ماريو فارغاس يوسا: حكاية ديكتاتور بنمي ودّع الحياة (ترجمة)

2017-06-30 17:00:00

ماريو فارغاس يوسا: حكاية ديكتاتور بنمي ودّع الحياة (ترجمة)
ماريو فارغاس يوسا
 

نُشرت المقالة مؤخراً في صحيفة إلباييس الإسبانية، وتُرجمت عنها.

مات مانويل أنطونيو نورييجا، أحد أكثر طغاة أميركا اللاتينية فسادًا ووحشية، بعد معاناة مع سرطان في المخ، لينهي سجنه الذي بدأ في مدينته بنما منذ 2011، وبعد أن قضى 17 عامًا في سجون الولايات المتحدة وخمسة أخرى في فرنسا كعقاب لجرائمه ضد حقوق الإنسان وتورطه في تجارة المخدرات والاختلاس والتعذيب وغسيل الأموال، وقائمة طويلة من الجرائم الأخرى. ورغم أنه دفع غرامات عن مسيرته السوداء، إلا أن بناته، أغلب الظن، سيرثن الملايين المتناثرة في حسابات سرية بعرض العالم لم تتمكن عدالة ثلاث دول من استردادها. 

كانت حياة قاتمة وغائمة لرجل عُرِف بلقب "قشر الأناناس" -لوجهه المتعرج بعلامات الجدري- بدأت منذ ميلاده. المؤكد أنه ولد في حي فقير ببنما لآباء من أصول كولومبية، رغم أن تاريخ ميلاده غير مؤكد، هو نفسه بدّله عدة مرات لأسباب غامضة، هكذا قد توفى في سن 83 أو 85 تقريبًا. المؤكد أيضًا أن مسيرته الفاسدة بدأت في ظل عمر تورّيخوس، الزعيم الانقلابي الذي عزل بقوة السلاح الرئيس البنمي المنتخب عام 68 وبدأ حكمه الديكتاتوري. كان نورييجا ذراعه اليمنى وأسس خبرته في "الحرس الوطني" حتى رقى نفسه لرتبة جنرال. وفي عام 1983 تولى السلطة دون حاجة لانتخابات ليبدأ أسطورته الغريبة.

خدم نورييجا الـ CIA كما خدم النظام الكاستري، وتلقى أموالًا سرية من كلا الجانبين. وافق للولايات المتحدة على تأسيس مركز تجسس في برزخ بنما، وفي نفس الوقت الذي كان فيه مخبرًا لجهاز مكافحة المخدرات الأميركي DEA كان يعمل لمصلحة "لافتة ميديين" (مافيا تجارة المخدرات) التي كانت تودع أموالها سرًا في بنوك بنمية. وفي ذات الوقت كان يعقد صفقات ضخمة مع فيدل كاسترو وموسكو، إذ باع لهم خمسة آلاف جوار سفر بنمي ليستخدمها عملاؤهم السريون أثناء جولاتهم في العالم. أما شعبيته في أميركا اللاتينية فتحققت عندما زأر وجأر قائلًا:"ولا خطوة للوراء"، وخرج في مظاهرات ضجيجية ضد الإمبريالية على رأس "ألوية الكرامة" التابعة لسلطته.

لكنه، بعد أن أمر بتعذيب وذبح الدكتور هوجو سبادافورا، المناضل من أجل حقوق الإنسان، وهو اغتيال أثار تعاطف العالم بأسره عام 85، تغير مصيره. لقد أقسم أن يموت واقفًا، مع ذلك، عند غزو الولايات المتحدة، ودون إطلاق رصاصة واحدة، هرول ليختبئ في "نونثياتورا". هناك بقي 12 يومًا يسمع بالإكراه سيمفونية قوطية لموسيقى الهيفي ميتال التي كان يبغضها والتي استخدمها المحتلون ليعذبوا مسامعه حتى استسلم في النهاية. وهكذا بدأت رحلة الحج الطويلة لمحاكم وزنازين الولايات المتحدة وفرنسا وبنما، رحلة انتهت منذ عدة أيام بموته.   

الطغاة الكثيرون الذين ملؤوا قائمة طويلة في تاريخ أميركا اللاتينية مات أغلبهم في سريره، أثرياء بل وحتى موقّرين، بعد أن أغرقوا بلدانهم في بحور من الدم والخزي، وبعد أن نهبوا ثرواتهم وتركوهم هياكل بشرية. و"قشرة الأناناس" أحد أكثرهم بشاعة، دفع على الأقل جزءًا من ديونه خلف القضبان، رغم أنهم، لسوء الطالع، لم يتمكنوا إلا من استرداد جزء هين من ثروته التي صنعها بالفساد والآن سيتمتع بها نسله. بل وبدؤوا في ذلك بالفعل. هنا في باريس، تشير جرائد هذا الصباح إلى الزبونات الرائعات، بنات الميت أنفسهن، اللاتي كن في محلات سوبر لوكس بشارع سين أونوريه.

أتساءل كيف ستنتهي حياة نيكولاس مادورو: هل مثل فيدل كاسترو، مكسوًا بحرسه الشخصي في كتيبة بائسة ستستحيل إليها فنزويلا، أم خلف القضبان مثل الجنرال بيديلا، في الأرجنتين، أم مثل فوجيموري في البيرو؟ الحقيقة أنه ما من أحد في القائمة الطويلة لطغاة أميركا اللاتينية أنجز بطولات أسوأ من سائق الأوتوبيسات القديم الذي خلّفه الكوماندة تشافيز كوريث له (حتى لا يترك له أثرًا). لقد قوّض بلدًا هو أحد أكثر بلدان القارة ثراءً، وتركهم حرفيًا في مجاعة، بلا أدوية، بلا عمل، بلا صحة، بنسبة تضخم وجريمة هي الأعلى على مستوى العالم، بلد ينهار وبات محلًا لرفض وإدانة كل ديمقراطيات العالم. من قبل كان يلاحق ويسجن من يتجرأ على انتقاده، الآن أصبح يُقتل، وبغزارة. وكتائبه التشافيزية، وهي عصابات من المجرمين المسلحين يركبون الموتوسيكلات، ارتكبوا أكثر من ستين عملية اغتيال في الأسابيع الأخيرة انتقامًا من رد الشعب الفنزويلي الشجاع الذي انتفض في الشوارع محتجًا على التهديد الحكومي بحل البرلمان واستبداله بمجلس خدام غير منتخبين يتم تعيينهم بإشارة الإصبع، كما كان يفعل ماسوليني والاتحاد السوفياتي. كل يوم يمر على مادورو في السلطة ليس إلا عملية احتضار لفنزويلا وتتفاقم؛ لكن كل شيء يبدو أنه يشير إلى نهاية  طريق الآلام. وأتمنى أن يدفع الثمن كل هؤلاء المسؤولين عن هذه المهلكة الاقتصادية والاجتماعية التي هي نتاج للتشافيزية، بداية من نيكولاس مادورو نفسه.

يبدو الديكتاتوريون الخارجون من الكتائب، مثل بينوتشيه ونورييجا وبيديلا، قادمون من زمن آخر ليقتحموا أميركا لاتينية أخرى باتت تمتلك الآن، لحسن الطالع، من أقصاها لأقصاها، حكومات مدنية مفرّخة من انتخابات حرة إلى حد كبير، وبنسبة توافق عالية -لم يعرفها الماضي- من أجل مؤسسات ديمقراطية وسياسات انفتاح اقتصادي وتحفيز للاستثمار الأجنبي ودخول الأسواق العالمية. حقيقةً أنها ديمقراطيات تعاني في كثير من الحالات من الفساد وأنها تخضع أحيانًا لغواية الشعبوية، لكن، رغم ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار أن الديمقراطية الميديوكرية والديماغوغية أفضل ألف مرة من الديكتاتورية، كما يذكرنا الفنزويليون بذلك يوميًا.

من هنا تأتي أهمية ان نراقب ما يحدث في البرازيل. إن التعبئة الشعبية المفرطة التي أرسلت للسجن جزءًا كبيرًا من نخبتها السياسية وعددًا كبيرًا من رجال الأعمال الفاسدين لا تهدف إحداث "ثورة اشتراكية"، إنما تحسين شروط الديمقراطية وتحريرها من المحتالين الذين يقوّضونها ويفككونها من الداخل عبر تحالفات مافياوية يتكسب من ورائها عصابات حقيقية من رجال الأعمال والساسة، جزء كبير منهم، بفضل قضاة شرفاء وشجعان، يقبع في الزنازين أو أوشكوا على دخولها. هذه حركة شعبية تسير في الاتجاه السليم، لا تبغي العودة إلى الشعبوية الهذيانية التي جمدت كوبا في الزمن وأغرقت فنزويلا في بحور من الدم والبؤس، إنما تهدف تنظيف نظام عكره من الداخل لصوص يرتدون قفازات بيضاء، ليعود للعمل من جديد. لو تمكنوا من تحقيق ذلك، لن تكون البرازيل الكبيرة "بلد المستقبل الخالد" كما كانت حتى الآن وإنما ستبدأ لتتجه نحو الحاضر، لتكون نموذجًا لبقية أميركا اللاتينية.