برقوق غسان

2017-07-21 18:00:00

برقوق غسان
رسم من موقع

لن يأتي زمن يقال فيه: انتهى الحديث عن غسان، وكُتب كل شيء عنه.

هذا لن يحدث أبدًا.

غسان ذلك الفدائي، المناضل، الأديب، الحبيب، كل التفاصيل التي فيه لن يستطيع أحد حصرها.

هو ذلك الاشتباك ، والالتحام المتواصل مع العدو، الاشتباكُ مكررة وجوهه حبرًا، ورقًا، رصاصًا، كل أنواع الاشتباكات غسان.

هو ذلك الطّفل الصّغير الّذي يبحث عن المخيم، هو تلك الأوراق التي حاولت الريح أن تبعثرها، فالتقطها، وصاغ منها سفنًا.

هو ذلك الأستاذ الذي رنّمت نغماتُ صوته ألحانَ القلم، وموسيقى المبراة والممحاة والرّصاص. في كل مرة الرصاصُ يتكرر بوجهيه، لأن معركته ( معركتنا) مع العدو قائمة على الرصاص.

هو ذلك الصباح المشرق على بيارات حيفا وبيادر الرملة، هو ذلك الليمون المنتشي برائحة التراب حين تدوسه أقدام المقاومين، هو الصندوق الذي اختبأت في داخله الآهات والأنات، وظلت صامتة إلى حين صمت قلمُه عن الكتابة، وسقط الإصبعُ عن الزناد.

هو مجموع القصص التي كتبها للصغار والكبار:  عائد إلى حيفا، القنديل الصّغير، رجال في الشمس، أرض البرتقال الحزين، أم سعد، عن الرجال والبنادق، القميص المسروق، العاشق، عالم ليس لنا، هو برقوق نيْسان الذي لا يتوانى عن الزهو بنفسه في الربيع، وربيع غسان تكحل بدمائه حين سقط شهيدًا، برقوق غسان يزهر كل عام ليُنبت فينا ألف غسان يقول لنا: كلما غنى البرقوق في بلادي سنعود، كلما زقزق دوري فوق سنابل بلادي سنعود، كلما نادانا الحقل سنعود.

غسان ينبت بين الزهور، وفي الشمس والبحر والمطر والغاب، لأن غسان كل ذلك لن يُكتب عنه كل شيء.

يقول غسان في برقوق نيْسان الرواية التي لم تكتمل فصولها:  

عندما جاء نيْسان أخذت الأرض تتضرّج بزهر البرقوق الأحمر وكأنها بدن رجل شاسع، وثقّب بالرصاص. كان الحزن، وكان الفرح المختبئ فيه مثلما تكون الولادة ويكون الألم، هكذا مات قاسم قبل سنة، وقد دفن حيث لا يعرف أحد، ويبدو الآن بعيداً كأنه لم يكن طوال العمر إلا واحداً من هذه الأحلام العظيمة التي تظلّ مع المرء وكأنها جزء منه، وترافقه إلى الفناء دون أن توجد حقاً، ومع ذلك فإنها قادرة على أن تكون مثل حقيقة ما، يفتقدها المرء من حين إلى آخر، ويشعر في لحظة أو أخرى ملمسها وكأنها فرت للتو من بين راحتيه.

غسان ذلك الرّصاص الّذي كانه، ذلك الحزن، والولادة والفرح، لم يكن يتمنى أن يدفن بمنأى عن فلسطين، فترابها جزء منه، لا بل هي كيانه كله وأنفاسه، وعطره، ونشوة الفرح الدائمة.

استشهد غسان، نامت عيونه قلقة في تراب غريب عن جسده، عن رائحته، لم يلتحم جسده بذلك التراب، غسان لن يموت إلا حين يلتحم جسده بالتراب، إلى أن يعود إلى فلسطين.

غسان تلك السنونوات التي تتعلق بأمها وأبيها، وفلسطين كلاهما، غسان ذلك العيد الذي كان يمتلك سروالًا قصيرًا وقميصًا من الكتان الرّماديّ، وحذاءً مقطَعًا دون جوارب، غسان ذلك الصقيع العتيق، غسان ذلك الجوع. غسان ابن النكبة، طفل من أطفال المخيمات.

"سيأتي رجل عجوز اسمه أبو القاسم، إذا أدركتَه قبل الوصول إلى البيت دعْه يأخذك إلى طلال، إنه وحده الذي يعرف أين يجده..." وقد مضت سعاد متنكّرة باتجاه النهر بعد ربع ساعة من غياب وليد الذي لم يكن يعرف شيئاً عن دوره.

وغاب قلم غسان قبل أن تكتمل قصة برقوق نيْسان، سقط يده عن الزناد بطلًا، اغتالوا فيه الجسد، لا البرقوق، توقف قلبه عن النبض، لكن شرايينه ظلت تكتب عن المقاومين الذين يروون تراب فلسطين رصاصًا.