أن تكون هناك… شهادات لكتّاب عرب زاروا فلسطين المحتلّة (٢/٢)

2017-06-10 01:00:00

أن تكون هناك… شهادات لكتّاب عرب زاروا فلسطين المحتلّة (٢/٢)
حجي جابر . محمود الريماوي . خالد عويس

أن يكون الإنسان العربيّ هنا على أرض فلسطين، متحدياً عسكر الاحتلال والحواجز والجدار والأسلاك الشائكة.. فهذا يعني أولاً انتصار إرادة الفلسطينيّ صاحب الأرض والحق، ومن ثمّ انتصار إرادة العربيّ الذي قرر أخيراً أن يزور أخوته في سجنهم الكبير رغم كل التحديات.

"ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية" الذي استضافته مدينة رام الله الشهر الماضي، كان فرصة لعدد من الروائيّات والروائيّين العرب لزيارة جزء من الوطن المحتلّ، وهو ما يعزّز حضور الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة التي تنمو وتنضج في جوّ من التحدّي الإيجابيّ.

رمان تواصلت مع خمسة من الكتّاب العرب، من الذين وطأت أقدامهم أرض الوطن المغتصب لأول مرّة، ليسجلوا انطباعاتهم عن فلسطين المتخيّلة التي تجسدت صورها في الوجدان بأبهى حلة، وفلسطين الحلم التي صارت رؤيتها واقعاً.. فكان هذا الملف عن زيارة فلسطين الأرض والإنسان والثقافة بوصفها فعل مقاومة، فلسطين الزيتون والحجارة والمواويل..

الروائيّ الفلسطينيّ الأردنيّ محمود الريماوي: أكواب من العسل يسبقها كوب من البول

 كانت المناسبة دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينيّة للمشاركة في الملتقى الروائي العربي الأول الذي نظمته الوزارة  بقدر ملحوظ من النجاح  قياساً إلى ضيق ذات اليد، والمصاعب اللوجستية. بالنسبة لي كانت فرصة لزيارة البلاد، وهي الثانية خلال نصف قرن (كم نصف قرن في العمر؟).

الإسرائيليّون على الباب.. بطاقية الكيباه التي لا تتناسب مع الزي الغربي، والرطانة العبرية، والعلم الأزرق المتكاثر، وغلبة عدد الموظفات الشابات على الموظفين الذكور. إنهم يستغربون قدوم الفلسطينيّين إلى ديارهم، ويتصرفون بشعور من يُفاجأ بأمر غريب. إذ برغم التضييقات كلها ما زال الفلسطينيّون وفيري العدد ويتدفقون على البلاد.

أغبطُ الإسرائيليّين في سريرتي على هذه الموهبة الفياضة في التمثيل الآلي المتقن، وكأنهم أعضاء في فرقة مسرحية تدربوا على النص نفسه مئات المرات فأصبح جزء منهم، وأصبحوا جزءاً منه. تمثيل يمكّنهم من سرقة وطن بأكمله.

موظف الجوازات الأثيوبي الذي يبدو حديث العهد بعمله سألني بصوت خافت: أين تقع بلدتي بيت ريما؟ أجبته بالقرب من رام الله. وكتم  مشاعره. وكتمت مشاعري حتى لا أمنحهم ذريعة لتأخيري فيما لو جهرت له أنّ هذه البلاد بلادي. وأنني  من يحق له سؤاله: أنت من أين؟ وماذا تفعل هنا مع أبناء البلاد؟ يعرفون ملف كل من يدخل. لم يظهر عليهم أيّ اهتمام بألف مقالة على الأقل كتبتها ضد احتلالهم. وسوى ذلك السؤال لم يوجهوا لي أيّ استفسار، باستثناء دعوتي للانتظار من أجل التشييك الذي لم تتعدّ مدّته 15 دقيقة. كنت قد اخترت الطابور قليل العدد للأثيوبي مُقنعاً نفسي أن ثمة ما يجمعنا وقد يهدئ من توتري: البشرة السمراء. خلافاً للموظف الأوروبي الأصل والسحنة والذي يتصرف وكأنّ فلسطين التي أسموها إسرائيل هي امتداد للقارة الأوروبية، وأنّ من "الطبيعي" أن يكون هنا. وقد أمكنني الانفكاك من الطابور المؤدي إليه.

أما الموظفات وراء الزجاج أو المتمشيّات في الممرات فبصرف النظر عن أصولهنّ، فإنهنّ يبدونّ أقل توتراً وعلى ميل للانشراح، ومستمتعات بالوظيفة الذكوريّة التي لا تخلو من إثارة: معاملة أهل البلاد كغرباء، وتحت سطوة السلاح والجمال الأنثوي، مع نزر ضعيف من التعاطف مع القادمين. إنهنّ يمثلن الجانب المفتوح على/ أو المهيأ للجنوح إلى الانشراح في العرض المسرحي، رغم القتامة العامة التي تكتنف العرض.

إذن هذا هو الثمن الذي عليك يا محمود أن تدفعه قبل أن تتذوق عسل اللقاء برائحة البلاد وبأنفاس أهلها/ أهلك. لا بد في محطة العبور من تناول شراب كريه المذاق والرائحة، يشبه البول البشري، يتكفل به الإسرائيليّون من مختلف السحنات والأصول. ليكن، فالوطن يستحق، ليكن.

وليس بعيداً عن المعبر الإسرائيلي ( كيلومتران فقط بالباص) هناك الاستراحة الفلسطينيّة وعلى بابها عبارة: دائرة الحدود والمعابر. يتولى هناك موظف الترحيب العفوي بالقادمين مع تناول العصير والتقاط الأنفاس. لقد تخلى الإسرائيليّون عن التزامهم بالتفاوض وفق جدولة "اتفاق أوسلو" حول قضايا الوضع النهائي، ومنها الحدود والمعابر. إذ رأوا أن استمرار الوضع على ما هو عليه قبل الاتفاق هو أفضل لهم. تلك هي أخلاق عصابات الشوارع. إنها البلطجة العصرية المتواصلة فصولاً منذ نصف قرن. والإسرائيليّون لا يملّون من أداء عرضهم المسرحي، والفلسطينيّون لا يتركون فرصة أو منفذاً للعودة إلا ويهتبلونها. هم يعرفون ونحن نعرف. الفرق أنهم مدججون بالأسلحة، ويمنعون أنفسهم من أن يكونوا بشراً طبيعيين.

الروائيّ الإرتريّ حجي جابر: فلسطين .. من الوجدان إلى الواقع

عملتُ صحفياً لسنوات طويلة، وطوال تلك الفترة كان يتردد اسم فلسطين بكثير من التفصيل والإسهاب حتى استقرّ في ذهنيّ أنّي أعرف فلسطين تماماً، أفهم مأساتها، وأستطيع بكل يسر أن أعدّد أسماء أبرز مدنها المشهورة بجمالها وإيغالها في التاريخ. ثم حدث أن أتيحت لي فرصة زيارة فلسطين، أو جزء منها، بدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينيّة، لحضور الملتقى الأول للرواية العربيّة الشهر الماضي، فانقلب كل شيء في ذهني واكتسب معنى جديداً. ذهبت بمشاعر مرتبكة، كل خطوة تقرّبني منها ترفع من توتري. بدا أنّي مقبل على حدث مختلف واستثنائيّ، وقد كان.

أمضيتُ أسبوعاً كاملاً في رام الله وعدد من المدن الفلسطينيّة الأخرى. كنتُ أسير مشدوهاً لا أملك القبض على مشاعر محدّدة، كل شيء مختلف، يحدث للمرة الأولى، له طعم الدهشة المبكرة.. كل هذا صحيح، لكنّي في المقابل كنت عاجزاً عن رصف كلمات قليلة إلى جوار بعضها لأقول ما يعنيه ذلك بالنسبة لي. كنتُ أواجه من يسألني بهذا العجز، وكان الجميع يتفهّم حالتي، فأنا القادم للمرّة الأولى، المنتقل حديثاً إلى منطقة لطالما سكنت واستقرّتْ في الوجدان دون أن يكون لها من الواقع المعيش نصيب. حين تأكدتُ من حالتي تلك أحجمتُ عن تكرار المحاولة وانشغلتُ بكليتي بملء حواسي بكل تفاصيل هذا المكان، الإنسان والهواء والأشجار وحجارة الطريق.

في فلسطين قابلت إنسانها، الشاعر والصحفيّ والممثل، والطبّاخ والعامل، كنتُ أتأمل وجوههم، أنصتُ لأصواتهم، ليس لما يقولونه، بل لتلك النبرة، للموسيقى التي تخصّ المكان وحده وتحدد معالمه.

في فلسطين كنتُ أرى وجهي في وجوههم. الإرتريّ الذي حطّ فجأة على أناس لم يعتادوا على ملامح لا تُشبههم. وكنتُ أشعر بالغبطة وأنا أخبرهم أني من إرتريا، وأشرح لهم قليلاً عن بلدي، وأنتظر انطباعهم البكر.

في فلسطين رأيتُ معنى المقاومة، أن تقاوم ببقائك في المكان، بالتأقلم مع العزلة، بالتعايش مع الحياة المنقوصة.

في فلسطين تابعتُ قضية الأسرى عن قرب، قابلتُ أهاليهم وخجلتُ من نفسي. لم يكن ممكناً دعمهم، لا يدعم الضعيف الأقوى، كنتُ في حقيقة الأمر أتكئ عليهم وأستمدّ منهم القوّة.

في فلسطين اقتربتُ من معنى الاحتلال، لمستُ أضراره الكامنة في التفاصيل أكثر منها في الصورة العامّة التي تنقلها وسائل الإعلام

حين عدتُ من فلسطين الحالة والتجربة، كتبتُ سطراً واحداً أعتقد أنه يعبّر تماماً عمّا خرجتُ به: لم أزر في حياتي بلاداً كفلسطين، ولا أظنني سأفعل!

الروائيّ السودانيّ خالد عويس: فلسطين هناك.. فلسطين هنا

كالمشي على أمشاط القلب، كالمشي على بحيرة من العشب الطريّ، كالمشي نحو سماء أرضيّة لا انتهاء لحدود روحها، كالإصغاء إلى نداء البعيد، الما ورائيّ، كالاختلاط بالبدء، والامتزاج بالأمشاج الأزليّة، هو الانسراب إلى فلسطين. هو احتواء متبادل، حين تهبط/ تصعد إليها، إلى فلسطين.  تحتويك ببهرجها الروحيّ المذهل، وروحها اللطيفة الخفيّة، بأحمال التاريخ المؤسطر، بمآذنها وكنائسها، بالبشر اللطيفين، بالصباحات الناعمة، كمخدة ليّنة، والمساءات الموغلة في الشجن والشعر والموسيقى. ولكل شيء طقس هنا. هنا الحياة تأتلق وسط وحشة الموت، تتفجر على نحو استثنائي، هنا حياة على حواف الخطر اليوميّ، لكنها تستحق أن تُعاش على أكمل وجه. فمثلما للموت نورانيّته، للحياة نورانيّتها.

فلسطين هناك، الصورة المتخيّلة، المكان المستحيل، العابرون، الرسل والأنبياء والمحاربون والمناضلون والشعراء والفنانون والمزارعون والعمال. الزيتون والزعتر و.. القضية. الجبال والشوارع العتيدة والصلوات. الموت والحياة. الولادات، ولادة الحياة، وولادة الموت. هناك، العالم المترامي الملفوف في الغموض والسحر.

وهنا، هنا فلسطين، تعيش كل ذلك، وأكثر! في ليلتي الأولى في رام الله، بالكاد نمت ثلاث ساعات. ما من وقت أضيعه في النوم. روحي كانت عطشى لمعانقة الفجر، والتربص بشمس صباحيّة لا تشبه غيرها، فهي، هنا، أشرقت على تواريخ سحيقة وأحداث كبيرة. أشعتها قبّلت شجيرات الزيتون، ومسدّت أكف المناضلين الماسكين على زهر الكرامة. رحت أعدو - بروحي - على الأرصفة التي تستحم تحت الشمس الواهنة، أركض من يافا إلى غزة، ومن رام الله إلى النقب. أرقص الدبكة، وأصافح الناس، كل الناس هنا، أمرر يدي على التراب، أشمه، أتذوق طعام فلسطين، أرتوي بمائها، أرتوي بها، بفلسطين. جئتها متعباً، فهدهدتني. وزاهداً في الكتابة، فأغرتني. كل لحظة هنا، حياة كاملة. كل زاوية كون. كل روح، ولو لطائر عابر.. تجربة فريدة. لكل شجيرة زيتون حكاية، ولكل ركن قصة. لكل إنسان هنا وجع خاص، وفرح لا نهائي. الناس هنا يمدونك بطاقة جبارة. يمدونك بالقدرة على رؤية الوجود كله بشكل مغاير. أم الأسير التي تجاوزت عتبة الثمانين، وتناضل، وتتشبث بالصبر والحياة، وتداري دموعاً غالية! يا لها من قوة إنسانية جبارة!

الشاعر الذي خسر كل أصدقائه أثناء النضال! سائق التاكسي الذي يعرف أنك غريب/ قريب، فيقسم أن يدعوك إلى فنجان قهوة. 

هنا، لكل شيء روح خرافية. لكل شيء معنى عميق. لكل شيء أثر في النفس. هنا، المادة متجردة من خواصها. والروح حاضرة. ففلسطين روح. روح تحفر وجودها بمثابرة عجيبة، بالنضال اليوميّ البسيط، بالحجر، بالسجون، بالابتسامة، بالشعر، بالغناء، بالصلوات، بالفرح والحزن، بفلسفة الحياة على نحو مغاير.

ما من رحلة مسّت أعماقي بهذا القدر مثل رحلة فلسطين. إنها رحلة عبر الزمان والمكان الخالدين. إنها رحلة تجمع في قمشاتها كل شيء، وأنت، أنت هناك تولد من جديد!

لقراءة المشاركات الأخرى... هنا.