يسارٌ محافظ

2017-07-23 13:49:00

يسارٌ محافظ
للسوري همام السيد

كان يظهر ذلك، أيضاً، في قضايا التحرر الاجتماعي، ووضع النساء، حيث ظل يتسم الوعي بطابع المحافظة، والتزمت أحياناً، كأنه من التيارات السلفية. بمعنى أنه لم يقطع مع "الوعي التقليدي"، لا في طابع العلاقات (القبلية أو الدينية أو الطائفية)، ولا في القيم المجتمعية، أو في الطموح لتحقيق التغيير المجتمعي. وهذا الأمر الأخير جعله يرى "التغيير" كتغيير سياسي محض. ربما لأنه أصبح "شيوعياً" ليس نتيجة وعي عميق بالماركسية، وكثير من معتنقيها لم يقرؤوا شيئاً منها، بل نتيجة انحياز سياسي محض، انحياز ضد الاستعمار والإمبريالية في الغالب. ومع تحسّسٍ لما هو مطلبي، لكن دون وضع هذا المطلبي في سياق مشروع مجتمعي يهدف إلى التغيير الجذري.

 

رغم أن منظور مجمل اليسار كان ينطلق من "أحقية" البرجوازية، ومن حتمية قيادتها "مرحلة التحرر الوطني"، وضرورة تحقيق انتصارها، وبالتالي أن على اليسار أن يقبل الانضواء تحت قيادتها، فقد كان المنظور الذي يحكمه يتناقض مع كل منجزات البرجوازية. وهو الأمر الذي كان يُحدث إزدواجية مربكة، ربما كان يخفيها ويجعلها مقبولة لدية هو أن البرجوازية المحلية كانت محافظة، حيث كانت متداخلة مع الإقطاع، و"متمسكة" بـ "الوعي الشعبي"، و"تقاليد الشعب"، وأصلاً ترى في الفكر البرجوازي الذي يتبلور في أوروبا عدواً لمطامحها ومصالحها. وهذا ما كرّسه الاستعمار، وقبلت به هي، بالضبط لأنها كانت معنية بالحفاظ على البنى التقليدية، وتكييفها بما يخدم مصالحها، وبالأساس مصالح الدولة المستعمِرة.

كانت الصناعة وحدها هي ما يفرض الحاجة لفكر الحداثة، وكان وعي الحداثة يفرض البحث عن مسارات تفضي إلى بناء الصناعة. هذا ما كان مرفوضاً من قبل الاستعمار، وأيضاً من برجوازية تشكلت ككومبرادور (طبقة تنشط في التجارة والخدمات والبنوك وليس في الصناعة). لهذا كانت البرجوازية محافظة في الغالب، لا تريد تغيير البنى المجتمعية، وأصلاً لا تريد تصفية الإقطاع، بالضبط لأن معظمها كان من أبناء كبار الملاك أو من كبار الملاّك أنفسهم. وكان اليسار (هنا الأحزاب الشيوعية المستمدة منظورها من موسكو) يدعم هذه البرجوازية، رغم أنه كان يركّز على بناء "الحكم الديمقراطي" ويؤكد على أنه يجب أن يقوم على أساس برجوازي. هذا هو خطاب الأحزاب الشيوعية منذ أواسط ثلاثينات القرن العشرين إلى ستيناته. حيث كان المنظور، كما أشرت قبلاً، يقوم على أن "المرحلة" هي "مرحلة الثورة الديمقراطية البرجوازية"، والتي تحققها البرجوازية، وهي مرحلة سابقة للتفكير في الانتقال إلى الاشتراكية. وبهذا كان خطاب هذه الأحزاب هو خطاب "ديمقراطي"، حيث تدافع عن المطالب المعيشية للعمال، بالمعنى النقابي المطلبي، من جهة، وبنظام برجوازي ديمقراطي من جهة أخرى.

لكن كانت "الثقافة الماركسية" التي تعممها "الماركسية السوفيتية"، والتي كانت أساس ثقافة هذه الأحزاب، تعتبر أن الديمقراطية هي برجوازية، ولهذا يجب رفضها لمصلحة "الديمقراطية البروليتارية". وكانت تعتبر كل فكر الحداثة هو فكر برجوازي، ولقد بات من الماضي، بالضبط لأن علينا أن نعتنق فكر البروليتاريا. ما هو فكر البروليتاريا، وما هي ديمقراطية البروليتاريا؟ هي النظام السوفيتي بالتحديد، الذي يمثّل دكتاتورية البروليتاريا. وهو النظام الذي تشكّل على أساس بطريركي شمولي، متخلياً عن حلم لينين بـ "أوربة روسيا" عبر ادخال حضارتها. وبهذا أصبحت الحداثة "الغربية" مرادفة لمصالح البرجوازية، المصالح التي "يجب" القضاء عليها، وكان البديل هو "وعي القرون الوسطى" الذي كان منتشراً في روسيا القيصرية، والذي أُعطي مسميات جديدة مستمدة من الماركسية، وحيث تشكلت "الماركسية السوفيتية" من هذا الاختلاط بين هذا وذاك.

هذا التناقض بين تبني النظام الديمقراطي البرجوازي ورفض الديمقراطية البرجوازية، وبين رفض الديمقراطية البرجوازية وتبني "ديمقراطية بروليتارية" هي "تقليد قروسطي"، كان يبقي هذا اليسار محافظاً في بنيته ووعيه المجتمعي. ولم يتعلّق الأمر في مسألة الديمقراطية فقط، بل أن هذه كانت نتاج القطع مع مجمل أفكار الحداثة، بما في ذلك العلمنة والفردية والعقلانية، التي كانت أحد أهم أسس نشوء الماركسية أصلاً. إن الفردانية هي محور الحداثة أصلاً، حيث يكون الإنسان هو مركز الكون، وهي محور إعادة بناء مجمل العلاقات المجتمعية، حيث يكون "الإنسان أثمن رأسمال" كما قال ستالين مرّة. لقد انتقلت روسيا من الوعي القروسطي (التقليد الأورثوذكسي) إلى الاشتراكية، ورغم أن لينين كان واعياً لأهمية تشرُّب الشعب الروسي للحضارة الحديثة، فرض تطور روسيا تغلغل "التقليد الأورثوذكسي"، وغطت الرؤية الستالينية للتطور السريع، التي احتاجت إلى الدكتاتورية، على الحاجة إلى اكتساب "ثقافة البرجوازية" تلك التي تمنى لينين أن تتغلغل في روسيا. وبهذا اختلطت أكثر لحظات الحداثة تطوراً، أي الماركسية، بأدنى أشكال الوعي تأخراً.

ليست محورية الإنسان في فكر الحداثة منعزلة عن الانتقال من الميتافيزيقا إلى العقلانية، هذه العقلانية التي أنتجت هيجل، وأوصلت إلى نشوء أهم أساس في الماركسية: الجدل المادي، الجدل الذي اعتبره هيجل منطق العقل، وأوقفه ماركس على قدمية باعتبار أنه صيرورة الحياة (الاقتصاد والطبقات). وحين تنتفي لحظة العقلانية يسقط الجدل في فخّ المنطق الصوري، بالضبط كما فعلت "الماركسية السوفيتية". فالعقلانية هي التي فرضت تجاوز المنطق الصوري، الذي هو منطق القرون القديمة، وعي الإنسان الأول ونظرته الشكلية لما حوله. والعقلانية هي التي أوصلت إلى منطق جديد هو: الجدل المادي، تجاوز وتضمّن المنطق الصوري. لهذا نجد أن منظور "الماركسية السوفيتية" هو منظور فقهي، ينحكم لمبدأ القياس (وهذا أساس في المنطق الصوري).

ومحورية الإنسان كانت تنطلق من الإنسان/ الفرد، الإنسان الذي تعالى على، وتجاوز كل العلاقات القديمة، وكسر كل البنى التقليدية التي تشكلت في السابق. تجاوز علاقات القبيلة والطائفة والدين، نحو فردية "مطلقة"، أي التأسيس للإنسان/ الفرد، هذه الفردية التي أسست لأن يعاد بناء العلاقة المجتمعية على أسس جديدة، طبقية: حيث الفرد جزء من طبقة مؤسّسة على أساس الوجود الاقتصادي. وسياسية: حيث الفرد مواطن في الدولة، وهو متساوي مع الآخرين، فالشعب هو مجموع مواطنين ينحكمون للقوانين ذاتها، ولهم الحقوق ذاتها (رغم ما يوجده التمايز الطبقي من قدرة على إحداث اختلال في ذلك).  

إن هذه القطيعة مع "العصر الليبرالي" (كما كان عبدالله العروي يسميه) كرّست الوعي التقليدي، وفي الوقت ذاته شوهت الماركسية لأنها أعادتها إلى ما قبل "عصر الأنوار". لهذا ظل هذا اليسار محافظاً في منطق التفكير، وفي العلاقات، والممارسة، لم يتجاوز الأيديولوجية التقليدية المسيطرة، وظلّ مرتعباً من تجاوزها تحت حجج شتى مثل "عدم الصدام مع وعي الشعب"، و"الحرص على وعي الشعب"، و"عدم التميّز عن الشعب". وهذا ما جعل كل خطابه "الشيوعي" كليشيهات عامة، تنحصر بما هو سياسي ومطلبي. وظلّ يخاف تبني العلمنة رغم أنها أس التطور وبناء الحداثة (التي على أساسها تتحقق الاشتراكية). وقبِل الاستبداد تحت شعارات شعبوية معتبراً أنه "النظام الثوري" أو "دكتاتورية البروليتاريا". وهو في الغالب كان يخشى التغيير، وكما أشرت قبلاً يتوهم أن التطور يتحقق بشكل تدرجي وسلمي وهادئ (وربما أقول بطيء).

كان يظهر ذلك، أيضاً، في قضايا التحرر الاجتماعي، ووضع النساء، حيث ظل يتسم الوعي بطابع المحافظة، والتزمت أحياناً، كأنه من التيارات السلفية. بمعنى أنه لم يقطع مع "الوعي التقليدي"، لا في طابع العلاقات (القبلية أو الدينية أو الطائفية)، ولا في القيم المجتمعية، أو في الطموح لتحقيق التغيير المجتمعي. وهذا الأمر الأخير جعله يرى "التغيير" كتغيير سياسي محض. ربما لأنه أصبح "شيوعياً" ليس نتيجة وعي عميق بالماركسية، وكثير من معتنقيها لم يقرؤوا شيئاً منها، بل نتيجة انحياز سياسي محض، انحياز ضد الاستعمار والإمبريالية في الغالب. ومع تحسّسٍ لما هو مطلبي، لكن دون وضع هذا المطلبي في سياق مشروع مجتمعي يهدف إلى التغيير الجذري.

إذن، نحن إزاء يسار محافظ، لا يجرؤ على رفض البنى التقليدية، أو خوض صراع أيديولوجي ضدها انطلاقاً من تقديم البديل المجتمعي الذي يفترض أن تكون الحداثة في أساسه. فليس من تطور دون بديل يتجاوز البنى التقليدية، ويُظهر للشعب إشكالياتها، وأهمية تحقيق بديل حداثي.

بالتالي، يمكن أن نستخلص بأن هذا اليسار وهو يرفض "الفكر البرجوازي" كان يرفض قيم الحداثة، ولهذا ظلّ مغرقاً في وعي تقليدي، ومدافعاً عن بنى تقليدية، كرّسها في بنى الأحزاب التي شكلها.