الوطن كميثولوجيا "يسارية"

2017-07-13 15:00:00

الوطن كميثولوجيا

نكرر أن الوطن هم الناس الذين يقيمون على أرض محدّدة، ويُحكمون من نظام يمثّل الطبقة المسيطرة اقتصادياً. وبهذا يختلف منظور هذه الطبقة للوطن عن منظور الشعب. وبالتالي ليس من الحقيقة ربط الوطن بالنظام، إلا إذا كان يدافع عن مصالح الشعب. لهذا حين ينهب النظام الشعب، ويستبدّ به، لا يكون هو الوطن، بل يكون السلطة المستبدة التي تنحكم لمصالحها حتى وإنْ كان ذلك على حساب الوطن.

سيبدو حين التدقيق في منطق اليسار الممانع أن الوطن مقدس، وأن أهله "قذرون"، أو لا قيمة لهم، فهو يعلي فكرة الوطن إلى حدّ أن تصبح إلهاً، ويتحوّل إلى أسطورة، ليصبح الوطن "متعالياً". وهذه مفارقة رهيبة، لأن الوطن هو الناس، أي أهله "القذرون" وليس التراب والحجر والمساحة، بالتالي يصبح الوطن فكرة مجرّدة لا معنى لها، فكرة تصبح غطاءً لتبرير سحق الشعب. بينما ينطلق اليسار الحقيقي من مصالح الناس، ويبني منظوره على وضع الطبقات، وإن كان يأخذ مسألة الوطن بعين الاعتبار، لكن من منظور مختلف عما يكرره هذا اليسار الممانع.

فالوطن أمر لا شك بأنّه مهم، فهو الأرض التي يرتبط شعب بها، والذي يحتضن تاريخاً طويلاً صنعه هذا الشعب. وهو أساس استقرار البشر، وبناء المجتمع، وتشكّل الأمة. هو وجود مادي، لكنه كذلك فكرة مجرّدة. وبين هذا وذاك يتوه المنطق لدى اليسار الممانع. بالتالي سيبدو الوطن كفكرة مجرّدة، وليس كبشر لهم تاريخ على أرض، وانحكم لنظم مختلفة. وسيصبح الوطن أهم من البشر، وهو القيمة "العليا"، ليُقبل تدمير البشر والمدن بالضبط لأن الوطن مهدد بـ "المؤامرات الإمبريالية". والوطن هنا، كذلك، يُلخّص بالنظام، ليصبح النظام هو هذه "القيمة العليا" التي من حقها تدمير الوطن وقتل الشعب، بالضبط لأنها "معادية للإمبريالية".

هنا يضيع معنى الوطن أصلاً، فما الوطن دون البشر الذين عاشوا به ولا زالوا؟ إن مصطلح وطن نابع من توطّن البشر في مساحة معينة، في استقرار البشر على هذه المساحة، التي فقط حينها تسمى وطن. وبالتالي ليس من الممكن الفصل بين الأرض والشعب حين نشير إلى الوطن، لكن "الحكمة" و"العبقرية السياسية" تسمح بتحقيق هذا الفصل العميق (والقسري) بين الوطن والبشر كما يفعل هذا اليسار. حيث تكون الفكرة هي أهم وأعظم من الواقع، الوجود، البشر أنفسهم. فكرة الوطن وليس الوطن هو ما يسترعي اهتمام هذا اليسار. لأنه يضعها في مقابل آخر خارجي، أي الاستعمار أو الهيمنة والسيطرة، أو التدخل، الذي تقوم أو يمكن أن تقوم به دولة إمبريالية. لهذا هو يُعرّف بدلالة الخارج، وليس بدلالة الذات. ويُعلى من شأنه في مواجهة الخارج وليس انطلاقاً من الذات. ولهذا تتجسد فكرة الوطن هذه في الدولة بالتحديد. ليكون الوطن هو الدولة. ومن ثَمّ تُختزل الدولة بالسلطة القائمة.

 هذه الفكرة، فكرة الوطن، هي التي تتجسد في "الدولة". ربما نلمس هنا المثالية الهيغلية المفرطة، التي قامت كذلك على "تقديس الدولة"، بعد أن تَحِلّ "الفكرة" فيها. وهنا تكون الفكرة التي تحلّ في الدولة هي "مناهضة الإمبريالية". وهنا كما لدى هيغل الشعب تابع، ملحق لهذه الفكرة المقدسة، العظيمة، المتعالية.

لهذا ينطلق اليسار الممانع من فكرة تسكن في اللاوعي تعتبر أن "الوطن مقدس"، لكن "ناسه قذرون"، فهم "رعاع".  وبالتالي، ما دام يجري تلخيص الوطن بـ "الدولة" (أي النظام السياسي، ومن ثم بالرئيس)، تصبح هذه مقدسة، وتُلقى القداسة على الرئيس. ليصبح هو الدولة وهو الوطن. أما مَنْ يقيم على أرض الوطن فهؤلاء رعاع قذرون، يستحقون القتل إذا ما تمرّدوا. يستحقون السحق لأنهم يتمردون على "نظام وطني"، "معادي للإمبريالية".

المسألة الأساسية هنا تتمثل في أن الفكرة ذاتها تصبح هي الحاكم، وهي المطلق الذي يُخضِع الواقع. بالتالي يصبح الوطن أهم من ناسه، بالضبط لأن فكرة الوطن مطلقة، ولهذا فهي مُمجّدة، وتُعلى إلى أعلى الأعالي، أما المواطن فلا وجود له في فضاء الفكر، ولا وجود حتى للشعب، أو البشر.  لهذا يصبح "الاعتداء" على الوطن جريمة، أما الاعتداء على الشعب فأمر طبيعي ولا يجب أن يحظى بأي اهتمام. قتل الشعب ممكن أما "خدش" الوطن فلا. ماذا يمثّل الوطن؟ أو يتمثّل الوطن بماذا إذن؟

بالدولة كما أشرت، الدولة التي تُلقي بكل عبئها على الشعب، ويكون دورها سحقه من أجل تسهيل نهب مافيا حاكمة. وطبعاً يجري تلخيص الدولة بالنظام، الذي يصبح فوق الشعب، والممثل لكل القيم العليا، ومنها في الجوهر: الوطن. بالتالي يصبح الوضع مقلوباً، حيث النظام الذي هو ممثل الشعب كما هو مفترض هو المُمَجّد، ويكون الشعب كمٌّ مهمل، بل ومحتقر. يصبح الوجود هو للنظام فقط، ويكون الشعب هو الزائدة القذرة. فهل الشعب وطني؟ فقط إذا وقف مع النظام، وغير ذلك فهو "عميل" يستحق القتل والتدمير والتهجير.

اليسار تعلّق بالدولة، ومجّد الوطن، لكنه نسي الشعب، والطبقات الشعبية التي من المفترض أنه يمثّلها. هو يخلط الوطن بالدولة لكي يعطي الدولة قيمة عليا، وكأنها لا تعبّر عن مصالح طبقية، بل أنها فوق الطبقات. الوطن هو الدولة، والدولة فوق الطبقات، لهذا يجب أن تُمَجّد، أن يُدافَع عنها. حتى حينما يجري نقد النظام يجري في الوقت ذاته التمسك بالدولة، وكأن النظام ليس هو حاكم الدولة، هو السلطة التي تقرر سياسات الدولة، ولا دوله دون هذه السلطة. فالدولة هنا هي التعبير عن الوطن، تلخيص الوطن، وهي وحدها ما يمكن أن يكون وطنياً، أو معادياً للإمبريالية. أما علاقة الدولة بالشعب فليست في وارد البحث، بالضبط لأن الدولة هي كل شيء، والشعب لا شيء.

هذا المنظور يرى الواقع مقلوباً، بالضبط لأنه يبدأ من "الفكرة"، الفكرة التي تضع "الوطن" في مواجهة خارج ما، وتجعل الدولة هي حامي الوطن في مواجهة هذا الخارج. وفي الأخير يظهر الأمر كدفاع عن سلطة مافياوية، وعن نظام معادٍ للشعب، كما عن وطن مشكّل في الخيال. ويكون هذا الدفاع، فقط، نتيجة توهُّم أن النظام "معاد للإمبريالية"، حتى وإن كان ينهب ويعتقل ويسحق، ويتشابك اقتصادياً مع النمط الرأسمالي العالمي، ويؤسس ما يخدم السيطرة الإمبريالية. بينما الوطن هو الشعب المستقرّ على أرضه، والذي يحوي الدولة، والسلطة، والسيطرة الطبقية لمافيا تنهب الشعب. وحين نشير إلى مصطلح "وطني" نشير إلى مَنْ يتمسك بالأرض، بالوطن، في مواجهة السيطرة الخارجية، وليس مَنْ يفتح الوطن لغزوات "التتار". ولا شك في أن هذا المصطلح ارتبط بالموقف من "الخارج"، بالتصدي للتدخل الخارجي، لكنه وطن الشعب وليس وطن النظام.

نكرر أن الوطن هو الناس الذين يقيمون على أرض محدّدة، ويُحكمون من نظام يمثّل الطبقة المسيطرة اقتصادياً. وبهذا يختلف منظور هذه الطبقة للوطن عن منظور الشعب. وبالتالي ليس من الحقيقة ربط الوطن بالنظام، إلا إذا كان يدافع عن مصالح الشعب. لهذا حين ينهب النظام الشعب، ويستبدّ به، لا يكون هو الوطن، بل يكون السلطة المستبدة التي تنحكم لمصالحها حتى وإنْ كان ذلك على حساب الوطن.

الأصل هو الشعب وليس "الوطن" أو الدولة أو السلطة. والأصل هو الطبقات والمصالح الطبقية وليس التهويم "الوطني". فالوطني يُفسّر بالطبقي وليس العكس.