عن السينما الفلسطينية ما قبل النكبة

2017-05-27 00:00:00

عن السينما الفلسطينية ما قبل النكبة
المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي . بيروت . ١٩٧٤

كان المخرج العراقي قاسم حَوَل يقيم ويعمل في بيروت في بداية سبعينيات القرن الماضي، ضمن سينما الثورة الفلسطينية التي يُعتبر أحد مؤسسيها، حين التقى صدفة أثناء عرضه أفلاماً في مخيمات اللاجئين، بأحد سينمائيّ قبل النكبة في مخيم الداعوق، وأجرى معه حواراً صحافياً مطوّلاً، وأخذ عنه شهادات تاريخية عن ولادة السينما قبل النكبة، واستقى منه الكثير من المعلومات، التي لم تكن قد كُتبت بعد، وسعى لتكريمه من خلال منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1974.

كان ذلك السينمائي إبراهيم حسن سرحان الذي يُعتقد بأنه أول فلسطيني صور أفلاماً بفلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، وفتحت شهادته التي نقلها لقاسم حول أبواباً كثيرة للباحثين عن آثار السينما الفلسطينية الأولى التي ولدت في مدينة يافا، وضاع أرشيفها في الشتات الفلسطيني الكبير، ليعاد تأريخها من جديد.

فلسطين في كاميرات السينما الأولى: 

صُورت فلسطين بأوائل الكاميرات التي صنعت بالعالم لشركة الأخوين الفرنسيين لوميير بعد اختراعهما لآلة تصوير الفيلم المتحرك عام 1895، فبعد سنة واحدة من إنتاج فيلمهما الأول، أرسلا عام 1896 المصور ألكسندر فروميو إلى القدس لتصوير أول فيلم يعرض لمظاهر الحياة في المدينة المقدسة. بعد سنوات قليلة تحول هذا الاختراع العظيم نقمة على الفلسطينيين بعد أن تنبهت الحركة الصهيونية لأهميته، بحسب ما يشير المخرج العراقي قاسم حول في محاضرة له بأنه: "في عام 1897 انعقد المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة "ثيودور هرتزل" في مدينة (بال أو بازل) السويسرية. في ذلك المؤتمر أدرك المؤتمرون أن اختراع فن السينما هو اختراع خطير ويمكن استثماره لخدمة هدف المؤتمر وهو إقامة وطن قومي لليهود. فأقرت توصية في استثمار هذا الفن (استراتيجية صهيونية) تدعو إلى تطوير اللجان السينمائية مع تطور الحركة الصهيونية والدعوة إلى إقامة الوطن القومي لليهود في دولة إسرائيل".

وهو ما بدأ العمل به فعلياً ما بين عامي 1899 و 1902، حيث تم تصوير أول أفلام الدعاية الصهيونية عن أرض الميعاد، تلاه عدة أفلام أخرى في سنوات لاحقة حيث كانت فلسطين آنذاك ترزح تحت الاحتلال العثماني الذي كانت تحظر قوانينه الصحافة المستقلة على الفلسطينيين حتى عام 1908.

السينما والمدينة الفلسطينية:

بالعودة للحوار الذي أجراه قاسم حول مع إبراهيم سرحان، يتبادر لذهن قارئه سؤال، كيفك يمكن لشاب في التاسعة عشرة من عمره، بمدينة فلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي، أن يفكر بخوض مغامرة صناعة أفلام؟ كيف فكر بالأدوات؟ من أين حصل عليها؟ ولعل البحث عن الإجابة يكمن في فهم شكل الحياة الثقافية في المدن الفلسطينية وعلاقتها بالسينما في تلك الفترة، سواء من ناحية دور العرض التي تصل بحسب بعض المصادر لأكثر من 35 دار عرض في مختلف المدن قبل النكبة، أو من خلال وجود صحافة سينمائية تزامن ظهورها مع ظهور السينمائيين الأوائل، خاصةً أن سرحان تحدث لقاسم عن شراكات إنتاج أجراها مع أخرين، ما يشير لأنه لم يكن المغامر الوحيد، الأمر الذي تؤكده مصادر كثيرة أخرى.

عودة أول السينمائيين لأرض الآباء:

على ما يبدو أن فلسطين في العشرينيات كانت قد أصبحت أرضاً خصبة لصناعة السينما، حيث الاهتمام الكبير بتصوير الأراضي المقدسة للجمهور الغربي، وازدهار الصحافة، ما شجع الأخوين الشابين لاما أو الأعمى على العودة إلى مسقط رأس والديهما الذين هاجرا من بيت لحم إلى تشيلي في مطلع القرن العشرين وقد أحضرا معهما معدات التصوير والتحميض وغيرها من لوازم صناعة السينما، لكنهما وبسبب الأوضاع السياسية والإضرابات الناتجة عن الاحتلال البريطاني والهجرات اليهودية لم يكملا رحلتهما وتوقفا في الإسكندرية ليؤسسا هناك شركتهما ويصنعا أول فيلم روائي طويل للسينما العربية "قبلة في الصحراء" عام 1926.

ولادة السينما الفلسطينية:

تشير بعض المصادر إلى أن الأخوين إبراهيم وبدر لاما قد صورا فيلمهما "الهارب" سنة 1935، أحدهما ممثلاً والآخر مخرجاً، في مدينتهم بيت لحم عام 1935، والذي تناول موضوع التجنيد الإجباري في الجيش العثماني، أي ذات العام الذي صور فيه إبراهيم حسن سرحان فيلمه الوثائقي الأول، ليكون بذلك أول فلسطيني دخل عالم صناعة السينما من باب الهواية، فهو لم يكن أكاديمياً كالأخوين لاما، ولكنه قام بتصنيع أجهزته السينمائية بنفسه كآلة المونتاج السينمائي الموفيولا، وعقد شراكات إنتاج تجارية لإنتاج أفلام، وأفتتح أستوديو للإنتاج السينمائي عام 1936 في مدينته يافا أسماه أستوديو فلسطين، وأنتج الأستوديو فيلماً قصيراً "تظهر فيه الراقصتان شمس وقمر، والمطرب الفلسطيني سيد هارون عند افتتاح الأستوديو".

إبراهيم سرحان:

كان فيلم سرحان الوثائقي الأول توثيقاً لزيارة الأمير سعود بن عبدالعزيز إلى فلسطين، مدته 20 دقيقة، تنقّل في تصويره بين القدس واللد ويافا برفقة الحاج أمين الحسيني. وكان لسرحان محاولات أخرى، كما قال في مقابلته مع قاسم حول، إلا أن نكبة عام 1948 شرّدته وعائلته إلى الأردن حيث ساهم بإنتاج أول فيلم سينمائي أردني في نهاية الخمسينيات، هاجر بعدها إلى لبنان، حيث وقع عقوداً لإخراج أفلام سينمائية لم ينفذها، وقد انتهى به الزمن سمكرياً في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين وتوفي عام 1987.

الرواد في الشتات:

وفي ذات الفترة التي بدأ فيها إبراهيم سرحان إنتاج وإخراج أفلامه تذكر المصادر رواداً آخرين مثل كتاب (فلسطين والعين السينمائية) للكاتب الأردني حسان أبو غنيمة الذي يقول فيه، بناء على تسجيل صوتي مع المخرج أحمد حلمي الكيلاني فإن "إبراهيم حسن سرحان كان يعمل في المجال السينمائي، ولكن كأحد مساعدي المخرج جمال الأصفر. وإن فيلم "أحلام تحققت" من إخراج خميس شبلاق، وليس سرحان، وأن فيلم "في ليلة العيد" من إخراج جمال الأصفر. وفي مقابلة لاحقة بين أبو غنيمة والأصفر أكد الأخير ما قاله الكيلاني. كما يذكر أبو غنيمة أن أول فيلم روائي فلسطيني هو "حلم ليلة" من إخراج صلاح الدين بدرخان سنة 1946"، الذي عرض في الأردن وفلسطين عام 1948، فيما اختلفت الآراء ما إذا كان بدرخان مصرياً أو لبنانياً، ولكن ترجح بعض الروايات أنه فلسطيني من يافا هاجر إلى الأردن ومنها إلى لبنان وتوقف عن العمل السينمائي، كما ورد في فيلم تل الزعتر لمصطفى أبو علي مع جان شمعون وبينو أدريانو.

سينمائيون في الشتات:

تشير الشهادات المختلفة التي جُمعت عن تلك الفترة لأسماء مخرجين ومنتجين آخرين عملوا بشكل مشترك مع سرحان، ولجأوا لدول عربية مختلفة بعد النكبة، فقد لجأ عبد اللطيف الحاج هاشم الذي كان شريكاً للكيلاني والأصفر في إنشاء الشركة العربية لإنتاج الأفلام إلى الأردن بعد النكبة، كما لجأ جمال الأصفر مخرج فيلم "في ليلة العيد" الذي مثّل فيه حسن أبو قبع وأحمد الصلاح، إلى الكويت. أما خميس شبلاق الذي يقال إنه أخرج فيلماً بعنوان "أحلام تحققت"، بينما تقول روايات أخرى أن الفيلم من إخراج إبراهيم سرحان، فلم تذكر أياً من المصادر مكان وجهته الأخيرة بعد النكبة.

أما أحمد الكيلاني الذي سجل له حواراً صوتياً الناقد الأردني الراحل حسان أبو غنيمة ونشر الحوار في كتابه (فلسطين والعين السينمائية) وذكر فيه أن الكيلاني درس السينما إخراجاً وتصويراً في القاهرة، وتخرج عام 1945 ليعود بعدها إلى فلسطين ويؤسس مع جمال الأصفر وعبد اللطيف هاشم الشركة العربية لإنتاج الأفلام السينمائية، ولجأ بعد النكبة إلى الأردن.

محمد صالح الكيالي:

يقول قاسم حول في كتابه "السينما الفلسطينية" الذي وثق فيه أيضاً مقابلته مع سرحان: "خلال بحثنا عن بدايات السينما في فلسطين، وردنا اسم محمد صالح الكيالي الذي يقال أنّه أنجر شريطاً قصيراً في فلسطين في الأربعينات، وأنجز أيضاً شريطاً آخر في الستينات عن جيش التحرير. لكن بقيت المعلومات ناقصة، والبداية فيها الكثير من الغموض. كيف باشر عمله؟ في أيّة ظروف؟ ما كانت الإمكانات التقنية؟ كيف كان يظهّر الأشرطة ويطبعها؟ كيف كان يسجل الصوت؟ وأين يعرض الفيلم؟ وما إلى ذلك من الأمور التي تتعلق بالسينما إنتاجاً وتوزيعاً".

يأتي الجواب على أسئلة المخرج قاسم حول من الروائي الفلسطيني تيسير خلف في روايته "موفيولا" التي يعتمد فيها على بحث تاريخي أجراه لسنوات، وقدم عبره رواية استندت على أحداث وشخصيات حقيقية، أبطالها سينمائيون فلسطينيون من مرحلة ما قبل النكبة مثل إبراهيم سرحان وصالح الكيالي الذي التقى أخوته ووثق قصته من خلالهم، حيث يذكر أنه في الفترة ذاتها سافر الشاب محمد صالح الكيالي عام 1936 لدراسة التصوير الضوئي والسينمائي في فرنسا، لكنه لم يُقبل في معهد السينما فحصل على دورات في التصوير والمونتاج وعاد إلى يافا ليفتتح أستوديو للتصوير عام 1939 في سوق إسكندر عوض أسماه المصور الفني.

في هذه الفترة 1936- 1939، كان الاضراب الكبير الذي دعت له الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني قد عمّ كل فلسطين واستمر لستة شهور، وتحول لثورة شعبية، فدمر الإنجليز جزءاً كبيراً من مدينة يافا لمنع تحصن الثوار فيها وتم تشريد جزء من سكانها، وتغيرت معالمها وتركيبتها الديمغرافية وبدأت تختلط بتل أبيب. كما فرض الحاكم العسكري رقابة عالية، وكانت هنالك لجنة لفحص كل الأفلام قبل عرضها في دور السينما، كما فرضت الرقابة على الصحف والمجلات، وتعثرت صناعة السينما حديثة الولادة.

وبالرغم من الظروف السياسية المتوترة، فقد أنتج إبراهيم سرحان كما قال، فيلمه "أحلام تحققت" وهو وثائقي قصير عن ملجأ للأيتام في حرم المسجد الأقصى، بينما أنتج محمد صالح الكيالي عدة أفلام وثائقية قصيرة عن صيد السمك في يافا، وآخر عن سكب الحديد وثالث عن صناعة النسيج والرابع عن زراعة البرتقال في يافا.

نجح الكيالي في بيع أفلامه لبعض دور السينما في يافا فعرضت قبل الأفلام الأجنبية على طريقة الجرائد السينمائية لكن عائدها كان زهيداً لا يغطي كلفة الإنتاج، فسافر الكيالي مرة أخرى لدراسة السينما في إيطاليا والتحق بمركز الفيلم التجريبي الذي أسسه موسليني.

بعد تخرج الكيالي عام 1943 التحق بصديقه عبد اللطيف ذو الكفل والمفتي الحاج أمين الحسيني إلى برلين، وبقي هناك حتى سقوط برلين. ويذكر عبد اللطيف ذو الكفل في مذكراته أنه قابل محمد صالح الكيالي في سجن القدس، بعد أن اعتقله الإنجليز إثر عودته من ألمانيا.

الصحافة السينمائية:

بالتزامن مع ظهور صناع السينما الأوائل، وانتشار دور العرض بكل المدن تقريباً، بدأت تتشكل رغم الاضطرابات السياسية، نواة لصناعة سينما أدت لظهور صحافة سينمائية متخصصة مصاحبة، فظهرت بدايةً جريدة "الحقيقة المصورة" في عكا عام 1937، والتي صدرت في العام 1939 باسم "صوت الرأي العام".

كما صدرت مجلة "الأشرطة السينمائية" في القدس عام 1937، وكان يرأس تحريرها إبراهيم تلحمي، باللغتين العربية والإنجليزية، وتوقفت بسبب الأوضاع السياسية التي سادت ثورة 1939، وهي الفترة التي على ما يبدو أيضاً تعرقلت فيها مشاريع سرحان ومعاصريه.

وفي 16 من آب 1938 أصدر جميل عبد الغني شلالي بمدينة يافا جريدة "الحياة الرياضية" الأسبوعية، وحررها علي حسين الأسعد، وعيسى أسعد عبود، وتخصصت في أخبار السينما والألعاب وسباق الخيل والنقد الهزلي.

وفي آب 1945 أصدر جبرائيل شكري ديب بالقدس جريدة "الرياضة والسينما" الأسبوعيـة، باللغتين العربية والإنجليزية، وكانت تعنى بأخبار الرياضة والمسرح والراديو والسينما.