وودي آلن: السخرية والحب في مواجهة العالم

2017-06-14 06:00:00

وودي آلن: السخرية والحب في مواجهة العالم
المخرج الأميركي وودي آلن

يتضح الآن لنا، بعد عرضنا لبعض جوانب عمل الرجل، ما الذي يفصل بين قسمي الجنس البشري اللذين تكلمنا عنهما في بداية المقال: المتيّمون بآلن هم عادة من يضحكون على العالم، بالرغم من قسوته؛ ويقهقهون على النكت والمزحات، السخيفة والعميقة؛ يعجبون بأوسكار وايلد وغوغول، وكل الجاز الأمريكي؛ ويستمتعون بكوميديا فؤاد المهندس؛ وغالباً يفهمون أبا نواس بشكل أعمق مما يفهمه القسم الثاني من البشر: ذلك الذي يُعجب بمخرجين من قبيل ديفيد لينش ولارسن فون ترير، ويقرؤون بيكيت وت. س. إليوت؛ ويرددون خزعبلات ما بعد الحداثة؛ ولا يفهمون جميل بثينة أو كثيّر عزة؛ ويُعلون من شأن المدعو فريدريك نيتشه. 

إذا نظرنا اليوم إلى عالمنا، وما يعصف به من مآسي وحروب ونكبات، لاستطعنا، بشكل موضوعي، أن نقسم الجنس البشري إلى قسمين: أولئك المتيّمون بوودي آلن، وأولئك اللذين لا يفهمون السخرية المرّة المرحة من عبثية وجودنا.

أنا أنتمي إلى النوع الأول، وأحب كل أعمال اليهودي العصابي بلا استثناء: من الأفلام الكوميدية الخفيفة في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات؛ إلى الكوميديا الغريبة في السبعينيات، بما فيها من خيال علمي، وسخرية عميقة من الأدب الروسي، مع فهم معمّق له، كما في "لاف آند ديث"؛ وصولاً إلى ذروة إبداعه الممتد من نهاية السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات: في "مانهاتن" و"حنا وأخواتها"، على سبيل المثال؛ ثم الهبوط المريب والمفاجئ في سوية أعماله في التسعينيات: فرح عادي، لا يني يشدّ المشاهد دوماً بخفة وصدق وسذاجة، دون أن يصل أبداً إلى ما بلغه في الثمانينيات؛ انتهاءً  بالأفكار شبه المكررة في الألفية الجديدة، مع التحفة الصادمة، "بلو جاسمين"، والأداء الأسطوري لكيت بلانشيت. 

سأكون واضحاً صريحاً مباشراً فيما يتعلّق بمحبتي لسينما وودي آلن: أنا لا أفهم كثيراً في السينما: أعني أنني لا أفهم تقنياتها، من إضاءة وتقسيم مشاهد وغير ذلك. ولكنني هاو لها، هاو متيّم، في الحقيقة: ينبع اهتمامي بها من ذات المصدر الذي يجعلني أهوى الفلسفة وبقية الفنون: أن أستمتع بها، وأتعلّم منها كيف يحيا المرء حياته اليومية. 

في سينما آلن، ثلاثة مواضيع رئيسية متكررة باستمرار، وثلاثة دروس مستفادة منها لحياتنا اليومية: التحذير من سموم الثقافة؛ الحب هو الإجابة على سؤال الحياة؛ عبثية الكون أمر مضحك.

الموضوع الأول يشغل المخرج بعمق: لماذا لا يفهم معظم المثقفين الحياة؟ لماذا يخترعون مشاكل وهمية؟ لماذا يعيشون في اكتئاب دائم؟ في "مانهاتن" تبدو مشاكل أبطال الفيلم وهمية، نتيجة لتفكير مبالغ فيه؛ في أفلام أخرى، كما في "ليتيل تايم كروكس"، يتلاعبون ببساطة الناس لمصالحهم الشخصية؛ في معظم الأفلام، يظهرون كمدّعين فارغين؛ وهناك بالطبع النهاية الساحرة لـ"هوليوود إندينغ"، حيث يحتفل الفرنسيون المتثاقفون بفيلم أخرجه وودي آلن أثناء إصابته بالعمى! أكثر من ذلك، لا يعرف المثقفون كيف يحبون: وهنا، بالضبط هنا، يعلن الرجل عن خيبته من هؤلاء المثقفين.

وهذا يقودنا إلى الموضوع الثاني: الحب هو الجواب الشامل النهائي في أفلام آلن، أو في معظمها، للدقة. على سبيل المثال في "كرايمز أند ميسيديانوس" و"هازبندز آند وايفز" و"سبتمبر"، وهي بعض أكثر أفلامه كآبة وتشاؤماً، لا يبدو أن هناك جواب على أسئلة الحياة. ولكن هذه استثناءات. في بقية أفلامه، يبدو الحب قوة عمياء غير واعية: انظر إلى "واتيفير وركس"، أو "حنا آند هير سيسترز"، أو "مانهاتن"، أو "زايليغ": كل ما يجب فعله هو القبول بالحب؛ وفي بعض الحالات، الصراع من أجله. الحب يأتي بأشكال مختلفة: فريدة مدهشة، في بعض الحلات؛ هادئة متوقعة، في أحيان أخرى: كيفما أتى الحب، علينا الاحتفاء به. الحب هو ما ينفعنا في مواجهة هذا العالم غير المفهوم.

العالم غير المفهوم هو الموضوع الثالث المتكرر: عالمنا، يخبرنا آلن، لا يمكن فهم تعقيده: الكون فارغ وبلا معنى: كلنا سنموت في النهاية؛ لا الدين يساعد، ولا الفلسفة: كما نرى في "ستاردست ميموريز" و"ديكونستراكتينغ هاري" و"واتيفير وركس" وغيرها. ولكن آلن لا يتوسّل هذا العالم الفارغ لزرع الحزن: على العكس، يسخر ويمرح بلا انقطاع من كل ما يصيبه ويصيبنا. 

يردد البعض أن آلن يهودي، وموقفه محبط من القضية الفلسطينية. صحيح؛ وهو ليس الأول، ولا الأخير، ممن لا يفهمون السياسة: قائمة الأدباء والفنانين والفلاسفة ممن يفشلون في فهم ألف باء السياسة غير نهائية. وهذا أمر طبيعي. تذكروا أن العكس صحيح: معظم العاملين في السياسة ووحولها لا يفهمون في الفن؛ بل يخرّبونه، حين يشجعون نماذج بدائية من الفن المباشر السطحي، ذلك الذي يحمل رسائل مملة عن الحق والخير والجمال. 

ولكن ليس كل الفن الدعوي تافه: معظم أعمال وودي آلن تحمل رسائل واضحة وصريحة. لا يوجد معيار نهائي يحكم على الفن بما هو فن، بناءً على حمله أو خلوه من الرسالة: أشرس القائلين بالفن للفن، أوسكار وايلد، تحمل بعض أعماله رسالة أخلاقية. الملل الذي أورثته لنا "الواقعية الاشتراكية" بتعاليمها المباشرة لا يعني أن نتخلى عن أي رسالة. دعونا نشرح الأمر بالنظر إلى عمل آلن نفسه:

فن وودي آلن فيه رسالة، غير مباشرة، متواشجة مع القصة، ومع طريقة عرضها. هنا يكمن سر آلن العظيم، برأيي: الفكر والفلسفة والرسالة، بما هي جزء من الحياة، ومن قصصنا اليومية، وليست مقحمةً عليها من أعلى على طريقة سارتر المملة، هي ما يجعل أعماله ساحرة: المواضيع الثلاثة أعلاه هي دروس أخلاقية فلسفية في كيفية مواجهة الحياة.

يتضح الآن لنا، بعد عرضنا لبعض جوانب عمل الرجل، ما الذي يفصل بين قسمي الجنس البشري اللذين تكلمنا عنهما في بداية المقال: المتيّمون بآلن هم عادة من يضحكون على العالم، بالرغم من قسوته؛ ويقهقهون على النكت والمزحات، السخيفة والعميقة؛ يعجبون بأوسكار وايلد وغوغول، وكل الجاز الأمريكي؛ ويستمتعون بكوميديا فؤاد المهندس؛ وغالباً يفهمون أبا نواس بشكل أعمق مما يفهمه القسم الثاني من البشر: ذلك الذي يُعجب بمخرجين من قبيل ديفيد لينش ولارسن فون ترير، ويقرؤون بيكيت وت. س. إليوت؛ ويرددون خزعبلات ما بعد الحداثة؛ ولا يفهمون جميل بثينة أو كثيّر عزة؛ ويُعلون من شأن المدعو فريدريك نيتشه. 

في هذه الأيام العصيبة، ندعوكم إلى مشاهدة المزيد من أفلام وودي آلن، وتكرار مشاهدتها: بالحب، والسخرية، نستطيع مواجهة هذا العالم.