«رحلة الدم» لإبراهيم عيسى: تحامل الأدب على التاريخ

2017-08-17 11:00:00

«رحلة الدم» لإبراهيم عيسى: تحامل الأدب على التاريخ
Oil on canvas . 1871 . Prayer in the Mosque . Jean-Léon Gérôme

خلال أحداث الرواية، سوف يفي عيسى بوعده في تحقيق صدمة للقارئ، من خلال إيراد روايات تاريخية تضيء على الزوايا المعتمة في النفس البشرية، حتى وإن كان هؤلاء البشر صحابة النبي وأعلام الإسلام. فتقرأ مثلاً أن الخليفة عثمان يكاد لا يمتلك رأياً خاصاً به، سوى البقاء في المدينة وعدم خلع نفسه من الخلافة، وأنه كان قد أهدى زوجته حلياً من بيت مال المسلمين، فأصطدم مع الإمام علي وضُرِبَ عمار بن ياسر على هذا، وكان عبد الله بن مسعود قد تعرض سابقاً للضرب بسب معارضته طريقة الخليفة في إدارة بيت المال.

سببان رئيسيان دفعاني لقراءة رواية إبراهيم عيسى الأخيرة «رحلة الدم» (دار الكرمة - 2016) وهما: توصية صاحب المكتبة في بيروت، وازدرائي لمواقف عيسى "السيساويّة"، وبالتالي جاء الأمر إشباعاً لفضولي في التعرف على الجانب الأدبي للرجل. والمفارقة الغريبة التي جاءت بعد الانتهاء من القراءة، ذلك أنّ ما يمكن أن يقال عن الرواية فنيًا كان أقل بكثير مما هو فكريّ وسياسيّ.

تدور أحداث الرواية أساساً في زمن الخليفة عثمان بن عفان حتى مقتله، تتخلّلها قفزات تعود إلى فجر الدعوة الإسلامية. أما مكانياً فساحة الأحداث المركزية هي المدينة المنوّرة، حاضرة الخلافة ومنزل جلّ الصحابة، بالإضافة إلى فسطاط مصر، وكذلك البصرة والكوفة والشام. 

على امتداد أكثر من 700 صفحة، بنى عيسى شخصيات روايته بطريقة مركّبة، نجح من خلالها بمقاربة الشخصيات التاريخية بما فيها من تضاد بين ضمير ديني زاهد وجنوح سياسي إلى السلطة والمال في آن. ما منح الرواية مصداقية وقبولاً أغاظ السلفيين والمدافعين عن قدسية المرحلة ورجالاتها. 

يمتاز السرد في الرواية بلغة عالية فرضتها الأحاديث المأخوذة من بطون كتب التراث من جهة، وتمكّنُ الكاتب من منطق شخصياته الروائية من جهة أخرى. لذلك نجح صاحب رواية «مولانا» في خلق مشاهد حية تشبك القارئ بالأحداث، وإن بدت في بعض الأحيان أنها إضافات زائدة عن حاجة النص. 

من الصعب أن يقدم هذا المقال مراجعة شاملة لأحداث الرواية، لكن تجب الإشارة إلى نقطة مهمة تعمّد الكاتب استغلالها. إذ يقول في بداية التنويه "إنّ جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وإن كل أحداثها تستند على وقائع وردت في المراجع التاريخية". ثم يعدد خمسة عشرة كتابًا، من بينها المراجع المعروفة مثل «تاريخ الرسل والملوك» للطبري، و«البداية والنهاية» لابن كثير، و«أنساب الأشراف» للبلاذري، وكتب بحثيّة مثل «سقيفة حُبّى» لجورج كدر. كذلك يركّز التقديم على الغلاف الخلفي للرواية على هذه النقطة، وبذلك جهّز عيسى الأرضية "الصادقة" لروايته ووضع القارئ في برزخ بين التاريخ والأدب.

خلال أحداث الرواية، سوف يفي عيسى بوعده في تحقيق صدمة للقارئ، من خلال إيراد روايات تاريخية تضيء على الزوايا المعتمة في النفس البشرية، حتى وإن كان هؤلاء البشر صحابة النبي وأعلام الإسلام. فتقرأ مثلاً أن الخليفة عثمان يكاد لا يمتلك رأياً خاصاً به، سوى البقاء في المدينة وعدم خلع نفسه من الخلافة، وأنه كان قد أهدى زوجته حلياً من بيت مال المسلمين، فأصطدم مع الإمام علي وضُرِبَ عمار بن ياسر على هذا، وكان عبد الله بن مسعود قد تعرض سابقاً للضرب بسب معارضته طريقة الخليفة في إدارة بيت المال. أما محمد ابن أبي حذيفة، ربيب عثمان، فقد زوّر رسائل على لسان أمهات المؤمنين، عائشة وأم سلمة، ليؤلب الناس على خليفتهم وأميره في مصر، بينما محمد ابن ابي بكر وشقيق عائشة يصمت عن حقيقة الرسائل متواطئاً. أما طلحة، شريك عثمان وصاحبه، فها هو يموّل الثائرين على عثمان في المدينة. وسعد بن أبي وقاص يعتزل الشأن العام ويلحقه في الاعتزال كل من علي بن أبي طالب بعد فشل محاولاته للإصلاح، وعائشة التي انطلقت للحج.

إذاً جوهر الرواية هو الصدمة، وإلا فما الداعي لإقحام حديث عائشة عن مباشرة النبي لها خلال الحيض؟ من جانب آخر، يبدو أن إبراهيم عيسى تعمد أن تثير الرواية جدلاً من خلال إقحامها في صيغة كتاب تاريخي يستند على كتب التراث مباشرة، دون أن يولي أهمية كبيرة للتأكد من صحة أخبارها أو عدمه. فعلى سبيل المثال، «تاريخ الطبري» على أهميته إلا أنه يبقى مجموعاً من الأخبار المسندة لكنها ليست بالضرورة صحيحة. يقول نجيب محفوظ أنه قدم رائعته «أولاد حارتنا» على أنها رواية، لكن الناس تعاطت معها على أنها كتاب، وهذا بالضبط ما أراده عيسى لروايته. 

تكتسب «رحلة الدم» أهميةً استثنائية في توقيتها، فهي تصدر في زمن تراجعت فيه الكتابة النقدية لصالح الكتابة النسخية للتراث العربي الإسلامي، لكن تلك النقدية تظل محصورةً في حيّز الرؤية الشخصية للكاتب، لكونه لم يولِ الفن الروائي، بما فيه من تعدّد آراء وتضارب سرديات وجدل حول الحقيقية، تلك المكانة التي تسمح للنص أن يتجاوز الأحادية القائمة على الصدمة وحسب.