يسار ليس مع الثورة، يسار إصلاحي

2017-06-13 01:00:00

يسار ليس مع الثورة، يسار إصلاحي
هاني زعرب، “حديقة الذكريات”، أكرليك، زفت وأصباغ على قماش، 150x160 سم، 2016

التغيير يستلزم الثورة، ورغم أن الأفكار التي انتشرت بُعَيْد انهيار الاتحاد السوفيتي باتت "تفبرك" تصوراً للرأسمالية وردي، حيث غدت "حضارية"، ولهذا "انتهى زمن الثورات"، فإن الواقع أظهر أنه ثوري. فليس من إمكانية للتغيير دون ثورة، لأن الرأسمالية لا تتنازل بسهولة، فقط لأنها "ديمقراطية" و"حضارية"، وهي أصلاً ليست كذلك حين يجري مسّ مصالحها وتهديد وجودها. ولا شك في أن الواقع قد أسقط وهم "نهاية الثورات"، وكشف عن واقع ثوري لا بدّ أن تقود السياسات الرأسمالية إلى تفجّره. فالنهب سمة جوهرية فيها، والإفقار نتيجة "طبيعية" لهذه السياسة، وبالتالي فإن تعزيز التراكم الرأسمالي ومركزته يفرض حتماً الفقر والبطالة، ومن ثم انفجار الثورة.

لكن إذا تلمسنا وضع اليسار العالمي (فيما عدا مجموعات ماوية، وأخرى تروتسكية) نجد أنه كان يميل إلى الإصلاح وليس إلى الثورة. كان ذلك قبل العولمة التي أتت بـ "نظرية" حضارية الرأسمالية. أي أنه كان في أساس وجوده "محباً" للرأسمالية، ومنتظراً انتصارها. فقد كان يطرح تحقيق الرأسمالية وليس تجاوزها كما أشرت قبلاً، لهذا كان "يناضل" من أجل "النظام الديمقراطي" الذي يسمح بالنشاط العام، وبالتعبير عن الرأي، بالضبط لكي يرشد الرأسمالية. فهو بحاجة إلى المساحة التي تسمح له بأن يُعلن آراءه، تلك الآراء التي تنصّ على ترشيد الرأسمالية، ونقد "أخطائها"، وتحديد "السياسات الصحيحة" لها. فهو يحبّ مهنة "مرشد عام"، لطبقة عليها أن تقوم بمهماتها، لكنه يظنّ أنها تتلكأ، وربما لا تعرف كيف تحققها، لهذا يتقدم كي يقدّم لها النصح والإرشاد، و"النقد" (النقد الرفاقي طبعاً). فهي مَنْ عليها أن تنجز المهمات الديمقراطية التي هي خاصتها، خاصتها وحدها.

في الماضي كان ينشط من أجل حقوق العمال والفلاحين، ويناضل من أجل نظام ديمقراطي، حيث كان يُدرج نضال العمال والفلاحين في منظور إصلاحي يتحدد في تحقيق مطالب، دون أن يتضمن تطوير الصراع الطبقي بما يفضي إلى الاستيلاء على السلطة. وربما هذه الفكرة الأخيرة كانت تثير الرعب لديه، ما يجعله يهيل الصفات على مروجيها، لأنهم طفوليين، ومغامرين. فلا شك في أن الانطلاق من أن التطور يقتضي أن تقوم الرأسمالية بدور "القيادة" كان يجعل اليسار هذا في وضع "الداعم" والمرشد، وبالتالي كان يؤسس كلية منظوره على الإصلاح، أي النقد الذي يفرض على الرأسمالية إصلاح "أخطائها" و"سياساتها".

لهذا فهو يسار إصلاحي وليس يساراً ثورياً. يسار رأسمالي إذا جاز القول، بالضبط لأن كل همّه يتحدد في إنجاز "المرحلة الرأسمالية"، أي في تكريس سيطرة العلاقات الرأسمالية، والدولة الرأسمالية. كل همه يتمثل في أن تنتصر السلطة الرأسمالية، وأن تنجز مهماتها. من هذا المنظور يبني رؤيته لعملية التطور، وأقصد كلمة تطور، لأن ما يجري بالنسبة له هو تراكم متتالٍ من "تحقيق المهمات الديمقراطية" (التي تُلقى عادة على عاتق الرأسمالية) يؤذّن باكتمال سيطرة الرأسمالية. وهو تراكم تطوري يُنجز على مراحل طويلة المدى، حسب جهد الرأسمالية، التي تحقق مهمة ثم تنكفئ متوقفة عن استكمال المهمات الأخرى، وبالتالي يجري الضغط عليها من أجل أن تحقق خطوة أخرى، وهكذا، إلى أن تتحقق المهمات البرجوازية وينتهي دورها "التاريخي".

في هذا المسار لا مكان للثورة، بل للضغط والنشاط المطلبي، والحلم بتحقيق الديمقراطية، لكي يعبّر اليسار عن ذاته بشكل أفضل (شرعي وعلني)، ويقوم بالتالي بمهمته التاريخية على أكمل وجه، حيث حينها يستطيع إيصال تصوراته ونقده وملاحظاته إلى السلطة الرأسمالية، ويسعى لأن تُحقِقها خدمة لمصالحها هي، وللمصالح "التاريخية العامة". هنا هو لا يميل إلى الثورة، ولا يرى بأن التناقض الطبقي يمكن أن يتفجّر نتيجة تمركز الثروة، وإفقار الطبقات الشعبية، ومن ثم لن تستطيع انتظار المسار التطوري الطويل الذي يقترحه هذا اليسار، لأنها تريد أن تعيش لا أن تموت قبل أن يتحقق ما يتوهمه هو.

التغيير هو تراكم وليس ثورة، هذا هو ملخّص منظور هذا اليسار. لهذا لم يكن يفكّر في التغيير، وحصرَ دوره في الإصلاح فقط. ولقد بنى كل سياساته على "المطالبة" و"المناشدة"، والتركيز على ما هو مطلبي و"ديمقراطي"، وحصر الصراع الطبقي في هذه الحدود الضيقة، التي ربما تكون بداية نشاط لكنها ليست كل النشاط في الصراع الطبقي. لأن السؤال الجوهري هنا هو: هل أن هذه المطالبة تقوم على تحقيق هذه الطالب في إطار البنية الرأسمالية القائمة أو لا بد من تجاوز هذه البنية لكي تتحقق المطالب؟ وأن الأمر يتوقف على هذه المطالب أم أن المطلوب هو تحقيق تغيير طبقي يتضمن هذه المطالب؟

إن موقف "اليسار الممانع" من مجمل الثورات العربية كان مرتبكاً، وليس من الثورة السورية فقط حيث كان معادياً بشكل وحشي، بالضبط لأنه أصلاً ليس مع الثورات. وأن منظوره انحكم لموقف سياسي أكثر من انحكامه للصراع الطبقي. حيث هلّل للثورة على النظم التابعة، بالضبط لأنها تابعة وليس لأنها رأسمالية ونهّابة واستبدادية. وكان المهم بالنسبة له هو أن تسقط هذه النظم التابعة وليس كيف ينتصر البديل الذي يعبّر عن الطبقات الشعبية. وكأن النظم التابعة يمكن أن تنتج نظماً وطنية من داخلها. وأن الشعب هو ما "سخّره الله" لهذا "الهدف النبيل" ليس أكثر من ذلك.

الثورة أو الإصلاح؟ اليسار كان في الغالب مع الإصلاح ولم يكن مع الثورة. ومن كان بداية مع الثورة سرعان ما تكيّف مع الإصلاح. ولا شك في أن من يرفض تجاوز الرأسمالية سيبني إستراتيجيته على أساس إصلاحها. وهو هنا لا يعترف بالصراع الطبقي بل يصرّ على "النضال المطلبي"، و"الديمقراطي"، ويقبل أن يكون "مركزاً استشارياً" لبرجوازية غير قائمة، يظلّ منتظراً قدومها. ولهذا يتوهم في كل لحظة أنها "خُلِقت" في شخص ما، أو حزب ما. ليبدأ في دعم هذا الشخص أو الحزب، مع "روشيتة" في مقترحات وتوضيحات ومطالبات.  فهذه هي مهمته "التاريخية" لكي يهيئ "مسرح التاريخ" لانتصار الاشتراكية.