المتفرّج وحده في رمضان

2017-06-01 00:00:00

المتفرّج وحده في رمضان
للفلسطيني منذر جوابرة

أثناء بقائي شهوراً في الأردن، ظللتُ أتلقّى على رقم هاتفي السوريّ رسائل نصّية من شركة سيرياتل التي استولى عليها آل مخلوف في سوريا الأسد. كانت إحداها الرسالة التالية، باسمِ تلفزيون سما: "ما هو اسم أم النبي محمد (ص): 1- آمنة بنت وهب 2-حليمة السعدية؟" أخذتُ السؤال على محمل الجدّ، فلم أجد فرقاً في الأمومة بين قداسة السيدتين الميتتين. أعدتُ قراءة الرسالة المذيّلة بسعر المشاركة في المسابقة، وفتحتُ التلفزيون في منزل سكنته وحدي أياماً، لأن مستأجرته سافرت بعد أن تركت لي المفتاح مدفوناً في تراب شجيرة ياسمين كان فوحُها يدلّني ليلاً إلى العنوان.

هناك، بعد انقطاع سنوات طويلة عن متابعة التلفزيون وبرامجه ومسلسلاته، رحتُ أتنقل بين القنوات، وحدي على الأريكة، متعباً مشتّت الذهن في وحشة قلقة لم أعرف يوماً كيف أحتال عليها. لم تكن مشاهدة التلفزيون ترويحاً مناسباً، أثناء صلاة التراويح التي كنتُ أسمع مصلييها يزحمون الزقاق القريب: 

أتابع على القناة السورية الأولى برنامج جولة الكاميرا الصامتة في شوارع الشام، مصحوبة بموسيقى دلشاد سعيد، ثم أنتقل إلى القناة الحكومية التالية المزدانة بشعار التلفزيون الأردني: تاج دوّار من ذهب في زاوية الشاشة حيث الدعايات أولاً. البنك الإسلامي ثم KFC ثم شركة زين للاتصالات، كأن بلد الفوسفات والسياحة يعيش داخل دعاية عملاقة تُعاد كل مرة مع تعديلات طفيفة أو تنويعات تقتضيها مصائب الجيران. هناك مسابقة تلفزيونية في منطقة قد تكون جبل عمّان، أو جبل الحسين. لا يتوقف المذيع عن الكلام، أجشّ الصوت سليطاً كواحد من أعوان شيوخ أو نوّاب مفوّضين عن زعماء عشائر لا أعرف عنهم شيئاً واضحاً. المذيع نموذج الشاب العصري: الحيوية وفتوّة جسد بُنيت عضلاته جيداً، فضلاً عن الوسامة والأناقة المكلّلة بالبشاشة والكثير من المجاملات وطلاوة اللسان. أجدُ تهديداً في تلك الطلاقة وفظاظةً في تلك الأريحية، وأحس بعنفٍ يبطّنها يجعلني متحفّزاً ومتأهباً للردّ حتى وأنا هنا مجرد متفرج ساكت.

أفكر بحيوية المذيع ووجهه الأسمر غليظ القسمات، وما يتراءى لي فيها من تلفيق وعدم رضى، مرارة وغضب مكتومين، وضبط انفعالات قد تنفجر في مواضع أخرى (لا أحد هنا يستبعد وقوع مثل تلك الانفجارات الرجولية)، واجترار أحقاد صغيرة لأن هناك مَن هو أعلى منه وأثرى وأوسع حظوة. سأبالغ أكثر. قد لا يستغرب الجمهور لو أشهر المذيع مسدّساً على المارة ليداعبهم لاهياً بتخويفهم، وهم يحوقلون ويستغفرون ربهم في شهر الخير، لكنه للسبب نفسه يبدو ضحيةَ عنفه وعنفٍ آخر عريق في المجتمع ضارب الأطناب (الأطناب هنا أنسب من الجذور). 

 بعد تكرار السؤال أكثر من عشر مرات، حول أقدم موقع روماني في العاصمة عمّان، وبعد فشل جميع الرجال في الإجابة، وأحدهم -بعد أن عرّف عن نفسه بالدكتور- ينال سخرية المذيع بأسلوب يُعتبر عادة خفّة دم أو تحبباً "بأيّ اختصاص؟"، وكأنه بالتهكّم وصم الدكتور أستاذ الأدب العربي بالخنوثة، ليأتي ذهولُ الأخير واحتجاجه بائسين، ويعقب الجواب الخاطئ مقطعٌ من "مدرسة المشاغبين" يُدرجه مخرج البرنامج على الهواء، وفي هذا المقطع المسجّل سعيد صالح تدمع عيناه من شدة الضحك فيمسح وجهه وعينيه بمنديل؛ ربما ليست الثقافة للرجال الأقحاح أمثال المذيع، فقد يرونها شأن المعاقين والمساكين والمخنّثين. المذيع القوي، والمطيع لسادته في ذات الوقت وإن لم نرَه يهرع تنفيذاً لأوامرهم، في حاجةٍ، هو ورُعاة برنامجه، إلى هؤلاء الحيارى جهلة الأجوبة. 

تفوز بجائزة المسابقة امرأة محجبة في الأربعينات من عمرها، بإجابتها على السؤال نفسه أثناء اجتيازها وابنها الصغير شارعاً فقيراً. المذيع، الصياد جوّاب الشوارع المعتمة، حليق الوجه والرأس، متضاحكاً يأمرها بفتح الظرف لترفع الجائزة أمام الكاميرا: شيك قيمته 40 ديناراً، تقدمة من البنك الإسلامي. 

*

 البدلات الرسمية، البرّاقة أو الفاخرة، وإن عبر الصور فحسب، تُشَمّ فيها أحياناً روائحُ كريهة ليست بالضرورة عرقاً. روائح حبيسة تبثّها أجسادٌ تختنق. وزير الخارجية الأردني في جامعة الدول العربية يلقي كلمة تدين عدوان إسرائيل على غزة، سلسل صفات تفخيمية كثيرة قبل أن ينطق اسم الملك عبد الله المعظّم، وبفصاحته التي تخللتها أخطاء في النحو والصرف برز في محفل الوزراء: الفحل المستجاب؛ المتلفّت حوله مراراً، ربما بحثاً عن توكيد أو تطمين، وشت نظرته بأنه يخاتل ويدّعي، بينما شعار القناة على دورانه في زاوية الشاشة، ذهبياً كالتيجان المرسومة على رؤوس الشيوخ في أوراق اللعب بين أيدي لاعبي البوكر. الملك القدوة، المؤمن، صوره معلّقة فوق رؤوس موظفي البنوك والسماسرة وتجّار التوابيت في الويبدة؛ الملك المثال في الزيّ الرياضي، ذو البدن المرصوص، المحتذى سواء في الزي الرسمي أو في الزي التقليدي لأجداده الهاشميين. كل المزايا التي تجعله، على ما يفترض الواهمون، محطّ أنظار النساء أولاً، نور العالم الذي يستقطب الفراشات. أناقته، ومثيلتها لدى الوزراء والمذيعين وأبطال الدعايات، شبيهة بأناقة الحرّاس الشخصيين. رجال أشداء "مهيبون" متواطئون فيما بينهم على هذا الشكل من الأناقة التي أحتاط بشيء من الحذر كلما صادفتها أو واجهتها.

*

الحفل انتهى. ينصرف العازف فيرجعه الجمهور بالتصفيق من الكواليس. يعود ليأخذ باقات الزهور وينحني (أو تغطي عازفة البيانو ثدييها الناصعين حين تنحني في فستانها الأسود مفعمة بالرضى)، ثم يعود مرة أخرى والمصفقون واقفون هذه المرة، وبإلحاحهم يرتجل لحناً يكون على الأرجح معدّاً من قبل والفرقة قد تمرّنت عليه. المتنبئون في القاعة متعددة الطبقات، والمتفرجون بالمناظير على أصابع العازفين فوق مفاتيح البيانو وأوتار الكمنجات، ربما ينتشون بتحقق نبوءتهم في عودة العازف إلى المنصة لا بما سمعوه، فمثل هذه الحفلات مناسبة دائماً لتداعيات لا تنتهي، وقد يكتب المنزوون ما يجول في أذهانهم على برنامج الحفل. هل التصفيق انتقامٌ أم امتنان؟ مَن بدأ أو مَن اخترع هذا النهج في السعادة والتكريم؟ كيف صار صفع الهواء بين الأكفّ شكلاً من الثواب والمكافأة؟ أليس انتهاكاً هذا الهتاف الأصمّ بالأيدي، بعد ساعتين من لذّات الصمت والشرود وأحلام اليقظة؟
جالساً وحده أمام التلفزيون، يستمع الموسيقيّ العاطل عن العمل إلى هذه الحكاية تردّدها القرون داخل رأسه: الحفاوة دليل على الأهمية. يقشعرّ بدنه، قشعريرة حقيقية في تلك الوحدة الشاسعة، كأنه معنيٌ حقاً بهذا الهدف الذي يُنعَت بالجليل، أي الوصول إلى الجمهور العريض، كأنه المؤلف الخفي وليس العازف البادي للعيان. يفكّر: مَن هم هؤلاء الحاضرون؟ جمهور الموسيقى الكلاسيكية كجمهور التنس، غامضون، أثرياء. ربما أحبّ اللطخة البيضاء في غرّة مارتا أرغريتش، الشبيهة بسوزان سونتاغ. هل رجولتهما تستهوي المراهقين؟ أم أنه جمالهما بما فيه من فصاحة ملامح؟ أم هي متلازمة واردنبرغ التي تذكّر بعيون القطط السيامية، حيث لكل قزحية لونٌ والغرّة مُنارةٌ ببقعةٍ من الشيب والأذنان موقورتان لا تسمعان أحداً؟ أهذا ما يريده الوحيدون أيضاً؟ الشهرة؟ أهذا هو الطموح، رامياً إلى تكرار صفحة أخرى في كتاب حزين؟ يقول في سرّه: "ستصلُ الزائرة بعد دقائق، وإذا أخبرتها بأنني أحببتُ لحناً دون سواه، ثم أسمعتها التسجيل المرئي المقصود، فقد تراني في موضع العازف الذي يتلقى التصفيق، برهاناً على ما يسمّى النجاح، تراني في موضعه تنهال عليّ المدائح، غريباً في مستقبل نفسي. هذا الافتراض يثنيني عن مشاركة الفكرة مع أحد، فأبقي لنفسي ما أحسستُ به وسوف أنساه بعد قليل".