سَهمدة ولَهمدة

2017-08-16 20:00:00

سَهمدة ولَهمدة
في البدء كانت الكلمة . للفلسطيني كمال بلاطة

من الطرائف التي يعرفها أهل المخيم عن أبو لهمدان طريقته بالفوترة، فعندما كان ينتهي من بناء البيت من بيوتهم يقدم لهم الفواتير ليدفعوا له: وهو صاحب طريقة السهمدة واللهمدة في الفوترة، وهم لا يعرفون "وين الله حاططهم"، وعلى ذمة الراوي فقد كانت فواتيره على الشكل التالي، على سبيل المثال:

كما هو معروف فإن النوَر (الغجر) يمتهنون التسوّل، وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي حطوا رحالهم ليسكنوا على أطراف مخيم اليرموك في المنطقة الواقعة مقابل مشحم عامر ومبنى الخالصة في بيوت من الصفيح (برّاكيات زينكو) ليس لضيق ذات اليد، لكنهم سعداء هكذا، وهم أساساً رُحّل لم تكن تعجبهم فكرة الاستقرار في منطقة واحدة بسبب طبيعة حياتهم القائمة على التسول، ولكنهم غيّروا رأيهم -ربما- عندما اقتنعوا بأنهم لن يجدوا مكاناً أهله أكثر كرماً من أهل المخيم على فقرهم، فأهل المخيم لم يكونوا -في حدود علمي- ليردوا سائلاً، ولو كان العطاء طَبق طعام مما طهت ربّة البيت ذلك اليوم، والنّوَر كانوا يقبلون الطعام، ليس جميعهم، ولكن أكثرهم… ولهذا طاب لهم المقام بجوار المخيم، ولم يتخلوا عن "التسول"، مهنتهم المفضلة في الوقت ذاته. 

في الفترة التي شرعت فيها النهضة العمرانية بالتمدد خارج حدود المخيم القديم، برزت مجموعة أسماء من متعهدي البناء مثل أبو منير العودة، المختار لاحقاً، وقد بدأ حياته المهنية موظفاً في هيئة اللاجئين، وصبري أبو عيسى، وأبو حشيش الذي صار صاحب أهم ملحمة ومقهى في المخيم، وغيرهم الكثيرون من بيت شهابي خاصة.. أغلبهم هؤلاء كانوا لوابنة (من قرية لوبية الفلسطينية)، لا أعرف سبب ذلك بالضبط، ولكن على الأغلب لأنهم كانوا أغنياء بالأصل، والتعهدات تحتاج إلى رأسمال معتبر..

بالعودة إلى النّوَر… فقد ساق الله لهم واحداً من أشهر المتعهدين و"أشطرهم" معروف بـ "أبو لهمدان"، وهو أحد أهم أسباب استقرارهم حتماً دون أن يقصد ذلك -إذا نظرنا إلى الأمر من زاويته الإيجابية- وربما دمجهم بمحيطهم الاجتماعي، ونحن نعرف أن الاستقرار هو أهم أسباب التقدم الحضاري، بلغة أبو لهمدان هو بمثابة "سهمدة" الطريق أمام التقدم، في الحقيقة هو فعل ما تعجز عنه دول أوروبا اليوم لدمج اللاجئين في مجتمعاتها، كل تفكيره كان منصباً على ما سيربحه منهم، ولم يكن يدري نتيجة ما فعله، غير أنه فعله، أقنعهم بداية الأمر بأن يُجَنّسوا أنفسهم ويحصلوا على أوراق رسمية، ولكنهم لم يكونوا ليقبلوا بذلك ما لم تكن لهم منفعة واضحة، لا بأس فإن الأمر بسيط عند شيخ "سَهْمَدة" الطرق الوعرة، و"لهْمَدة ما استحكم من العقبات" فأغراهم بما لا قِبَلَ لهم بمقاومته، فإذا جنّسوا أنفسهم سيحصلون على الإعاشة التي يحصل عليها الفلسطيني من الأونروا، ولربما وجدوا أن هذه الإعاشة مكسب يضيفونه إلى ما يتسولونه ورزقاً لا يمكنهم رفسه، ولأنهم لا يحسنون القراءة ولا الكتابة فقد تعهد هو بتجنيسهم مقابل مبلغ من المال، لم يدركوا أن هذا سيترتب عليه أمور أخرى يكرهونها منها خدمة العلم وإلحاق أولادهم بالمدارس، لأن التعليم إلزامي، كانوا يفكرون بالغنيمة الكبرى (الإعاشة). بالطبع ندموا حتى أكلوا أصابعهم على ما اقترفته أيديهم ولكن لا طريق رجعة عما فعلوه. التقيت بواحد منهم في الجيش، وعندما سألته من أين أنت؟ قال لي: "أنا نوري خيّا من ضحايا أبو لهمدان." وهو شاب في غاية الذكاء والدماثة، وكان يسعى إلى الحصول على الشهادة الثانوية ومتابعة دراسته.

 كانوا يتعاملون مع أبو لهمدان على أنه الوسيط الحضاري بينهم وبين العالم الآخر، ويستشيرونه في كل أمورهم، ومن جملة ما أقنعهم به أن يبنوا بيوتاً بدل هذه (البرّاكيات)، والطبيعي أن يتعهد هو بناء هذه البيوت… والحقيقة لم يكن أبو لهمدان متعهداً، بل كان واجهة لأحد المتعهدين الكبار، ولمع اسمه على أنه هو المسؤول المباشر عما حدث، لمهارته وذكائه.

من الطرائف التي يعرفها أهل المخيم عن أبو لهمدان طريقته بالفوترة، فعندما كان ينتهي من بناء البيت من بيوتهم يقدم لهم الفواتير ليدفعوا له: وهو صاحب طريقة السهمدة واللهمدة في الفوترة، وهم لا يعرفون "وين الله حاططهم"، وعلى ذمة الراوي فقد كانت فواتيره على الشكل التالي، على سبيل المثال:

ماء: 500 ليرة سورية
مياه: 300
بحص: 1000
حصا: 700
طينة خشنة: 1500
طينة ناعمة: 1200
بويا: 200
دهان: 2200
سهمدة: 400 (والسهمدة هي تسوية الأرض ورصُّها) 
وكأني به عندما وصل إلى كلمة سهمدة، صفن قليلاً ثم كتب:
لهمدة: 600
وهو يضحك.

وعندما كان أحدٌ ما يسأل أبو لهمدان لماذا تفعل ذلك؟!

كان يقول: "يا عمي هؤلاء بجولة واحدة على بيوت المخيم يكسبون مقدار ما أربحه منهم، ألا يكفي أنني أخذت منهم أجرة "السهمدة واللهمدة" وسامحتهم بأجرة "المهمدة"!

بين هلالين: مات أبو لهمدان رحمه الله وذهب المخيم كلُّه بما فيه.. ولكن "السهمدة واللهمدة" ما زالت سُنّةً لم تمُتْ.