الفيلم الألماني «توني إيردمان»، كيف تتغلب على وحدتك.

2016-09-13 02:30:28

الفيلم الألماني «توني إيردمان»، كيف تتغلب على وحدتك.

ماذا تفعل لو بقيت وحيداً؟ لا تبدو الإجابة على هذا السؤال بالأمر الهين بل تحتاج للكثير من التروي والتفكير، أما إذا باغتتك الوحشة إثر هذا السؤال فعليك المسارعة بالانقلاب إلى الجانب الآخر من شخصيتك، محاولاً كسر المألوف ومزج مرادفات لم تكن مقبولة ومنطقية بينك وبين الواقع.
الخيار الآخر هو ما اختاره توني إيردمان بعد تحوله سلوكياً من وينفيلد إثر إحساسه بوحشة وغربة تجاه عالمه، وفقدان خيوط تواصله مع ابنته، هو رجل ستيني وحيد يلجأ للتهريج بأدوات بسيطة لإفراح الأصدقاء، يقنع نفسه بأنه مجرد عمل بسيط، إلى أن يشعر بضرورة اتقان هذا العمل للتقرب من ابنته وإنقاذ حياتهما من الوحدة والملل. متناقضات شخصية وعامة غير مفهومة في سياقها، عناصر غريبة في مكان لا يشبهها، تلك كانت الركيزة الأساسية للكوميديا في فيلم المخرجة الألمانية مارين إده، التي أتمت مرحلة هامة من مراحل تقديم عمل سينمائي على مزاج الجمهور كما وصفها بعض النقاد الذين أحبوا عملها الأخير. 
يلتقي وينفيلد مع ابنته في عيد ميلادها، وهي لم تكن متفرغة له بسبب كثرة الاتصالات المتعلقة بالعمل. تتقارب في ذهن الأب صورة وحدته الموحشه مع وحدة من نوع آخر تضع الابنة نفسها فيها، مبتعدة عن تفاصيل الحياة الدقيقة ومنشغلة في العمل، يقرر بعد ذلك زيارتها في بوخارست ولكن ماذا سيفعل هناك؟ نعرف ذلك خلال التعرف على حياة ابنته إينيس، الموظفة في إحدى شركات المقاولات، وجدية الطباع. لذلك تسبب الزيارة فوضى في حياتها فتطلب منه المغادرة، يغادر وينفيلد ليعود كتوني إيردمان، رجل أعمال بروح مازحة وظل خفيف ما يساعده في كسب ود زملاء ابنته التي لا تثق بهم ولا تحاول أن تكون طبيعية معهم فتتكلف عناء التبسم والمجاملة. وبدوره جاء الأب ليحل أزمة منتصف العمر لابنته وأزمة الشيخوخة عنده، فلم يكتف بخرق قوانين الزيارات القصيرة المتعارف عليها، بل عمل على خدش التصدعات المتراكمة في نفسية إينيس التي لا تعلم إن كانت سعيدة أم لا.

حتى تأتي اللحظة التي تتحرك فيها مشاعرها إثر ضغط وإجبار الأب، عندما تغني في بيت غرباء قادها إليه دون أن تعرف وجعلها تغني أغنيتها المفضلة. فتكون عندها بداية الانقلاب والتغيير الذي يسحب الفيلم معه إلى أكثر المشاهد متعة وإضحاكاً.


الصورة النمطية

كليشيهات هي بعض التفاصيل التي قدمها الفيلم عن شخصية الموظف: مكاتب اجتماعات، حفلات عشاء وأخرى لغداء عمل، مواعيد خارج أوقات العمل لكسب ود العملاء، استراحة قصيرة، بدلات رسمية وكعوب عاليه، وجوه مشدودة وجادة، والابتسامات قليلة وممنوعة. كل هذا هو تركيب عالم إينيس، نمط الموظف الذي يحل مشاكله بالعمل. ولكن ما كسر حدتها ونمطيتها هي محاولة صنع كوميديا خفيفة في السلوك والشكل يلجأ إليها الأب لمحاولة تغيير مسار حياة الابنه وتحريك عواطفها حتى ولو بجعلها تستغرب وتنفعل حدّ البكاء منه، وهذا ما أوقع الفيلم أغلب الأحيان في ورطة التكرار والدوران البطيء حول المعنى. ولكن كان ذلك لإضاءة  شخصية وينفيلد وكشف مدى إحساسه العميق بالوحشة وحاجته الكبيرة للسند الوجداني، هو الذي اكتشف عبثية العالم ومضاره خصوصاً إن هُدر الوقت بالعمل والجدية، فكانت هذه الصورة العفوية التي أرادت تقديمها المخرجة مارين إده عن أكثر مراحل العمر تعباً وزهقاً مقابل أكثر مراحل العمر حاجة للتغيير، والثاني هو عمر إينيس فهي الأربعينة المستقرة بكتمان عواطفها وحاجاتها النفسية وتبديد أسئلة كثيرة كالحب والسعادة والالتهاء عنها.
هذا ماتحاول الحكاية أن تظهره في بداية الفيلم، لوناً غامقاً لا نرى منه حواس إينيس أو أية علامات مفارقة في علاقاتها مع الناس، وليس لديها حتى حبيب، ولا تستطع أن تقوم بعلاقة جنسية مع زميلها المعجب بها وتستعيض عن الجنس بالأكل ككل الاستعارات التي تملأ بها حياتها. وهذا ما أضاف إلى أداء الممثلة ساندرا هيللر الكثير من النمطية وأبعدها عن المحاولة الجادة لتقبل الآخر درامياً وحياتياً، خصوصاً وأن من يشاركها أغلب مشاهدها هو الممثل النمساوي بيتر سيمونيشيك الذي يبذل مجهوداً لتطوير المشهد، فتكون إينيس في العمل كإينيس في البيت والشارع، وخلال مشاهد تبرز قمة صراعها معه تظهر كما هي في المكاتب ومع الزملاء، ما يعّقد مهمة الأب/الممثل أكثر، حتى تأتي اللحظة التي تتحرك فيها مشاعرها إثر ضغط وإجبار الأب، عندما تغني في بيت غرباء قادها إليه دون أن تعرف وجعلها تغني أغنيتها المفضلة. فتكون عندها بداية الانقلاب والتغيير الذي يسحب الفيلم معه إلى أكثر المشاهد متعة وإضحاكاً.

الصورة المأساوية للمدينة

في واحدة من أكثر المشاهد مأساوية لصورة العاصمة الرومانية بوخارست التي تجري فيها إينيس كل يوم بين المكاتب وورش البناء، كانت خلال محاولتها التكلم مع والدها بعد أن طردته فتقف أمام نافذة مطلة على أحياء صفيح محدودة بجدران عالية تمنع الشارع من رؤيتها وتمنعها من الاقتراب منه. في محاولة لكشف هوة عميقة بين فقراء المدينة وشركاتها ومستثمريها، الأمر الذي يعّد انعكاساً لحقيقة إينيس التي تخزن ألم التهميش وصراع الوحدة باجتماعات العمل المتكررة. هذا ما يجعل وينفيلد/توني إيردمان على الجانب الأخر من المدينة وأكثر اقتراباً من المعاناة لذلك هو أكثر استئثاراً لجرأة الفعل في تجربته بكشف متعة ما للعيش أمام أعين ابنته، هو صراع داخلي في عمق الشخصيات غير مرغوب بإفشائه ولكن إينيس أيضاً تبحث عن معادلها وآخرها الذكوري عاطفياً وعملياً، ومن دونه لكانت بلون واحد وهذا بعيد عن شخصية درامية مثلها تحدث انقلابات مفاجئة عند أول فرصة تقدمها الظروف المحيطة. وأولها مع نفسها حين يصادف إقامة اجتماع لزملاء العمل في شقتها فتدخل أولى الزائرات أثناء قرار إينيس بتبديل ملابسها ومن غير اللائق أن تنتظر ضيفتها أمام الباب فتضطر لاستقبالها عارية، ومنها تبدأ عتبة كسر السائد وكل ما كان من محرمات قواعد العمل الجاد والإتيكيت. مشهد استقبال الضيوف، على قدر ما هو هزلي ومضحك فقد فسح مجالاً أمام شخصية إينيس أن تفهم ضرورة التغيير وتتقبل كل غريب ودخيل، فكيف إذا كان هذا الغريب يحاول مساعدتها لإيجاد معنى حقيقياً للحياة.
ويتجلى ذلك في مشهد معانقتها لوالدها في الشارع عندما لحقت به بعد خروجه مرتدياً زياً غرائبياً عبارة عن كائن بشعر أسود، فتُظهر هذه المعانقة تأثر إينيس بمحاولات أبيها لتحريك مشاعرها، هي التي تتقن ارتداء البدلات الرسمية خرجت برداء بسيط تريد اللحاق بالغريب الذي جاء لتغيير حياتها.
يظهر الفيلم هذه المتناقضات التي تضيئ الجانب العاطفي لشخصية استاذ الموسيقى المتقاعد، أمام كل التخلي العاطفي من جانب إينيس لتكون الأخيرة محطة هامة في حاضر الأب، وتتحول جديتها إلى فعل غريب ريثما يغلب عليه سلوك الأب وأفعاله المتراكمة، فيكون إيردمان، الممتلئ ضحكاً وتهريجاً وتناقضاً، شفافاً وأكثر واقعية في محيط هو غريب فيه ويبدو له كثير التصنع والجديّة.

حاز الفيلم على إعجاب الجمهور والنقاد والصحافة الدولية خلال عرضه الأول في مهرجان كان الماضي، فتصدر قائمة الترشيحات ولكنه لم يحظ بالجائزة.