كان ممكناً أن يوجد العامل وأن يوجد البرجوازي قبل اكتشاف المصنع؟ أليس وجود المصنع هو الذي فرض على مالك المال أن يتحوّل إلى برجوازي من خلال التظيف فيه، وأن المصنع ذاته هو الذي يحتاج إلى العامل؟ بالتالي فقد وُجد البرجوازي ووُجد العامل بفعل وجود المصنع بالأساس، ومن ثم قامت علاقة الإنتاج، والعلاقة الطبقية، وإعيد تشكيل الدولة والأفكار بما يطابق مصالح الطبقة الجديدة: البرجوازية.

وللأسف لم يدقق خالد بالنص الذي استشهد هو به، وهو لماركس، حيث يشير ماركس إلى أنه "في الرأسمالية، حيث تم انشاء مصانع وماكينات إنتاج كبيرة (وسيلة الإنتاج)" والتي على ضوئها قامت "علاقات بين العمل المأجور ورأسمال". ولا شك في أن هذا هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية (الطبقية) ومجمل البنية الفوقية.

كل ذلك لا يعني تجزئة "المادي" بل يعني تحديد مادية الفهم، حيث كما أشرت إن فرقاً يكمن بين فهم الوجود الذي يضم "السياسي والثقافي" و حيث لا إمكانية لتحديد "أحدهما دون الآخر"، وبين الفهم المادي الذي يشير إلى أساس وجود كلية البنية بمستوياتها. فهي كلها موجودة في الواقع، هي "بنية مادية" إذا شئت، لكن هناك "أسبقية"، وأساس تحديد. والفهم المادي (الماركسي) ينطلق من "قوى الإنتاج". لهذا يصبح كل حديث عن أنه "لا يصلح أن نفترض أسبقية أي منهما"، وعن أنها تنشأ "بالتوازي"، وهو نشوء "تبادلي تعاوني"، هو تجاوز للفهم المادي، ووقوع في فهم مثالي، سيظهر حين نلمس النتائج التي يتوصل إليها.

لا بدّ إذن، من التمييز الشديد بين الوجود الذي يعني كلية الوجود البشري (بما في ذلك الطبيعة)، وبين المنظور الفلسفي لفهم هذا الوجود. دون ذلك ينتفي معنى المادي في المنهجية الماركسية، ونعود إلى ديالكتيك هيغل، لكن مجسداً هذه المرة بالعلاقة بدل الفكرة.

2) أساس الوجود وصيرورة الوجود

طبعاً لا بدّ أن نشير إلى أن خالد (كما مهدي) يستخدم مصطلح الممارسة بدل الصيرورة، وسنشير إلى إشكالية ذلك لاحقاً.  ما يبدو واضحاً هنا هو القفز عن "التحديد الأولي" للوجود، وهو ما تناولته للتو، للبحث في الممارسة، في التناقضات، في الترابط بين البنى، وفي التأثير المتبادل بينها. يقول "إن نشوء وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج هي سيرورة ديالكتيكية مترابطة، وصيرورة لنمط الإنتاج". "هي عملية تزامنية ديالكتيكية. قوى الإنتاج هي بنية في المجتمع، وعلاقات الإنتاج هي الممارسة الاقتصادية للإنتاج والاستهلاك والتوزيع. العلاقة بين الاثنين هي نمط الإنتاج. في نمط الإنتاج قوى الإنتاج – البنية تمارس سلطتها على علاقات الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي يمارس منها الإنسان – الفرد أفعال اقتصادية تؤثر على البنية. ينجم عن ذلك إنتاج أو إعادة إنتاج للبنية وللعلاقة".  كذلك في السياسة والثقافة "فهناك دوماً بنية وعلاقة في وحدة ديالكتيكية. لهذا فالحديث عن البنية المجتمعية وعلاقات السيطرة يطرح المسألة من منظور مستوياتها، وليس من نزعاتها الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية المنفصلة إرادوياً".

ويؤكد على أن نمط الإنتاج عند ماركس "يعني الترابط الديالكتيكي بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج"، وأن نمط الإنتاج "هو الوحدة الديالكتيكية بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج". وهذا يشمل السياسي والثقافي اللذين هما "وجود مادي" و"بنية وعلاقة".

طبعاً لا شك في "الترابط الديالكتيكي" بين كل هذه المستويات، لكن ذلك يخص الصيرورة وليس التحديد الأولي لأساس الفهم، وبالتالي لدور الاقتصاد. حيث على "أرضية" الاقتصاد يجري كل هذا التفاعل والترابط الديالكتيكي. وإذا عدنا لمصطلح "المحدِّد" نشير إلى أنه في الصيرورة، وضمن هذا الترابط الديالكتيكي، وفي إطار التناقض الكامن، يكون لمجمل المستويات إمكانية التحديد. حيث يمكن لانهيار اقتصادي أن يدمر البنية بكليتها، كما أنه يمكن للحروب أن تفضي إلى دمار البنية، أو نهوضها. كما أن صراع الطبقات يمكن أن يفضي إلى تجاوز النمط أو انهياره. حيث أنه على أرضية الاقتصاد ينشأ التناقض بين الطبقات، الذي يصبح الانتقال إلى الأيديولوجي/ السياسي مسألة حاسمة في تحديد الحسم لمصلحة الطبقات المفقرة. هنا تصبح الأولوية للسياسي في الصراع، وفي تحديد الانتقال إلى نمط آخر، حيث لا بدّ من إسقاط الطبقة المسيطرة والاستيلاء على السلطة. وهذا يفترض تبلور الطبقة المفقرة في حزب، ورؤية وبرنامج وإستراتيجية، لكي يكون ممكناً تحقيق التراكم في بنية هذه الطبقة، وتحوّلها النوعي إلى طبقة/ حزب.

بالتالي حين نتحدث عن التناقض نتحدث بالضبط عن الصيرورة، وبالتالي تفاقم التناقضات في المستويات المتعددة وفيما بينها ضمن الترابط الديالكتيكي الذي يحكمها، وصولاً إلى تفجّر الصراع. هنا يتخذ المنظور الديالكتيكي فاعليته، حيث لا بد من تصاعد التراكم في هذه المستويات، وبالتالي تصاعد التناقضات فيها وفيما بينها، وصولاً إلى لحظة التفجر. وحين لا يحدث التراكم في مستوى تصاب الصيرورة في "عطب"، لهذا لا بد من فهم مجمل المستويات، وفهم التناقض في كل منها وفيما بين كل منها. هنا يكون عنصر التحديد متغيراً، حيث يمكن للتراكم الاقتصادي أن يشلّ الصراع الطبقي، وكذلك يمكن لتطور التراكم في الاحتقان الاجتماعي أن يفضي إلى انفجار دون أن يحقق التغيير، وأيضاً يمكن أن يفضي تبلور "الطبقة/ الحزب" إلى الاستيلاء على السلطة وتغيير النمط. لكن سنلمس بأن الأساس الاقتصادي يبقى هو الأرضية التي تسمح بذلك في كل الأحوال. بمعنى أن ميل الرأسمالية إلى النهب لتحقيق التراكم الأعلى سيفرض خفض الأجور، والتخلي عن حقوق العمال، وهي أرضية لنشوء الوعي الثوري، تؤسس لإمكانية تبلور "الطبقة/ الحزب". لكن حين تستطيع البرجوازية تحسين وضع العمال والطبقة الوسطى نتيجة قدرتها الاقتصادية (التراكم المالي) لا يعود للسياسة/ الفكر دور في تصعيد التراكم ضد البرجوازية، حيث تميل الطبقة إلى التكيّف مع البرجوازية. وهو أمر لا يؤدي أصلاً إلى نشوء "طبقة/ حزب" معني بالتغيير.

في هذه المسألة هناك مستوى آخر من الاستشكال، يقع مهدي فيه، وهو يتمثل في فهم التكتيك وتحديد الأولويات في الصراع الواقعي، اي تحديد أي مستوى من مستويات البنية يحظى في الأولوية في التناقض، أي المستوى الاقتصادي (المطلبي)، أو الاجتماعي، أو الأيديولوجي أو السياسي. هنا بالتحديد تأتي فكرة الستوى المحدِّد، "فالحديث عن البنية المجتمعية وعلاقات السيطرة يطرح المسألة من منظور مستوياتها" وليس عبر تحديد الأساس الاقتصادي. بمعنى أن عنصر التحديد متغيّر بتغيّر "علاقات السيطرة" في البنية المجتمعية، هل تتحدد في الاقتصاد أو في السياسة أو في الثقافة؟ وهذا تحديد "ذاتي" لأمر موضوعي، من أجل تدخل الإرادة كي يتطور الصراع الطبقي. وبالتالي نحن هنا في مجال الصيرورة التي تفترض تغير مستويات التحديد وفق تغير "علاقات السيطرة".

 في الغالب يحلّ هذا المنظور الذي يطرحه مهدي محل منظور التحديد الأساسي لعنصر التأثير. وهو الفارق بين الفهم المادي لعناصر التأثير حيث يكون الاقتصاد هو هذا العنصر، وبين أهمية عنصر من هذه العناصر في الصيرورة ذاتها بعد تحديد العنصر المحدِّد الأساس، حيث يمكن لأي مستوى أن يكون هو الحدِّد لحركة الواقع (الصيرورة).

3) منظور مثالي

إذن، ظهر لنا أن خالد ينطلق من أن "الأساس النشوئي" لمجمل المستويات يقوم على "التوازي"، وهو ما يناقض الفهم المادي الذي يبدأ من الوجود المادي، أي الاقتصادي. حيث بدأت حياة البشر من البحث عن العيش، قبل أن تظهر اللغة وينشأ الفكر وتبرز التناقضات الطبقية. وظل هذا "الأساس النشوئي" هو المحدِّد. وبالتالي فإن الميل لتأسيس تساوي في "الأساس النشوئي" بين الاقتصاد والفكر والسياسة يفرض حتماً الوقوع في المثالية. وهو نتيجة ذلك يصل إلى أن يبدأ من الصيرورة (أو الممارسة، أو التناقض كما ترد عند مهدي) وليس من الأساس المحدِّد لها (أي الاقتصاد) باعتبار أنها المحدِّد، لهذا يصبح المحدِّد متغيّر وفق ما يحدده التناقض. وهو هنا يخلط الذاتي في الموضوعي، حيث أن الصيرورة حركة موضوعية تقوم على أساسها الاقتصادي، بينما يصبح تحديد العنصر المحدِّد خاضع لرؤية الواقع في لحظة ما، ولمس أولوية التناقض فيه لتحديد العنصر الجوهري الذي يجب التركيز عليه في الصيرورة لكي تتطور. وهنا يظهر دور العنصر الذاتي، أي المفكر أو الحزب. وبهذا يحلّ الذاتي محل الموضوعي.

لهذا سنلمس كيف أن هذا المنطق يفضي إلى فهم مثالي، بعد أن كان قد تحرَّر من تحديد الاقتصاد كـ "عنصر محدِّد". فهو يشير إلى أن "علاقات المجتمع في عملية الإنتاج أساسها طبقي"، لهذا فإن "فهم هذا المجتمع يتطلب فهم طبيعة هذه التناقضات". هنا يكون فهم التناقضات الطبقية هو أساس فهم المجتمع، رغم أن هذه التناقضات قائمة على أساس التكوين الاقتصادي. ورغم أنه يقول ذلك بعد الاستشهاد بنص ماركس سالف الذكر، والمتعلق بنشوء الرأسمالية وكيف أن نشوء الصناعة أسَّس لواقع طبقي جديد، وكأن ما قاله هو استنتاج من نص ماركس، فقد قام بعملية قلب كاملة. فإضافة إلى أنه انتقل من أساس التحديد المتعلق بالفهم المادي، والذي يشير نص ماركس إليه بدقة، وبين الصراع الطبقي، وبالتالي الصيرورة.  إضافة إلى ذلك فقد قلب الفهم المادي برمته، حيث بات أساس "علاقات المجتمع في عملية الإنتاج" طبقي. بينما تقول الماركسية بأن أساس وجود الطبقات وصراعها هو "عملية الإنتاج". وكما شرحت قبلاً، فإن وجود المصنع هو الذي أوجد العلاقة بين الرأسمال والعمل، بين البرجوازي والبروليتاري، هذه العلاقة القائمة على التناقض، حيث أن هذا التناقض هو أساس الصيرورة في النمط الرأسمالي. وبهذا فنحن ننتقل إلى مستوى آخر من التحليل كما أشرت قبلاً.

وسنلمس هذا القلب مرة أخرى في نص آخر، حيث يقول "وعلاقات الإنتاج تعتمد على قوى الإنتاج" وهذا صحيح تماماً، حيث أسبقية قوى الإنتاج. لكنه يكمل أنه "بناءً على علاقات الإنتاج تتطور قوى الإنتاج. في علاقات الإنتاج يتم تحديد كيفية عمل قوى الإنتاج، كيفية تمثّل وسيلة الإنتاج، توزيعها، تملكها وتنظيمها". وإذا كانت العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المجتمع هي "مزدوجة" فالأمر هنا معاكس، حيث أنه بتطور قوى الإنتاج تتطور علاقات الإنتاج. لهذا فإن تطور التكنولوجيا فرض تخفيق قوة العمل البشري، وإن انهيار الصناعة يعني نهاية البروليتاريا، بينما حين تصبح هناك ندرة في اليد العاملة يجري البحث عن مسالك أخرى (تطور تكنولوجي أو استجلاب مهاجرين). وبالتالي فرغم الرابط اللصيق بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج (علاقات العمل وليس الصراع الطبقي بعد)، فإن الأسبقية لقوى الإنتاج.

وربما كان ما يشي بالمثالية هو التحديد بأن "السياسي والثقافي هو وجود مادي أيضاً"، ولا شك أنني أعود هنا إلى البدء، حيث التمييز بين الوجود وفهم هذا الوجود. فالوجود مادي بمعنى ما إزاء الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة، أو ما فوق الطبيعة)، وهو المنظور السابق للفكر الحديث الذي كان ينحكم لفكرة الله. وهنا لا بدّ من التمييز بين الميتافيزيقا والمثالية لأنهما مختلفين، حيث أن الميتافيزيقا تعزو الوجود إلى خالق، وتعزو أفعاله لهذا الخالق، ولهذا فإن العالم مسيّر. بينما تنطلق المثالية من الفكرة التي ينتجها البشر، أي من تحديد أن الأفكار هي التي تصنع الواقع. وهنا نحن محدَّدون في الوجود ذاته. ولا شك أن البشر ووسائل الإنتاج وقوى افنتاج والطبقات والأفكار والدولة قائمة في هذا الوجود. هل يعني وجودها أنه وجود مادي؟ ربما نقول ذلك، لكن هذا لا يتعلق بفهم الوجود بل يتعلق بإقرار أولي بالوجود "المادي". لكن الخلاف على "العنصر المحدِّد" لهذا الوجود "المادي"، هل هو الأفكار أو هو الاقتصاد؟

أشرت لمنظور الماركسية، وأشير هنا إلى أن خالد (كما مهدي) ومن خلال الخلط بين التحديد الأساسي والصيرورة يساوي بين كل المستويات في التأثير. وبهذا ينزع نحو المثالية بالتأكيد. وما أشرت إليه قبل قليل هو التوضيح لذلك، حيث باتت العلاقة (الأساس الطبقي أو علاقات الإنتاج) هي الأساس المحدِّد. وهذا هو نقدي لمهدي أصلاً، وما سوف أتناوله تالياً من خلال نقاش النصوص التي اعتمدها خالد لتوضيح وجهة نظر مهدي، والتي لا تختلف عما ذكر هو.

4) مهدي كما يشرحه خالد

يبدأ خالد بسؤال "هل التحدي في الانطلاق أم في الأسبقية أم في الفصل؟"، أو "هل منطق مهدي عامل يؤول إلى اللاديالكتيك أو يفصل بين قوى الإنتاج وعرقات الإنتاج لكي يحدد نمط الإنتاج؟"

ربما في الفقرات السابقة أوضحت نقطة نقدي، حيث لم أشرْ إلى الديالكتيك، لأنني مقتنع ‘ن العلاقة بين المستويات وفي كل مستوى هي علاقة ديالكتيكية. ولم أشر إلى الفصل بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لأنني أعرف الترابط بينها. ولم يكن الأمر يتعلق بتحديد نمط الإنتاج. ولا وصلت إلى البحث في "نمط الإنتاج الكولونيالي"، فقد حضّرت ذاتي مرتين لنقد كتاب "مقدمات نظرية" لكن صراعات الواقع لم تسعفني. ولعل رد خالد فارس يسعف في تحديد بعض النقد، رغم أنني أحترس هنا، لأنني أعرف أن "مريدي" مهدي في الغالب يُخْضعونه لمنظور "ذاتي"، لهذا لا يتوافقون على ما يقصد. وهو الأمر الذي جعلني أضع عنوان "مهدي كما يشرحه خالد". مع تأكيدي، وفق ما فهمت من مهدي، أنني ربما المرة الأولى التي أجد تحديداً دقيقاً لأساس منظور مهدي.

ما قلته قبلاً في النقد هو أنني أرى أن مهدي يظهر كمثالي بالضبط لأنه ينطلق من العلاقة (علاقات الإنتاج، أو العلاقات الاجتماعية). وفي النص السابق (العلاقة والوجود: حول الفهم المادي والفهم المثالي) تحليل للإشكالية هذه. في الفقرات السابقة حاولت أن أحدِّد مكمن الإشكالية، أولاً في التمييز بين الوجود وفهم الوجود، وثانياً في التمييز بين أساس التحديد والصيرورة، لأشير إلى الطابع المثالي الظاهر في قلب العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ومن ثم في مجمل البنية (العلاقات الطبقية، السياسي والثقافي). سأوضح تالياً الإشكالية بناءً على النصوص المعتمدة لمهدي، وللسياق الذي وضع خالد هذه النصوص فيه.

يشير خالد إلى أن مهدي ينطلق من "سؤال: ما هي الممارسة المركزية في نمط الإنتاج الرأسمالي عموماً؟"، ويقول بأن "مسألة الممارسة هي عنده (مهدي) الواقع والوجود، لأنه لا توجد ممارسة خارج الوجود". بالتأكيد لا توجد ممارسة "خارج الوجود"، لكننا نختلف في فهم الوجود، ولقد أوضحت ذلك قبلاً، حيث أن المثالي ينطلق من الوجود كما المادي. وربما هنا يتوضح أكثر إشكال عدم التمييز بين الميتافيزيقا والمثالية، ليصبح الفهم المثالي "مادياً" مقابل الميتافيزيقا (ولقد تناولت هذا الأمر في نقدي للدكتور طيب تيزيني، كتاب "مناقشة لفكر ملتبس، المادية والمثالية في الماركسية")، لأن هذا الفهم هو جزء من الوجود. ولهذا لن يكون فهم مهدي مادياً لأن الممارسة عنده هي "الواقع والوجود".

وفي الماركسية ترتبط الممارسة بالفعل الذاتي (للحزب)، وبالتالي منظوره وبرنامجه ودوره في الصراع الطبقي. لكن يبدو الخلط هنا واضح بين الذاتي والموضوعي، بين ممارسة الحزب للصراع الطبقي والصراع الطبقي كفعل موضوعي. لهذا يكمل خالد حول منطلق مهدي: "ما هي الممارسة الطبقية الاجتماعية: الاقتصادية – السياسية – الثقافية؟". هنا يُطرح هذا السؤال على الحزب، ولا يتعلق بتحليل الواقع الموضوعي، الذي يكون تحليله هو المقدمة للإجابة على هذا السؤال.

لكن أعتقد بأن "نقطة الانطلاق" عند مهدي هي مفهوم التناقض وليس الممارسة، التي هي استتباع لذاك المفهوم الذي خصّ الجزء الأول من كتاب مقدمات نظرية به (مهدي عامل، في التناقض). ومسالأة التناقض كانت الموضة التي انتشرت في فرنسا (وربما في أوروبا) في ستينات القرن العشرين، بتأثير من ماو تسي تونغ، على ضوء تطور وضع الثورة الصينية والانتقال إلى الثورة الثقافية. لكن المفهوم تحوّل إلى "تجريد فارغ" على يد لوي ألتوسير، الذي كان مهدي متأثراً به. والتناقض عند مهدي يحيل إلى الصراع الطبقي، وكما يشير خالد "فنقطة الإنطلاق عند عامل هي الممارسة، وهذه الممارسة هي طبقية لأنها علاقات رأسمالية، ولكنها أيضاً ليست موجودة خارج البنية، فهي حركة البنية، أو منطقها الداخلي". ورغم أن التناقض يشمل بنية الاقتصاد، والفكر والسياسة، وليس فقط الطبقات، إلا أنه يتكثف كممارسة في صراع الطبقات. وإذا أخذنا معنى البنية بأنه بنية الوجود، فإن الصراع الطبقي هو "في البنية" بالتأكيد، لكن منظق البنية الداخلي ليس الممارسة، وليس التناقض فقط، بل كلية الصيرورة التي يظهر التناقض كعنصر فيها. وهنا يقع فهم الديالكتيك، حيث أن الصيرورة هي شكل التمظهر الواقعي للديالكتيك المادي، أو أن الديالكتيك المادي هو التجريد الأعلى للصيرورة. هنا للممارسة موقع من خلاف الفعل الذاتي لطبقة منظمة، وللتناقض موقع كأحد عناصر الديالكتيك، الذي يتخذ شكل الصراع الطبقي كصراع في المجتمع.

ربما لتوضيح الإشكالية يمكن أن نأخذ النص التالي لمهدي كما ورد في رد خالد، الذي كان يشير إلى أن الهمّ الأكبر لمهدي كان "كيف يمكن أن نفهم وندرك ونُظْهر منطق البنية الكولونيالية"، ليكمل بالنص التالي:

".....فى اطار الصراع الطبقى الذى يجد فى التناقض الاقتصادى المحدد أساسه المادى, إلى مختلف التناقضات الاجتماعية, ...... إن تطور التناقضات الاجتماعية , فى ضوء الحركة المحورية فى تكون البنية المجتمعية, يتحدد كتطور للممارسات الطبقية نفسها للصراع الطبقى, حتى التناقض الاقتصادى نفسه يظهر فى تطوره كتطور للممارسة الاقتصادية للصراع الطبقى"

حتى ضمن الابتسار الذي يحتويه النص سنلحظ بأن مهدي يتحدث عن التناقضات في إطار الصيرورة، ولا يحدِّد هنا الأساس الذي يقوم عليه الفهم المادي. حيث يتجاهل تمييز مهدي بين علاقة التحدد وعلاقة السيطرة، الأولى تتعلق بالاقتصاد، والثانية بالسياسة بحيث يكون تطور التناقضات الاجتماعية "كتظور للممارسة الطبقية نفسها في الصراع الطبقي". وربما يكون خطأ مهدي هنا هو أنه يتحدث ليس عن الاقتصاد كمحدِّد بل عن "التناقض الاقتصادي"، وهو هنا يرتفع من الوجود المادي (وسائل الإنتاج وقوة العمل) إلى العلاقة بينهما، هذه النقلة هي التي تجعله يقول "لهذا، وجب النظر، في إطار الصراع الطبقي الذي يجد في التناقض الاقتصادي المحدد أساسه المادي، (وجب النظر) إلى مختلف التناقضات الاجتماعية، على مختلف مستوياتها البنيوية، انطلاقاً من التناقض السياسي ومن خلاله، لأن تحرّك هذه التناقضات على مستوياتها المتميزة هو في الحقيقة أثر الحركة المحورية للتناقض السياسي نفسه" كونه التناقض المسيطر. ولهذا حتى التناقض الاقتصادي يظهر كتطور للممارسة الاقتصادية للصراع الطبقي. حيث يظهر هنا كيف أن التناقض المحدِّد، أي التناقض الاقتصادي، يعود ليخضع للتناقض المسيطر، أي التناقض السياسي. وفي هذه مشكلية، و"مفارقة لغوية"، حيث المحدِّد للتناقضات كلها بما فيها التناقض السياسي يعود ليخضع للتناقض السياسي كونه التناقض المسيطر.

في هذا تشوش فكري، حيث أنه ليس التناقض الاقتصادي هو المحدِّد بل الاقتصاد، أي قوى الإنتاج التي تقوم عليها علاقات الإنتاج. وفي علاقات الإنتاج ينشأ التناقض في المستوى الاقتصادي (التي تسمى القضايا المطلبية) الذي هو الشكل الأولي للصراع الطبقي ، والمرتبط بالتناقضات الأخرى، ويخضع للتناقض السياسي. بالتالي هنا قفزة من الوجود المادي إلى العلاقة، التي تصبح هي المحدِّد من خلال التناقض فيها. بالتالي هو هنا يتجاوز الوجود ذاته لمصلحة تناقضات الوجود. والإشارة إلى قوى الإنتاج لا تعني تجاهل علاقات الإنتاج والطبقات والسياسة والفكر، بل تعني تحديد الأساس الذي ينشأ عليه كل هذا، والذي يحدِّد كلية الصراع، والذي هو جوهر الفهم المادي، والذي باكتشافه من قبل ماركس أوقف جدل هيغل على قدميه كما أشرت قبلاً نقلاً عن ماركس وإنجلز. ونتيجة "سوء فهم" ذلك يصبح السياسي مادي كما يشير خالد، فـ"إن السياسي ليس مجرَّد بناء فوقي بالمفهوم الميكانيكي، ولكنه مادي بالمفهوم الديالكتيكي". وكما أشرت يظهر هنا مرة أخرة الخلط بين الوجود والفهم المادي، حيث أن الفهم الماي يتناول الوجود بكليته (الاقتصادي والطبقي والسياسي والثقافي) لكن تفسيره لهذا الوجود ينطلق من أن الاقتصاد هو العنصر المحدِّد، هذا هو الأمر. وبالتالي فإن الوجود "ليس مختزلاً في وسيلة الإنتاج الاقتصادي، بل أنه في حالة حركة ديالكتيكية متداخلة بين مستويات الوجود الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي". لكن هذه الحركة الديالكتيكية (التي أُطلق عليها مصطلح صيرورة) منحكمة للمستوى الاقتصادي. فطابع الاقتصاد هو الذي يحدد شكل العلاقات، وتناقضات الاقتصاد هي التي تتحوّل إلى تناقضات مجتمعية، والاقتصاد والبنية المجتمعية التي تقوم عليه هما "أساس التاريخ السياسي والفكري".

ولأن مفهوم مادي غائب عن خالد يعيد ويكرر أن "علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج سياسية – اقتصادية – ثقافية، هو مفهوم كلي ديالكتيكي مادي"،وبمجرّد أن يؤكد بأن هذا "مفهوم ديالكتيكي مادي" يقع في المحظور، لأنه يحوّل المفهوم إلى مادة، فهذا مفهوم نظري، أي فكرة، والفكرة إما أن تكون صانعة الواقع المادي أو هي نتاج الواقع المادي، ولقد حسمت الماركسية منذ أمد طويل في الأمر، وهي تنفي مثالية هيغل، حيث كان السؤال المطروح هو: أولوية الفكرة أو الواقع؟ وإشارات ماركس وإنجلز واضحة هنا، وتعني أن الأفكار هي نتاج الوجود الاقتصادي والبنى المجتمعية التي تقوم عليه. المنهجية الماركسية هي منهجية مادية، بالضبط لأنها تنطلق من تحليل الواقع بدءاً من الاقتصاد لترتفع إلى المستويات الأخرى، ومن ثم لتتلمس ترابط هذه المستويات والتناقضات التي تسكنها. لهذا لا بدّ من التمييز بين الوجود بكليته وطبيعة فهم هذا الوجود، أي المنهجية التي تحكم فهم هذا الوجود.

لِمَ يُعتبر الانطلاق من أولوية الفكرة مثالية في الفهم؟ بالضبط لأن كل ما يحدث في الواقع يُعزى للفكرة ذاتها، أي أن الفكرة أسبق على الوجود، وأنها محدِّدة الوجود المادي. وهكذا يمكن أن تصبح الأولوية للسياسي، حيث أن الواقع المادي يكون هو نتاج وجود الدولة ووجود الأحزاب، وأن كل ما يحدث في الواقع هو نتاج سياسات الدول والأحزاب، وليس أن الأحزاب والدول هي تعبير عن طبقات، وأن سياساتها تعبّر عن مصالح هذه الطبقات، وبالتالي لا بدّ من الغوص إلى الجذر، أي الأساس الاقتصادي. بمعنى أن الطبقات والأفكار والسياسة، أي الدولة والأحزاب، هي نتاج الوجود الاقتصادي، كلها قائمة على التكوين الاقتصادي، والتناقضات فيها هي نتاج ذلك. والإشارة إلى أن التناقض السياسي وهو المسيطر يعني أن البروليتاريا، التي تتناقض مع البرجوازية في المستوى الاقتصادي والمجتمعي، ليس أمامها لكي تحقق مصالحها سوى التبلور كحزب يسعى للاستيلاء على السلطة، أي أن يرتقي شكل الصراع من طابعه المطلبي إلى طابعه السياسي.

يمكن القول بالتالي، أن تحليل الواقع لا بدّ من أن يبدأ من الاقتصاد لكي يطال كلية البنية، وأن يجري الانطلاق من أن المصالح الاقتصادية هي التي تظهر في الأفكار لدى الطبقات المختلفة وفي السياسة، وأن الدولة تعبّر عن مصالح الطبقة المسيطرة. وتأسيساً على ذلك يجب فهم مجمل التناقضات في الاقتصاد، وبين الطبقات وعلى المستوى السياسي وفي المستوى الأيديولوجي. ومن ثم، يصبح دور الحزب (وهنا يبدأ دور الذات، أي الحزب/ الطبقة) في تحديد أولويات التناقض في كل لحظة في المستويات الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية، في سياق السعي لحسم التناقض الطبقي في مستواه السياسي عبر الاستيلاء على السلطة. أي في الأوّل يكون تحليل الواقع بكليته، وفهم تناقضاته، ومن ثم يجري تحديد السياسات والتكتيكات. ولا شك أن لدى مهدي خلط بين المستويين يفرض التشوش.

أخيراً، سأجيب على سؤال طرحه خالد كنقد لمهدي، عن سبب عدم توضيح مفاهيم مركزية، وبالتالي "لماذا لم يتم تفنيد – تفكيك قوى الإنتاج والعلاقات الطبقية في الواقع العيني؟ وربما كان الجواب متضمن في الدفاع الذي قدّمه عن مهدي، حيث يقتبس "في ضوء هذا الفهم المادي للتناقض، تبلور مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي" والذي وظيفته "أن يفهم الاختلاف البنيوي" بين المراكز الرأسمالية والأطراف. هنا مهدي ينطلق من مفهوم نظري هو التناقض (الجزء الأول من مقدمات) ليؤسس عليه مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي (الجزء الثاني من مقدمات). بمعنى أنه لم يشتق مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي من البحث في الواقع كما تفترض الماركسية بل قام بالاشتقاق من مفهوم نظري هو التناقض. وفي رده على فيصل دراج أكد على أنه ينطلق في علمية المفهوم انطلاقاً من تماسكه الداخلي، ويؤكد أنه عمل على إنتاج المفهوم لكي يفكّر به تلك العلاقة، أي أنه "أنتج أداة، أو أدوات إنتاج معرفة الواقع التاريخي (مهدي عامل، مناقشات وأحاديث).

لقد قام مهدي بإنتاج النظرية قبل البحث في الواقع، مقتنعاً بعلميتها، فـ "بمقدار ما يكون البناء النظري صارماً، تزداد مفاهيمه قدرة على التملك المعرفي للواقع التاريخي الملموس". وهنا مكمن مثالية مهدي كذلك، التي تتفرع إلى محدِّدات أخرى، منها اعتبار ان العلاقة هي المحدِّد.  

المراجع:

- سلامة كيلة "مناقشة لفكر ملتبس، المادية والمثالية في الماركسية" دار التنوير/ بيروت، ط 3/

- مهدي عامل "مقدمات نظرية" دار الفارابي/ بيروت، ط 2013.

- مهدي عامل "مناقشات وأحاديث" دار الفارابي/ بيروت.