زهرة الزعمطوط حين كانت فلسطينية!

2017-05-24 07:00:00

زهرة الزعمطوط حين كانت فلسطينية!
"الموناليزا الجديدة" . للفلسطيني أسامة دياب . ٢٠١٠

في إحدى مقابلات توثيق التاريخ الشفوي المسجلة، وخلال حديثها عن ذكريات مدرسة الرملة الابتدائية للبنات، تستحضر المربية مليحة الخيري مشاركتها في رحلة نظمتها مدرستها قبل النكبة، بهدف جمع الزهور المستوطنة "البرية" من وادي اللطرون، للمشاركة في مسابقة جمع الزهور البرية وتنسيقها، والتي كانت تجرى وقتها على مستوى كل المدن الفلسطينية.

تقول الخيري: "درنا بالجبال نلقط الزهور المحلية، ولقطنا كميات هائلة من الزهور منها زهرة قرن الغزال، ورحنا على القدس نسّقناهم وطلعت مدرستنا الأولى في تنسيق الزهور."

هذا النوع من الرحلات والأنشطة غير المنهجية والذي يستهدف علاقة الإنسان المباشرة بالمكان وبالبيئة، لم يكن في واقع الأمر سوى ممارسة غير واعية من الفلسطينيين، لإنتاج نسختهم الخاصة مما يطلق عليه بلغة السيسيولوجيا الحديثة: "الرومنتيكية الوطنية".

وهو مصطلح يعبر عن علاقة الإنسان الشخصية بطبيعة المكان والمعمار والبيئة، وبذلك يرتبط في عقله خلال عملية ميكانيزم الاستدعاء التزاوجي بين الحدث المجرد والحدث العيني، وبكلمات أبسط يربط بين الطبيعة والأحداث، كأن تقول إحدى الجدات: "ولدت ابني الكبير بيوم الثلجة".

إن الوطن ما هو إلا ذاكرة الفلسطيني التي تصنع هويته الرومانتيكية، فتربط المكان بالمشاعر والأحداث، كما تربط هذه الهوية بالعادات والتقاليد والأغاني الشعبية التي كانت تقام على هذه الطبيعة.

ولم تبتعد الشعائر الدينية وقتها أيضاً عن الطبيعة، فبحسب الكاتب سليم تماري في كتابه "الجبل ضد البحر" أنها كانت شعائر كرنفالية ترتبط مباشرة بالطبيعة والفرح وتشبه حياة الفلاح الفلسطيني اليومية؛ فيقول تماري عن احتفال بموسم النبي روبين: "يستعرض الموسم في الشواطئ الجنوبية لبحر يافا، نموذجاً طقسياً باهراً للتعبير النفسي الجماعي عن الخلجات المقموعة لسكان مدن الساحل… فيبدأ الموسم في الأول من تموز بالمسيرة الاحتفالية المعروفة بزفة النبي روبين، يتصدرها حملة البيارق والفرق الموسيقية التي تتجمع عند الجامع الكبير."

ولم يكن مفهوم الهوية الفلسطينية وقتها مرفوداً بالشعارات الغائبة عن فعل التماس الفيزيائي بالمكان، بل مرتبط بتحدي الاحتلال الإسرائيلي الذي يدّعي أنه صاحب الأرض، وهذا التحدي يتجسد عبر العلاقة بالمكان، وتعميق هذه العلاقة باستخدام الحواس.

لذلك يعتبر العديد من المؤرخين أن النفحة القومية الأولى للهوية الوطنية الفلسطينية بدأت على أيدي الفلاحين "المزارعين" سنة 1834، ويؤكد الباحث أمجد السائح في دراسة له، أن ارتباط الهوية الفلسطينية بشكلها الوطني الحالي بدأ حين بحثت فلسطين عن هوية منفصلة عن الهوية العثمانية، خلال ثورة "تمرد الفلاحين"، وكان الهدف الرئيس من هذه الثورة هو التحرر من ظلم الحكم العثماني والسيطرة على موارد الإنتاج التي كانت حينها في أيدي العثمانيين. 

وتعتبر المرحلة الثانية لتبلور الهوية الفلسطينية خلال ثورة سنة 1936 إذ طور الفلسطينيون تصور لهوية وطنية فلسطينية، ترتبط بحدود جغرافية وسياسية محددة، وتوازى معها إنشاء مؤسساتٍ وقياداتٍ وطنية استمدت مشروعيتها من مقاومة الاحتلالين الصهيوني والبريطاني، وارتبطت الهوية حينها بامتدادها العربي والإسلامي بشكل عميق. 

ثم جاءت نكبة عام 1948 والتي تعتبر أيقونة الهوية الفلسطينية، ليصبح امتداد الهوية هو الحركة القومية، وكان الخلاص وقتها لتحرير فلسطين بالانضمام إلى تنظيمات قومية عربية، كما كان للشتات الأثر الأكبر في تشكيل الهوية عبر إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وكان قطاع غزة استقبل حينها حوالي مائتي ألف من لاجئي النكبة ما غير من تركيبته السسيولوجية. 

وربما وصلت الهوية الفلسطينية إلى نرجستيها الأقوى خلال الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقطاع سنة 1967 لتصل ذروتها عام 1987 مع الانتفاضة الأولى فارتبطت برمزية الحجر، وشهدت زخماً جديداً وبروزاً قويا لفصائل المقاومة المسلحة ضمن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تكرست كصيغة ائتلافية جامعة تعبر عن الكيانية والهوية الفلسطينية، والمفارقة أنها الفترة ذاتها التي خبى فيها سطوع الكفاح المسلح بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، ليصعد تيار الإسلام السياسي مكتسباً شرعيته من مشاركته الفاعلة في الانتفاضة، بالرغم من أنه رفض الانضمام للنظام السياسي الفلسطيني، ما يجعله يقدم نفسه باعتباره صاحب رؤية خاصة للهوية، بديلة عن الهوية التي جسدتها م.ت.ف. 

 ومن ثم حدث النكوص وتغيرت الثوابت مع توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، وبدلاً عن الوطن، أصبح هناك "المتاح من الوطن" فقد تعاملت العقلية الأوسلوية مع الفلسطينيين كوحدات بشرية معزولة في أراضي 48، والضفة وغزة والقدس والشتات، وغدت الهوية شعاراً، وثوباً مطرزاً بالغرزة الفلاحي، إلى أن حدث الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو2007، لتصبح الهوية الفلسطينية شأناً نخبوياً وتراثياً.

ومنذ تلك اللحظة إلى اليوم هناك حالة ضبابية تعتري كيانية الهوية الوطنية للفلسطينيين وسط انتماءات عائلية وحزبية واقتتال داخلي، وشتات، ليكون لكل هذه الانتماءات المناطقية والإثنية والحزبية تأثيرها على درجة تماسك وشكل الهوية الوطنية.

الضباب يعتري أيضاً المرحلة الحالية التي يمر بها قطاع غزة حتى في المصطلح، فكلمة قطاع لم يطلقها فلسطيني، ولا تحمل أي مدلول وطني، وهناك من يفضل أن يطلق عليه الوصف الحكومي "محافظات غزة"، أو استبداله بـ"ساحل غزة". وقد اعتبر الكاتب الفرنسي جون بيير في أحد ندواته في المركز الفرنسي مصطلح قطاع "مصمَت"، وخالي من الروح، واعتبره خياراً كولونيالياً.

والاستعمار الذي يتحدث عنه جون بيير هو الاستعمار الكلاسيكي سواء كان البريطاني أو الإسرائيلي، لكن هناك الآن نوع آخر من الاستعمار الناعم الذي يشبه المُستَعمَر، فهو ليس عدوه الذي يُنشّط الروح لقتاله؛ كسلاً في نقاش مطلقاته وخوفاً من شعبيته، إنه استعمار الأيديولوجيات.

إذن فنحن نلاحظ هنا أن الثقافة الغزية غالباً ما تكون ضحية محرريها أو حكامها، كأنها مدينة ملقاة على قارعة طريق الفاتحين والمنتصرين، أو كما وصفها الكاتب جيرالد بات في عنوان كتابه "حياة على مفترق طرق: تاريخ غزة"، فهي مع كل محاولة تحرير تخسر من هويتها وشخصيتها وعاداتها.

ويبدو أنه نتاج الضرورة إذا كانت دولة كقطر تدفع عشرات ملايين الدولارات عقب كل حرب لإنعاش غزة وإعادة الإعمار على الطريقة الخليجية؛ سواء عبر شكل المعمار السكني للمدن الضخمة كمدينة حَمَدَ، أو مشاريع توسيع الشوارع. إذن إنها ثقافة القوة وليست قوة الثقافة. وبذلك تكون الهوية الفلسطينية سُلبت تماماً، ليس فقط لربطها برؤية دينية متحزبة مجافية للعلاقة بالأرض والمكان، بل أيضاً لأن هذا المكان تغير، فأخذ شكل أماكن أُخرى لا تشبهه.

وسط كل هذا، من الطبيعي أن ينشأ جيل مغترب تماماً عن المكان والبيئة، فتصبح علاقته بالأرض سطحية، ويصبح الانتماء إلى شيء خارجه، أما ذاكرته فهي خالية من النواة الصلبة، ومعلقة إلى الشعار فقط سواء كان دينياً أم سياساً. إن التداعي الحر لذاكرته عند توثيق الأحداث "ميكانيزم الاستدعاء التزاوجي" مرتبط بأحداث مأساوية "قبل الانقلاب أم بعده"، "بعد حرب 2012 وقبل حرب 2014"، إنه جيل عالق في كل ما هو مطلق ومتملص، وغير محدد.

إن تغييب الأنشطة الوطنية التي لها علاقة مباشرة بالأرض والثقافة المتوارثة، ولن نضرب مثالاً طوباوياً كالتعرف على الأزهار الواطنة؛ بل لنأخذ مثالاً حيوياً كالرقص الفلسطيني الشعبي، "الدبكة"، فنجد أن الأجهزة الأمنية التي تقودها حركة حماس إلى هذه اللحظة تحرم الفتيات من ممارستها في العلن، وتلاحق هذه الأنشطة كأنها فعل فضيحة في الأماكن العامة، والشواهد على ذلك كثيرة، وكلها بحجة واحدة "نحافظ على عادات وتقاليد وهوية مجتمعنا الإسلامي."

كذلك إنها لكوميديا سوداء، حين تقرأ الخطة الإستراتيجية لقطاع الثقافة والتراث المقررة ما بين أعوام 2014 و2016 الّتي نشرتها وزارة الثقافة الفلسطينيّة في رام الله سنة 2013 لكامل الوطن، وقد وضعت لهذه الخطة هدفين رئيسيين هما: خلق بيئة أكثر تمكيناً للثقافة الفلسطينية تساهم في نشر ثقافة وطنية تعددية تعزز الوحدة، وفي دعم موروث ثقافي للشعب الفلسطيني أكثر حماية وتجديداً، يشكل مخزوناً ثقافياً يوحّد الهوية الثقافية عبر جمع وتوثيق وأرشفة الموروث الثقافي الفلسطيني من حكايات وأمثال ونوادر وتاريخ شفوي ولهجات وقصص وأساطير ومخطوطات، ورفع مستوى الوعي بقيمة التراث. 

إن هذه الخطة لا تعبّر سوى عن حالة إنكار مريعة، وفصام تام بين المؤسسات الثقافية برام الله، وما يحدث في قطاع غزة.

والمفارقة أنه بعد 60 عاماً بالضبط من رحلة المربية مليحة الخيري إلى وادي اللطرون لجمع الأزهار ومنها زهرة "قرن الغزال" أو الزعمطوط، وتحديداً في سنة 2008، أعلنت إسرائيل أن "قرن الغزال"، ستكون الزهرة الرسمية للدولة.

إنهم يتصرفون كما كان يفعل المالك الحقيقي للأرض، ويتركون الأخير يرتع بالشعارات التي ليست لها جذور بالأرض!

المقال مقتطع من نص مطول للكاتبة تحت عنوان "تساؤلات بشأن الهوية الثقافية لغزة"، منشور في مجلة دراسات فلسطينية العدد 109.