العبور

2017-05-27 01:00:00

العبور
للفنان الجزائري علي سيلام

سعاد لعبيز

كاتبة روائية

لم يُعمّر العبور طويلاً ولكنه كان مشحوناً، كفر بك الزبد الحارق وانمحت ملامحكِ من ذاكرة الرمل.

والملح… وصم كل شبر من جلدك النازف.

هكذا لينساك البحر، يا أنتِ من غنّجه، يا أنت من غفر له نزواته. أتعلمين أنّ البحر يربّي النسيان وينثره زبداً، زبداً..

كيف نحيي الوثاق الشاذ؟ كلّما تشابكت الأمور، اجتثت الجذور أحلامك العنيدة.

وددتِ لو كانت للجذور أجنحة غير أنّ الأرض، خِفيةً، تنسج أغلالاً مقيّدة ملآى بفخاخ تُكتّم على نفَسِ النزوة.

هكذا تتلاشى الأوهام من ضفة لأخرى وتبعثر أنقاض رقّ محفور منذ عقود، طرس محاه الدهر بعد عقود، أكان النسيم عنيفاً أو عليلاً فلن يعتق رسم الشفاه المطبقة.

جرفك زورق الحياة الهش حين أبحر غير مبال، متحدّياً شرارة الريح الشرقية لكنّك جمّعت قواك وتمرّدت وقاومت... فحيّاك إلاه الريح ثمّ سكن النسيم. 

والملح...

يَطلّ الغسق على سطح العمارة العتيقة لتعايدي أسراب السنونو اليافعة.

كانت قهقهات العاكفات تداعب رقْبتك وعيناك تبحران ولا تدرك كم غامرت وكم غمّاً تجرّعت وراء الأرض السخية. كم يجهل البحر فتنته..

إنّ الوطن لا يأذن لك فقط بالرحيل بل ويتوسّلك ألّا تعودي.  سترحلين بدون مَكْرَمة على الماضي ولا نظرة على المشربية، إلى الضفة الأخرى سترحلين، وهناك لن تحجبك الشبابيك.

الحرية، التفّ عليك ذاك الوهم العنيد الذي حين أردت القبض عليه تعرّى ضياء في بئر فضاعف من حيرتك. 

كان الأفق متمدداً على صخر شرس، كان مازحاً وهو يتقفّاك والموج الشره المغفّل يلعق القعر، هكذا تلقّنتِ أوجاع الخدش.

والملح.. 

والملح... وصم كلّ شبر من جلدك النازف، والملح تواطأ وتسلّل لمتاهات الجفن الملتهبة، أغمضي عينيك ليحلو لك الحلم، لا تنصتي لطير القبرات وحذاري أن تتطلّعي لرضاها. انصرفي أو ارجعي لكن رجاء اهجري خنق الشقوق.  

هنا قُبرت نساء من قبلك، حوريات بلا أجنحة، غرّر بها بصيص الضوء. لا أحد يقدر على ردّك عن ذاك الطريق الحارق، عاندته في المدّ والجزر وأصررت وانتصرت، هي قناعتك وهو يقينك.

اللازوردي يسخر منك حين تأملته مليّاً، راوغك فصار زمرّداً. عثّروك فعطّلوا أوهامك وقذفوا بك عارية. 

والملح… والملح نحت جفنك الكليل شبراً شبراً، وعزيمتَك المتعبة من كثرة الجدف.  

وليقتلعك من أعلى السطح نداء اليمبوس الساحر، أردتِ أم أبيت.

وستنسج أحلامك أجنحة هشّة ينالها قيظك وقيظك وحده يحرقها.

لا تلتفتي بحنين الرجوع فالضفة الحميمة اغتاظت من انطوائك وأعلنت القطيعة.

تبدّدت قهقهات النساء وتلاشى أنين النورس الشجي وقدّمت المدينة شرفاتها قربانا وشيّدت سطوح المنع من الطوب القرميدي والرماد.

أتعرفين أنّ البحر يمقت من ينظر إليه بازدراء ويعشق من يتأمل جلاله؟ 

أكنت تتأمّلين البحر أم تتوقين إلى الضفة الأخرى؟

ارتقي الدرج على مهل واستعيني بسحر المدى واهملي قسوته، وانتظري بلا كلل عودة السفينة الملآى بكنوز مبتذلة ونوارس مجنونة وغزاة متهوّرين لفظتهم الضفة الأخرى.

حينما يأتي الغسق، وفي ضجرك يتماهى الكلاب والذئاب والأفق الملتهب بألسنة نيران نجم وقح، توقظها الأوجاع ويعود الأمل الفاتر ليلامس شرايين القلب.

لن تعودي للزقاق الذي شهد ميلادك، لن تقتفي أثر الشاطئ المهجور، وكلب الجيران نسيك وأنيابه استردّت نَكهة الدم الحافي وطعم اللحمة الفتية. 

تعاميت عن كلّ هذا أم فعلاً اعتبرت البحر صديقا؟

آه لو يُقَبّل الموج تلك القمم اللامتناهية… ونفس الموج يجرف نحيب النوارس وصيحات الأطفال المشاغبين وشدو الحوريات.

ارحلي أو عودي. لكن رجاء لا تَلقي حتفك في الضفة الموعودة. 

الشاطئ لا يعرفك، ولا موعد له معك فاحترسي واعبري كثبانه بالخطو المتواضع فكثيرات قبلك هلكن حين داعبنه بخطى الاستعلاء. 

والملح… والملح حفر أخاديد ليُحجّر دموعاً عطشى. 

نص لسعاد لعبير بالفرنسية ترجمته إلى العربية مروازي مريم