عن ضرورة القراءة النقدية لأرشيف الاحتلال

2017-08-08 15:00:00

عن ضرورة القراءة النقدية لأرشيف الاحتلال
جندي إسرائيلي وفلسطينيون . الناصرة . ١٩٤٨

فإذا تمعنا في التفاصيل التي أدرجت في هذا التقرير نجد أنها توثّق جانباً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حيفا قبل احتلالها. من خلالها يمكننا التعرف على الحياة المدنية المغيّبة، عن نساء يدرن المقاهي وعن مقاه تبيع الخمرة وأخرى تحتوي بيوت دعارة. كما ترشدنا المعلومات عن دور المقاهي في النشاطات السياسية وتوفير بعضها مقرات لاختباء المسلحين أيام الثورة الفلسطينية.

 تشكّل عملية كتابة التاريخ مجالاً معرفياً تنعكس فيه العلاقة بين القوة والمعرفة، كما تنعكس فيه بوضوح علاقات القوة بين الفئات المسيطرة والمهمشة. وتُعتبر المصادر المستعملة والمتاحة والمنهجيات المتبعة لكتابة التاريخ مصدراً لنقد المدارس التاريخية المختلفة. فتلك التي تعمل على كتابة تاريخ المقموعين والمهمشين والفئات غير المتعلّمة، توجه سهام النقد إلى عملية التأريخ التقليدية في اعتمادها الحصري على المستندات والأرشيفات. وتستند هذه المدارس في نقدها على الادعاء بأن الأرشيف، كما التاريخ، يؤرخ رواية المنتصر، وأن المستندات تستعمل لتوثيق رواية المنتصر ويشكّل الأرشيف مكاناً يحفظ هذه الرواية لأجياله القادمة. 

على الرغم من صحة هذا الادعاء، وأهمية الشهادات الشفوية، كألية معرفة بديلة وكإحدى الوسائل القليلة المتاحة للفئات المهمشة للمساهمة في تدوين التاريخ، عبر سردها للأحداث شفوياً، وفي كونها أداة تحرر ووسيلة لها دور مهم في بناء الذاكرة الجماعية وفي بناء خطاب مضاد لفئات خاضعة للهيمنة الكولونيالية. إلا أن هذا النقد، وعلى الرغم من أهميته، يغفل، في بعض الأحيان، صفة الفاعل ووكالة الباحثة المناهضة للكولونيالية ولا يثمن كفاية، فعل القراءة النقديّة للمستندات المتوفرة في أرشيف المستعمر، كفعل تحرري.  

ففي أرشيف المستعمر، وعن الحالة الفلسطينية أكتب، تتوفر المئات بل آلاف المستندات وآلاف الصور التي توثّق للحياة اليومية في فلسطين قبل احتلالها، كما مستندات توثّق للحياة لاحقاً، تحت الاحتلال. لم تهدف هذه المستندات لتوثيق حياة الفلسطينيين والاعتراف بوجودهم، بل كانت تُجمع بهدف استخباراتي سعت من خلاله الحركة الصهيونية إلى التعرّف والتعمق في الحياة اليومية للفلسطيني والتعرف على مكامن قوته وضعفه لتستغلها في محاربته وطرده من بلاده، كما حدث في النكبة. 

فعلى سبيل المثال، تشمل ملفات، ما بات يعرف بـ"ملفات القرى" في أرشيف الهاجانا، معلومات مفصّلة عن كل القرى والمدن الفلسطينية. يشمل كل ملف مقدمة، خرائط مرسومة وبعضها تشمل صور جويّة للقرية ومحيطها، وشملت الخرائط معلومات عن الجسور والآبار المتوفرة في كل بلد، هذا بالإضافة إلى معلومات جغرافية وطيبوغرافية إضافية. كما تشمل معلومات حول بعض المواقع المهمة في البلدة، مثل بيت المختار، بيت الضيافة، بيوت ومساكن شخصيات بارزة. وبالتعاون مع وحدة الاستخبارات التابعة للهجانا، "شاي"، وثّقت الهاجانا في ملفات "مسوحات القرى" معلومات حول السكّان، والعائلات، أصولها والعلاقات العائلية والاجتماعية بينها، كما الانتماءات السياسية لكل عائلة وغيرها من المعلومات. 

على الرغم من أن هدف جمع هذه المعلومات، كما جاء، كان لأهداف استخبارية عسكرية استفادت منها الحركة الصهيونية في احتلالها فلسطين، إلا أنها بنظري تكتسب اليوم أهمية قصوى للباحثات والباحثين الفلسطينيين. فمن ناحية، تدحض هذه المعلومات البروباغاندا الصهيونية بخصوص "أرض بدون شعب لشعب بدون أرض"، إذ توثّق للوجود الفلسطيني. ومن ناحية ثانية، تشكّل هذه المعلومات مصدراً هاماً للباحثات والباحثين العاملين على توثيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين قبل النكبة. فبالإمكان من خلال هذه المعلومات الوصول إلى أسماء العائلات في كل قرية واستخلاص معلومات حول شكل الحياة اليومية والخدمات المتوفرة كما معالم القرى والبلدات. 

للوصول إلى هذه الملفات والمعلومات التي توفرها، أهمية كبيرة، أيضاً في حالة المدن الفلسطينية. ففي حين سعت الحركة الصهيونية، إلى تصوير المجتمع الفلسطيني كمجتمع بدائي "غير متطوّر" يتشكّل معظمه من مجموعات سكانيّة قروية وغير مترابطة لا تشكّل مجموعة قومية. ترشدنا ملفات التجسس إلى تفاصيل مهمة حول الحياة المدنية في فلسطين قبل احتلالها.

 فعلى سبيل المثال تحتوي ملفات أرشيف الهاجانا ملفاً باسم "المقاهي العربية في حيفا وأصحابها، ١٩٤١)، يشمل الملف قائمة ضمت سبعين مقهى، صنفت بحسب نوع النشطاء الذين يجتمعون فيها. تم إدراج عنوان كل مقهى، اسم صاحبه وتفاصيل إضافية متعلقة بصاحب المقهى وبمن يديره مثل ديانته، عنوانه ونشاطه. فإذا تمعنا في التفاصيل التي أدرجت في هذا التقرير نجد أنها توثّق جانباً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حيفا قبل احتلالها. من خلالها يمكننا التعرف على الحياة المدنية المغيّبة، عن نساء يدرن المقاهي وعن مقاه تبيع الخمرة وأخرى تحتوي بيوت دعارة. كما ترشدنا المعلومات عن دور المقاهي في النشاطات السياسية وتوفير بعضها مقرات لاختباء المسلحين أيام الثورة الفلسطينية. 

تشكّل هذه المعلومات أهمية قصوى للباحثات والباحثين في التاريخ الاجتماعي وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة إفراغ المدن الفلسطينية مما يقارب ٩٥٪ من سكانها الفلسطينيين، ومحو معالم المدينة العربية كما تهويدها وتهويد أسماء شوارعها. 

يشكّل البحث في الأراشيف الصهيونية المختلفة، مصدراً مهماً أيضاً عن واقع حياة الفلسطينيين ما بعد النكبة. ففي حين تغيب تجربة الفلسطينيين ما بعد النكبة، وخلال فترة الحكم العسكري تحديداً، عن التوثيق، وتغيب أيضاً في معظم الحالات من ذاكرة من عاشها لأسباب عدة، منها صعوبة تلك الفترة، يرشدنا أرشيف المستعمر وصحفه إلى واقع الحياة المعاش في المدينة الفلسطينية لاحقاً إثر احتلاها. 

فعلى سبيل المثال، من تقارير وحدة "شاي-عرب" في أرشيف الهاجاناه يمكننا أن نستدل عن الحواجز المحيطة بـ "غيتو" وادي النسانس في مدينة حيفا، وعن واقع حياة من عايشها. فمثلاً شمل أحد تقارير هذه الوحدة، تقريراً بعنوان "اشتراك وحدة حيرام في عملية التفتيش والتوقيف في الحي الماني وشارع عباس في تاريخ 5.7.1948" وجاء فيه تفصيل لنقاط التفتيش في المدينة وأسلوب عملها، وكُتب فيه "الكل يمر بالشارع عبر نقاط التفتيش، يُسمح لليهود بالعبور بينما يتم توقيف العرب والأجانب للاستجواب، في حال كانوا "سليمين" فيسمح لهم بالعبور". 

ويمكننا من خلال معاينة تقارير "مكتب الإرشاد" في المدينة أن نستدل عن ضبط حركة وتنقل السكان الأصليين في حيفا، كما عدد الطلبات التي قدمت لـ "مكتب الاتصال" من أجل الخروج من الغيتو، وعن ذلك الشخص "اليهودي الذي وظيفته الوحيدة هي أن يوصي هل ولمن يتم إصدار بطاقة عبور أو/وبطاقة نقل ممتلكات للعرب". 

ومن أحد تقارير عمل "مكتب الاتصال" من بداية شهر أيلول 1948 يمكننا أن نستدل على سبل مقاومة العزل من خلال "التسلل" و"تهريب" الخضار من القرى المحيطة إلى حيفا، أيام "التقنين" ومنع بيع الخضار واللحوم ومستلزمات أخرى، إلا بترخيص من المؤسسة. حيث جاء في هذا التقرير أن "هناك تنقل حر من قبل القرويين إلى عسفيا والدالية، الدروز يشترون الخضار من القرويين (قرية اجزم) ويبيعونها في حيفا، بعد إصدار تصاريح رسمية. علينا تقليص استصدار هذه التصاريح إلا لبعض الأشخاص - الموالين لنا". 

الانكشاف لهذه المستندات وقراءة نقدية في محتواها، تكشف لنا عن تقنيات التعقب والسيطرة وسبل محاولات هندسة السكان الأصليين لطوائف وفئات، وهندسة علاقة السكان الأصليين مع المؤسسة المستعمرة من خلال تسهيل الحياة اليومية للفلسطيني "الجيد والموالي" مقابل تضييق حيّز الفلسطيني "غير الموالي". ولكنها في ذاتها يمكن أن تكشف لنا سبل مقاومة الفلسطينيين لهذا السياسات، وتساهم في فهم واقع الحياة اليومية في تلك الفترة.  

لا أدّعي أن علينا اعتماد أرشيف المستعمر كمصدر وحيد لجمع المعلومات، ولكن لا يمكن أن نغفل أن قراءة نقدية في مستنداته، قراءة تعمل على تعطيل وتفكيك النظرة الكولونيالية المعتمدة في هذه المستندات، قد تشكّل نافذة إضافية مهمة، لفهم حياة الفلسطينيين اليومية في فلسطين، قبل وبعد احتلالها. وتكمن أهمية هذه المعلومات بشكل كبير في ظل غياب أرشيف فلسطيني تمت سرقته، وفي ظل قلة الشهادات الشفوية التي تتطرق لمواقع معينة وفترات محددة من تاريخ شعبنا.  

نعم يحتوي أرشيف المستعمر رواية انتصاره ولكن وعلى ضوء قلة مصادر معلومات فلسطينية بديلة، قراءة نقدية في أرشيفهم لكتابة تاريخنا تبدو لي مهمة ضرورية في عملية تأريخ رواية شعبنا الفلسطيني. تشكّل اللغة العبرية معيقاً لمعظم الباحثات والباحثين الفلسطينيين والعرب، مما يلقي بوزن كبير على الباحثات والباحثين متقني اللغة العبرية، وهم بالغالب من فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨، لإتمام المهمة، غير السهلة بتاتا، فإلى جانب صعوبتها النفسية، المعيقات التي تضعها الجهات الرسمية، أمام باحثات وباحثين فلسطينيين كبيرة جداً، ولكن مقاومتها تستحق المحاولة، فأرشيفهم يحتوي تاريخنا، ولنا الحق في كتابته من وجهة نظرنا.