أمجد ناصر ‏في «شقائق نعمان الحيرة»: الشعريّة المتحوّلة

2017-07-27 15:00:00

أمجد ناصر ‏في «شقائق نعمان الحيرة»: الشعريّة المتحوّلة
أمجد ناصر

ثمّة التجانسُ الأقوى بين الغرائبيّ والمألوف، وكما يقول الشاعر العراقي سعدي يوسف في معرض تقديمه للكتاب/ المختارات: "أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك، وظلّ يطوّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ"

ثمّة تجارب شِعريّة، تخفّفتْ باكراً من الرطانة اللغويّة وثِقلها، لتتجه صوب النبرة الخافتة أو ما يسمّى باللغة المهموسة حدّ الإيماء، بالتزامن مع دخولها معترك شعرنة اليوميّ والعناية بالتفاصيل اليوميّة المتناهية في الصِغر، الحميمة والمُهملة؛ أي أنها أحدثتْ انقلاباً جذرياً على القوالب الكلاسيكيّة لديوان العرب، شكلاً ومضموناً في الآن معاً.

يأتي في هذا الاتجاه؛ تجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر، إلى جانب تجارب شِعرية أخرى، نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- تجارب كل من بسام حجار وعباس بيضون وسنية صالح وسركون بولص وصلاح فائق وسيف الرحبي ومحمد آدم ومنذر المصري ووليد خازندار وغيرهم.

يتضمن كتاب «شقائق نعمان الحيرة»، الصادر حديثاً عن "منشورات المتوسط"، للشاعر الأردني أمجد ناصر، مختارات من مجموعاته الشِعريّة الثمانية، بدءاً بباكورة أعماله «مديح لمقهى آخر»، مروراً بـ«منذ جلعاد كان يصعد الجبل» و«رعاة العزلة» و«وصول الغرباء» و«سُرّ من رآك» و«مُرتقى الأنفاس» و«كلما رأى علامة»، وصولاً إلى «حياة كسردٍ مُتَقَطّع».

شعريّة أمجد ناصر متحوّلة غير ثابتة، والتحوّل ذاك لا يغدو أن يكونَ شغفاً بالنسبة للقارئ والناقد على حدٍ سواء، التغيير بالتمازج بين جميع الأجناس الأدبيّة وإتيان المفردات والجمل الشعريّة الجديدة والتصاوير التي تبدو مباغِتة ومشبعة بالخيال واليوميّ، كل ما هو ثريّ موجودٌ في الجمل الشعريّة كاملةً، يمكن القول في هذا المنحى، أنّ أمجد ناصر بكتابته، أعطى تغييراً لمفهوم شِعريّة المتحوّل/ اللا ثابت، بحيث -ويمكننا قول هذا بكلّ ثقةٍ أكيدة- لم يعُطَ من قبل في الكتابات التي سبقت كتاباته أو أعقبتها بأجيال.   

يحتفي شِعر أمجد ناصر (1955)، باللغة الإيمائيّة أو مسرحة القصيدة، عبر ضخّهَا بمزيد من الإيحاءات والانزياحات المواربة، ثمة أبوابٌ تُفتَح آنَ كلّ قراءةٍ للقديم والجديد ممّا يكتبه ناصر، وكما ذكرنا سابقاً فإنّ التحوّل في الكتابة يُعطي البعد الأوحد للجملة الحقيقيّة النّابعةِ من رحلة الشاعر في الوجدانيّة وغوصه في عمق اليوميّ المَعيش، كلّ مفردة توضَع إلى جانب شقيقتها وفق تراتبيّةٍ لغويّة مُشبعة بعناصر الخيال كمشهدٍ باهِر مترَفٍ وباذخ: "يدٌ عند ذي العرش/ وفي الأخرى الصولجان./ المُلكُ كُلّه شهقةٌ وخيطُ ألم".

إلى جانب الإيمائيّة، ثمّة احتفاء بالبساطة من حيثُ المشاهد المُلتقطة إلى جانب العمق في التعبير؛ ولعلّ ما يميّز شِعر أمجد ناصر، بحسب الناقد صبحي حديدي، "تلك البنية البارعة التي تجعل العناصر المجازية تبدو وكأنها تتجمع على نمطٍ عشوائي أولاً، ثم لكي تباغتنا بعدئذ حين تتنافر دلالياً حتى تكاد تقترب من الهلوسة البصرية الحرة، قبل أن تلتئم مادتها أخيراً لتصنع علاقة مجازية مدهشة في ائتلاف خطوطها التشكيلية". فيما "لغته الشبيهة بصهيل الخيل مرةً، وحفيف أجنحة القطا في الصباحات النديّة مرةً أُخرى، تعلن بقوّةٍ تمردها وانفصامها عن الروح القديمة التي تسكن طوطم القبيلة".

التغيير في الشعريّة، تطوير الأدوات من خلال التخيّل والمزاوجة بين الكلمات وأضدادها، السحرُ في اللغةِ آنَ تُكبّلُ القارئ بعذوبتها.

تكمن أهميّة تجربة أمجد ناصر الشِعريّة، في تدرجها من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر ومن ثم الدخول والاستقرار في تلك المساحة الشِعريّة المتحرّرة من كل شرط أو قيد، وهو ما منح نصّه خصوصيّة قلّ ما نجدها في تجارب أخرى. 

ثمّة التجانسُ الأقوى بين الغرائبيّ والمألوف، وكما يقول الشاعر العراقي سعدي يوسف في معرض تقديمه للكتاب/ المختارات: "أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك، وظلّ يطوّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ".

في قصيدة بعنوان (هضبة تطلُّ على البحر) يقول: "إنها أيامُنا/ بيّضنَا صفحةَ الليل/ وأودعنا شقائقَ نعمان الحَيْرةِ/ في سفوحٍ لم نَطَأْها/ بخطىً كبيرةٍ عبرنا الأشجار/ لنحولَ دون يقظةٍ الفجر/ أيامَ الهبوبِ المداري للسّهَرِ/ والصعود إلى كمائنَ مغمورةٍ باليودِ".

علامات الجمال ومحو الحدود بين الأجناس الأدبيّة، هذا ما يحاول أمجد ناصر بالشعريّة العميقة المتأصّلة والمتجذّرة في كل ما يدوّنه أن يوصِله إلى القارئ، مكوّناً بذلك عالماً فريداً خاصّاً به، منفى هو ذاكرته القديمة وما يبصره بعينه شِعراً.

من الكتاب:

فتاة في مقهى "كوستا"

في مقهى "كوستا" جاءتْ وجلست على الطاولةِ أمامي مع أنّ المقهى خالٍ من الرواد في ضُحى يجاهدُ عبثاً لانتزاع شعاعٍ من سماء لندن الطلساء. كنتُ أفكّرُ في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام شاعرٍ يحاولُ أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلسُ أمامه في مقهى خالٍ من الرواد. وضعت الفتاةُ كتبَها على الطاولة وحقيبَتها على الأرض ونَضَتْ عنها سترةً عنّابيّةً من الجلد الصناعيّ فتساقطتْ قطراتٌ من المطر واندفع نهداها القاسيان إلى الأمام وارتجّا خلفَ بلوزتها. مالتْ على حقيبتها فتهدلَ شَعرُها فلمّتهُ بحركةٍ سريعةٍ إلى الخلف، أشعلتْ سيجارةً وأخذتْ ترشفُ قهوتَها وهي تنظرُ إليّ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها. أكثر من مرةٍ همّتْ أن تقولَ شيئاً ولم تفعل وأكثر من مرةٍ هممتُ أن أتحدث إليها وأتراجع. ببلوزتها الزرقاءِ نصفِ الكمّ التي تكشفُ زنديها المبرومين وبكتفيها اللتين تنطُّ منهما فهودٌ صغيرةٌ وبقدمها التي تتحرّكُ تحت الطاولة على شكلِ مروحةٍ كانت تشبهُ فتاةَ القصيدة. كلُّ الإشارات تدلُّ عليها. كان وزنُ الهواءِ وحركتُه يتغيران تحت الطاولة. أوقعتُ قلمي، كما لو سَقَطَ عَرَضَاً، على الأرض لأرى ما الذي يجري وما إن التقطتُه ورفعتُ رأسي حتى اختفت الفتاة. كان على الحائط أمامي ملصقٌ إعلانيٌ كبيرٌ لفتاةٍ تجلسُ وحيدةً تدخّنُ وتحتسي قهوةً وتنظرُ بزاويةٍ منحرفةٍ من عينيها في مقهى يشبه هذا المقهى.

............................. 

دوامةُ الهواءِ الماتزالُ تحتَ الطاولةِ

فنجانُ القهوةِ الساخنُ

السيجارةُ المُدَخّنةُ على حافّة المنفضة

المنديلُ الورقيّ المبقّعُ بأحمر الشفاه

قلبي الذي تُسْمَعُ دقاتُه من بعيد.

القصيدةُ التي فكرّتْ بقصيدةٍ أخرى وكَتَبَتها.