المقابلة المطوّلة في المجلّة الأميركية. ننشرها على قسمين

الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: أنا تلميذ شهرزاد (2/2)

2017-09-07 16:00:00

الياس خوري لـ «ذا باريس ريفيو»: أنا تلميذ شهرزاد (2/2)
الياس خوري

كيف جعلت الفلسطينيين في المخيمات يحكون لك قصصهم؟ بالصّبر. ذهبت إلى المخيم كل يوم تقريباً. ذهبت بنفسي، ولم أحضر مسجّل أو دفتر أو حتى قلم. كتبت ما سمعت لاحقاً في المنزل. من حسن الحظ أنّي استمتع بالاستماع إلى القصص. أعتقد أنّ الإستماع هو تعبير عن الحب، وأن رواية قصصك لأحدهم هو فعل كرم. الأدب يكون حيث يجتمع الإثنان.

هذا القسم الثاني من المقابلة التي أجرتها مجلة «ذا باريس ريفيو» مؤخراً مع الياس خوري... يمكن قراءة القسم الأول هنا
 
هل بدأت بتجميع القصص عن النكبة الفلسطينية أثناء عملك في مركز الأبحاث؟
  
لا، لكن الفكرة خطرت لي حينها. كان مدير المركز مؤرّخ يدعى أنيس الصايغ، وهو مفكّر جليل. في أحد الإجتماعات التحريرية الأولى، جمعنا الصّايغ كلّنا معاً وطلب منّا أن نقدّم له اقتراحات لمشاريع من الممكن أن يعمل عليها المركز في المستقبل. كنت شابّاً وجديداً فلم يكن لديّ ما أقوله. لكن في نهاية الإجتماع التفت إليّ الصّايغ وسألني عن رأيي. قلت أنّي أعتقد أنّ هناك فراغ كبير في التاريخ الفلسطيني: قصّة ما حدث عام 1948. الفلسطينيون لم يكتبوا عنه شيئاً حقّاً. اقترحت أن نجمع فريقاً ونذهب إلى المخيّمات ونسجّل قصصها.
 
كنت مازلت تفكر بأطروحتك عن حرب الدروز والموارنة؟

نعم. هنا أيضاً تواجد تاريخ كامل لم يكتب. صايغ استمع إلى فكرتي بطريقة مهذبة جدّاً وسألني ما الّذي سنفعله بكل تلك القصص. قلت أنّها ستشكّل أرشيفاً مهمّاً. ثمّ قلت يمكننا أن نعطي الأرشيف لروائي مهم، يصنع منه «الحرب والسلام» الفلسطينية. قال الصايغ: أي روائي تقترح؟ قلت: أنا طبعاً. ضحك الجميع، ولم يحدث شيء. لكنّي لم أتخلّ عن الفكرة. كانت تلك هي بداية «باب الشمس». 
   
هل كنت دائماً مهتمّاً بالقصص المحكيّة؟
   
الحكايات الشعبية كانت بمثابة مقدّمة للأدب بالنسبة لي. كنت أسمعها من جدّتي، الشخص الأهم في حياتي. كانت جارتنا في الأشرفية، وكنت أزورها كل يوم تقريباً حين كنت طفلاً. كانت تطلب مني أن أقرأ لها من المزامير أو نشيد الأناشيد. كانت متدينة جدّاً لكن مثقفة جدّاً كذلك. كانت تعرف الشعر الجاهلي عن ظهر قلب. كنّا نسهر معاً ونتحدّث عن حيوات الشعراء القدماء وقصائدهم، المعلّقات. 
  
القصص التي سمعتها في المخيم كانت قصص من نوع مختلف. في «باب الشمس» يقول خليل: جدّتي كانت تروي كأنّها تمزّق الحكايات. بدل أن تجمعها تمزقها."
  
لأنّ تلك القصص كانت صادمة. النكبة كانت صدمة عميقة عميقة للفلسطينيين. هذه قصص لم تكن قد حكيت. معظمها لم تحكَ بعد. في روايتي «مجمع الأسرار» والتي لم تتم ترجمتها للإنجليزية، هناك فصل حول المجزرة التي حدثت خلال الحرب الأهلية في فترة الـ 1860. طلبت من أحد طلابي أن يذهب إلى واحدة من قرى الشوف، جنوب بيروت، ويسأل الكبار في السن عمّا يتذكرونه. لم يتذكّروا شيئاً، طبعاً، لأنّ أجدادهم هم من قاموا بالمجزرة، وهي واحدة من الأسوأ في كلّ الحرب. عاد طالبي من بيروت ويده في حمالة كتف لأنّ أهالي القرية ضربوه وكسروها. هذه أشياء لا يمكنك التحدث عنها.
  
كيف جعلت الفلسطينيين في المخيمات يحكون لك قصصهم؟
  
بالصّبر. ذهبت إلى المخيم كل يوم تقريباً. ذهبت بنفسي، ولم أحضر أي مسجّل أو دفتر أو حتى قلم. كتبت ما سمعته لاحقاً في المنزل. من حسن الحظ أنّي استمتع بالاستماع إلى القصص. أعتقد أنّ الإستماع هو تعبير عن الحب، وأن رواية قصصك لأحدهم هو فعل كرم. الأدب يكون حيث يجتمع الإثنان. 
 
إلى أي مخيمات ذهبت؟
  
غالباً المخيمات المجاورة لصيدا وبيروت. شاتيلا، برج البراجنة، عين الحلوة.
  
وبالتالي كنت تذهب كل يوم فبدأ الناس، تدريجيّاً، بالوثوق بك؟
   
لا، ذهبت كل يوم، وكل يوم رفضوا أن يتكلّموا. لوقت طويل لم يقل أحد أيّ شيءٍ لي. هم فقط لم يكونوا قادرين، كأنّ ثمّة عائقاً مادّياً. أخيراً، أشفقت علي امرأة مسنّة كانت قد رأتني آتي يوماً بعد يوم. سألتني ماذا أريد، فقلت أنّي أكتب رواية عن 1948 وأحتاج أن أعرف الأشياء التي حدثت في القرى، كيف سقطت. كنت صادقاً حيال سبب وجودي هناك. لم أدّع أنّي كنت هناك لأبني صداقات. فبدأت بدعوة الناس إلى منزلها ليتحدثوا إلي. وقد نجح ذلك لأنّنا كنا في منزلها. كذلك قامت بإرشاد أسئلتي، اسأل هذا الشخص عن تلك القرية، واسأل هذا الشخص عن الأخرى. إن لم يأت الناس أو لم يتكلموا، كانت تقول: ألا تريدون أن تعرفوا تاريخكم الشخصي؟ لكن عدد القصص التي سمعتها واستخدمتها في الرواية كانت قليلة، لأنّ ذلك كان صعباً بالنسبة إليهم. الناس الذين تحدثت إليهم فضّلوا إعطائي النسخة الرسمية: اليهود كانوا جبناء ونحن كنّا أبطالاً. بعد كل ذلك، ماذا يمكنك أن تقول؟ أنّك هربت؟ أنّك تركت طفلاً في حقل؟ تلك القصة -قصة ناجي، في الرواية- هي واحدة من القصص التي سمعتها في المخيمات. قالت لي امرأة إنّها هربت مع عدد كبير من الأطفال، بما في ذلك طفل رضيع. كانوا في الحقول المحيطة بالقرية والرصاص يطير فوق رؤوسهم. أخيراً، لم تكن قادرة على الاستمرار، فوضعت الرضيع تحت شجرة زيتون. لاحقاً، امرأة أخرى وجدته وأعادته للامرأة التي كانت تخبرني القصة بعد ذلك بخمسين عامٍ تقريباً. لم تستطع التوقف عن البكاء.
  
هل دار حولك أي شك كونك لست فلسطينيّاً؟
  
أبداً، لأنّهم كانوا يعرفون أنّي واحدٌ منهم. في عيونهم كنت فلسطينيّاً. أمّا بالنسبة للسياسة كانت الأشياء أكثر تعقيداً. حين كنت أنتقد القيادة أثناء الوقت الذي عملت فيه في مركز الأبحاث، اتهموني بأنّي لست فلسطينيّاً. كما تعرف: لماذا يعمل معنا هذا اللبناني؟ من الواضح أنّه ليس مع الثورة. في نفس الوقت، الجيش اللبناني اعتبرني فلسطينيّاً، والمسيحيّون افترضوا أنّي مسلم، والمسلمون افترضوا أنّي مسيحي. 
   
هل تشعر بأنّك فلسطيني؟
  
أشعر أنّي كل تلك الأشياء.
  
لا بدّ أنّ ذلك صعباً، أن تشعر أنّك كل تلك الأشياء.
   
لماذا؟ أعتقد أنّه من الممكن لأيّ كان التماهي التراجيدي مع الفلسطينيين، التماهي معهم على أساس المأساة التي عاشوها. لا أعتقد أنّ الجغرافيا، بما في ذلك الحي الذي تعيش فيه، تحدد هويتك. حين كنت أقاتل مع الحركة الوطنية إلى جانب الفلسطينيين، ظن الكثير من المسيحيين أنّني لا بد أن أكون مسلماً. حسناً، أنا مسلم. كلّنا مسلمون، بمعنى أنّ العنصر الإسلامي ضروري لأيّ ثقافة عربية. لا يمكنك أن تفهم الثقافة العربية من دون أن تعرف عن الإسلام. وأنا أشعر أنّني حقّاً أنتمي إلى تلك الثقافة. لكنّني بالطبع مسيحيّ كذلك، وفقاً للأحكام السوسيولوجية. 

سأحكي لك قصة. في بداية عام 2013، احتل 250 فلسطينيّاً شابّاً أرضاً قرب القدس، كان مقرّراً بناء مستوطنة عليها. كان نوعاً من الاحتلال العكسي. القرية الإحتجاجية كانت تقع على ما يسمى "إي-1 كوريدور"، بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم الكبيرة. أطلق الفلسطينيون اسم "باب الشمس" على القرية. لم أكن أعرف أحداً من هؤلاء الشباب، الذين أخذوا اسم قريتهم من روايتي، لكني كتبت لهم أطلب منهم منحي الجنسية. القرية بقيت لمدة يومين أو ثلاثة -حتّى أنّهم انتخبوا مجلساً بلديّاً- إلى أن أتى الجيش الإسرائيلي ودمّرها. بالتالي لدي الآن قرية مهدمة في فلسطين أيضاً. 
   
ثمّة ميزة في أسلوبك الكتابي وهي استخدام التكرار: تكرار كلمات وجمل وحتّى قصص كاملة. «باب الشمس» تعود إلى سقوط قرى معيّنة عام 1948. هل اهتمامك هذا بالتكرار هو جزئيّاً نتيجة اهتمامك بالأدب الشفوي؟
   
أفكّر بالتكرار كعنصر إيقاعي. كان من المفترض أن تصدر «باب الشمس» عام 1997، لكن النشر تأجّل حتّى العام التالي. ظنّ البعض أنّها صدرت في هذا الوقت بالذات بهدف إحياء الذكرى الخمسين للنكبة، لكن في الحقيقة،  بينما كنت أعيد قراءة المسودة بصوتٍ عالٍ، وجدت أنّ الكتاب فيه أخطاء موسيقية، وخلل في الإيقاع، وقد أمضيت عاماً في محاولة تصحيح ذلك.
  
لكن التكرار يبدو كعنصر بنيوي في رواياتك. إنّه يؤثّر في الطريقة التي تفكّر بها في البدايات، والأواسط، والنهايات.
  
صحيح. في الحقيقة هذا أساسي بالنسبة للطريقة التي أفكّر فيها بالأدب. التكرار، كما يمكن أن أقول، هو طريقة للإصرار على أنّ كل قصة تحتوي على عدة قصص داخلها. القصة الواحدة ممكن أن تقال بعدة طرق طبعاً. تحاول رواياتي أن تشير إلى هذه الثروة، رغم أنّني يمكنني أن أروي عدداً محدوداً من الصّيغ فقط. بعبارة أخرى، أنا تلميذ شهرزاد، لا أحكي القصة، بل أحكي كيف تمّ سرد القصة. وهناك فرق مهم بينهما. تراث الأدب العربي بأكمله يعلّمنا كم هو مهم. كلّ النصوص الكلاسيكية تخبرنا أنّ هناك سلطة ما أو مصدر ما لكلّ قصّة سيتم سردها. هناك دائماً سلسلة من الناقلين أو المترجمين، رغم أنّ كل نسخة تختلف عن الأخرى. وفي العربية، كلمة ”رواية“ تعني أيضاً "نسخة". على هذا الأساس، لا يوجد شيء اسمه إعادة صافية. أن تكتب نسخاً متعددة من القصة نفسها يعني أن تشير إلى أن كل قصة قابلة لأن تكون مقدمة لقصص أخرى.
   
أثناء كتابة «باب الشمس»، والتي تحوي الكثير من القصص المتشابكة و المتقاطعة، هل وضعت خطة للقصة مسبقاً؟ هل استخدمت نوع من "القصة المصورة"؟ 
  
لا. بدأت بشكل عشوائي تقريباً، بكتابة المقاطع السهلة بدايةً. جزء من سقف هنا، جزء من حائط هناك، إلى أن حصلت على الإطار العام. الإطار تم بناؤه حول خمس شخصيات أساسية -أم حسن، يونس، نهيلة، خليل، وشمس- بعد ذلك، عملت على بناء الجغرافيا، قرى الجليل، واحدة واحدة. تطلّب ذلك الكثير من القراءة: بيني موريس والمؤرخون "الإسرائيليون" الجدد، وكتاب «كل ما تبقى» لوليد الخالدي، وكتاب عارف عارف عن النكبة، وهو كتاب شديد الأهمية وليس معروفاً كما يجب. ثمّ بدأت بكتابة القصص التابعة لكل قرية.
 
يتناول العديد من كتبك قصصاً لم تروَ من قبل أو تاريخ تمّ محوه عن قصد. هل تعتقد أنّ الأدب قادر على التعويض عن التاريخ؟ هل يمكن للخيال أن يملأ فراغ الأرشيفات؟
  
لا يمكن للأدب أن يعوّض عن التاريخ، لكن يمكنه أن يشير إلى نقص ما. هو نوع من الاتهام، إذا أردت. «باب الشمس» ليست رواية لتاريخ النكبة، لكن بسبب كل التفاصيل والقصص التي فيها، تؤكّد الرواية أهمية كتابة ذلك التاريخ، من الجانب الفلسطيني. الرواية تشير إلى ما هو ناقص. «باب الشمس» ليست رواية تاريخية طبعاً، أحداثها تدور في التسعينات، وليس في عام 1948. لكن حتّى الروايات التاريخية ليست تاريخاً، بل تفسيرات معاصرة. ثمّة جيل أقدم من المثقفين، مثل قسطنطين رزق، اعتبر أن النكبة سببها تخلّف العرب. كان يظن أن العرب يجب أن يتطوّروا، وأن يعطوا ظهورهم للماضي الذي، مهما كان مجيداً، قد خذلهم. روايتي تقول شيئاً آخر. «باب الشمس» تدور حول حياة الناس اليومية والقصص التي رووها وما زالوا حول هذا الحدث. بعبارة أخرى، النكبة ما زالت تحدث. لا يمكننا كتابة تاريخها لأنّها لم تنته بعد. 
 
منذ عشرين عاماً تقريباً نشرت مقالاً في جراند ستريت حول الأدب والذاكرة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية. كتبت: "في هذه المدينة (بيروت)، التي خرّبتها الحرب بشكل ممنهج، الأدب هو المساحة الوحيدة الباقية للذاكرة". ما هي العلاقة التي تربط الأدب بالذاكرة في لبنان؟
 
بعد الحرب الأهلية، قررت الطبقة الحاكمة في لبنان -أعني الطبقة الحاكمة في كل الطوائف- أن تمحو ذاكرتنا عن الصراع. منحوا عفواً عاماً، حتّى عن جرائم الحرب، ورفضوا التحقيق في قضايا المفقودين. سبعة عشر ألف شخص اختفوا خلال الحرب، وما زلنا لا نعرف ماذا حلّ بهم. بعد فقدان الذاكرة الإجباري هذا، أصبحت السياسة والحياة الاجتماعية أكثر طائفية من أي وقت مضى. حتّى إعلامنا لديه طوائف: لدينا جرائد سنية وجرائد شيعية، محطات تلفزيونية سنية وشيعية الخ. وبعد تدمير الجامعة اللبنانية خلال الحرب، يكاد لا يكون هناك أي مكان لمنحة أو بحث علمي. الجامعة الأميركية وجامعة سان جوزيف لم تملآ الفراغ. لذلك أصبح على الأدب أن يؤرّخ الحرب بطريقة ما. بصراحة لست متأكّداً إن كان هذا شيئاً جيّداً. في مجتمعات أخرى، ليس هذا هو الدور الذي يدعى الأدب لأخذه. 
  
لماذا لم يتعرّض الأدب للتقسيم الطائفي كما كل شيئ في لبنان؟
  
سؤال جيد. أعتقد أن لذلك علاقة بأصول الأدب الحديث في القرن التاسع عشر. كان لكتّاب مثل أحمد فارس الشدياق وشبلي شميل ميول علمانية وعلمية وقد تركوا أثراً على ما أتى بعد ذلك. أعتقد أن الأدب أنقذه التهميش كذلك. روائيو لبنان وشعراؤه يختلفون سياسياً، لكن لا ينتمي أي منّا إلى الجهاز الطائفي للدولة. هامشيتنا هي التي تسمح لنا بانتقاد ذلك الجهاز.
  
بعد انتهاء الحرب كنت معارضاً بصراحة لخطط إعادة بناء وسط بيروت. ما الذي كان يقلقك؟
  
في الحقيقة كان هناك مشاكل عديدة. أولاً، الخطة التي وضعت من قبل السوليدار -وهي شركة عقارات خاصة بالطبع- أجبرت مالكي الأراضي، ومعظمهم من الطبقة الوسطى أو أدنى الطبقة الوسطى، على بيع أراضيهم من دون مقابل. كان استيلاءً على الأراضي بواجهة قانونية. ثانياً، حافظت الخطة على المناطق ذات العمران الفرنسي الكولونيالي. بالنسبة للبقية، مناطق العصر العثماني مثل ساحة الشهداء، قد هدمت بالكامل. أرني أي مدينة في العالم تم فيها هدم مبانٍ عمرها ثلاثمائة أو أربعمائة عام. لست مصاباً بالنوستالجيا، لكن هذه مبانٍ يجب أن تحتفظ بها، فهي تنتمي إلى التراث الوطني. أخيراً، وسط بيروت الجديد لم يُبنَ للبنانيين بل للخليجيين -وهم الوحيدون الذين يستطيعون تحمل الإيجارات. بصراحة كانت الفكرة أن يجعلوا بيروت بيت دعارة للخليج. أقول أن الخطة قد فشلت. ليس بسبب أشياء فعلناها، بل لأن  توقعات السوليدير المالية افترضت وجود نوع من السلام الإقليمي، واتفاق بين "إسرائيل" وفلسطين. بالطبع لم يحدث أي من ذلك. لذا وسط البلد ميت عموماً. إنه كخلفية مسرح. 
 
الثاني من اليسار. ١٩٦٦

تقول أنك غير مصاب بالنوستالجيا، لكن من الواضح أنّك تشعر أنّه قد تمّ خيانة المدينة وتاريخها. ما الذي تحبه في المكان؟ 
  
لنكن صريحين. بيروت ليست مدينة جميلة، لعلّها أبشع المدن الكبيرة في المنطقة. معظم الفن المعماري معيب. حتّى أن طرابلس مدينة أكثر جمالاً. ودعنا لا نتحدث عن دمشق أو حلب، وقد كانت أماكن ساحرة قبل أن يدمرها بشار. أو فكر بالقدس وحيفا. كل هذه المدن أجمل من بيروت. لكنّ بيروت مدينة المهاجرين. وهذا مهم. في بدايات القرن التاسع عشر، كانت قرية من ستة آلاف شخص. لم تكن مكاناً حيوياً على أي صعيد، لا تجاريّاً ولا فكريّاً طبعاً. ثمّ بدأ إبراهيم باشا، في فترة الـ 1830، ببناء الميناء، وجلبت حروب عامي 1840 و1860 الكثير من المسيحيين من جبل لبنان. في بداية القرن الأخير، بيروت كانت ملجأً أساسيّاً للأرمن الهاربين من الأتراك. وقد جاء الكثير من الفلسطينيين إلى بيروت عام 1948 بالطبع واستمروا بالقدوم في السنوات اللاحقة. في الستينات والسبعينات، جاء الشيعة من الجنوب. بيروت مدينة بناها الغرباء -اقتصادياً، فكرياً، ثقافيّاً- وهذا يجعلها مكاناً منفتحاً. هذه هي ميزتها الحقيقية في المنطقة. العيش فيها يشبه العيش في عدة مدن مختلفة في الوقت ذاته. يمكنك المشي من مانهاتن إلى باريس مروراً بقم وكولومبو. من الممكن لأي أحد أن يكون بيروتيّاً. لا يستطيع أحدٌ أن يمنعك من ذلك.
  
وفيها كذلك حياة ليلية رائعة.
  
إنها مكان حيويّ، حتّى في أسوأ الأوقات. أتذكر، في الثمانينات، خلال الإنتفاضة الأولى، جاء أصدقاؤنا الفلسطينيون لرؤيتنا. كان وقتاً صعباً، فيه الكثير من الشهداء. لكن رغم ذلك كنّا نخرج ونشرب ونروي النكت. أصدقاؤنا الفلسطينيون تفاجأوا، لكن هكذا نحن، ليس الموضوع أنّنا نتجنّب الموت، بل أنّنا لا نستطيع إلّا أن نحوّل التراجيديا إلى مهزلة. وهي عادة خطيرة. ليس من المفترض تحويل كل شيء إلى كوميديا. لكن عليك أيضاً أن تعيش. 
  
آخر موجة من المهاجرين كانت من السوريين الهاربين من الحرب الأهلية المجاورة. كيف تأقلمت المدينة مع هذا التدفق؟
  
حتّى قبل الحرب السورية، كان هناك عدد كبير من السوريين يعيش في لبنان، معظمهم يعملون في البناء أو الزراعة. لكن وصول أكثر من مليون لاجئ أثار أسوأ أنواع ردات الفعل الطائفية من قبل النخبة. قادة سنة وشيعة أجّجوا كراهية الآخر. القادة المسيحيون يلعبون على وتر خوف مجتمعهم من المسلمين. ما يقلقني هو أنّ اللاجئين، الذين يشكّلون حاليّاً سدس سكّان لبنان، قد يُستخدمون كحنطة في مطحنة البلد الطائفية، ونُدفع إلى الهاوية.
  
ما الذي حدث للربيع العربي؟ هل كان ثورة في المقام الأول؟
  
بالطبع كان ثورة. ما هي الثورة؟ هي انعدام قدرة النظام على السيطرة على الجماهير، فيتم إسقاطه. ما هو مفاجئ، على الأقل في مصر وتونس، كان سهولة ما حدث. لكن حتى في سوريا، أعتقد أن النظام انتهى. انتهى حين بدأ الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين، لأنّ النظام لم يتصرّف كدولة بل كعصابة مسلّحة. أظهر وجهه الحقيقي، والآن لا يمكن للأشياء أن تعود كما كانت من قبل. المشكلة أنّه بعد سقوط هذه الأنظمة، لم نمتلك ما نضعه مكانها.
 
كيف تفسّر ذلك الفشل؟
  
باسترجاع الأحداث، أعتقد أن هناك سببين أساسيين. الأول هو غياب الليبراليين العرب والثاني هو غياب اليسار. الليبراليون، أعني أنّ الناس الملتزمين بفصل السلطات، ونظام من الضوابط والموازين، والحقوق الفردية لم يظهروا. ربّما لأنّهم لم يوجدوا أصلاً. غياب اليسار قضية أخرى. اليسار العربي موجود، لكن تمّ قمعه منذ عقود. ومنذ سقوط الإتحاد السوفييتي، لم يعد هناك مثال يحتذي به. يمكنك رؤية ذلك بالنظر إلى الشباب في الميادين. كان ثمة عدد كبير منهم، من كل طبقات المجتمع. لكن كان ينقصهم التنظيم والرؤية السياسية الشاملة. كان هناك حقل معجمي -ديمقراطية، عدالة اجتماعية الخ- لكن ما الذي كانت تعنيه هذه الأشياء؟ لا أحد يجيب. وذلك بسبب عدم وجود أحزاب أو مؤسسات تنظيمية.
 
ألم يكن جزءاً من وجهة نظرهم أنّ تلك المؤسسات تنتمي إلى الماضي؟ أنّها لم تكن فعّالة؟
  
لا أريد إعطاء دروس لأيّ من الناس الّذين كانوا في الميادين. من المفترض أن ندرس، بكل تواضع، ما حقّقوه. لكن إن كانت الأحزاب أشياء من الماضي، فإننا نحتاج إلى فكرة عمّا يمكن أن يحلّ مكانها. من الأشياء التي حققها المتظاهرون هي استحالة العودة إلى الدكتاتورية القديمة. السيسي، رئيس مصر، دكتاتور مهرّج. هو محاكاة ساخرة لعبد الناصر. حتى في سوريا، الدكتاتورية انتهت. لم يعد لها شرعية. حاليّاً، الحرب تجعل رؤية ذلك صعباً غير أنّها الحقيقة. 
 
مع ابنته. ١٩٧٨
 
أخبرني عن روايتك الأخيرة «أولاد الغيتو». 
  
الكتاب يدور في "إسرائيل"، خاصة في الّلد، مع أن هناك مقاطع تحدث هنا في نيويورك، وهي سابقة بالنسبة لي. بطل الرواية مهاجر إلى هذه المدينة. الكتاب بطريقةٍ ما هو مكمّل لـ «باب الشمس». ليس تتمّة له بالضبط، لكن بعض شخصيات تلك الرواية موجودة في الرواية الجديدة. 
  
لا أتصوّر أنّك زرت "إسرائيل"، فما نوع البحث الذي قمت به؟
  
لم أذهب إلى "إسرائيل"، كما لم أذهب إلى فلسطين. لكن من الأمور الممتعة في البحث المرتبط بهذا الكتاب كان دراسة العبرية، وهو أمر أقوم به منذ سبع سنوات تقريباً. شخصيات الرواية الرئيسية هم عرب يعيشون في "إسرائيل" ويتكلمون العبريّة عادةً، فشعرت أنّه عليّ تعلّم اللغة. فعلت ذات الشيء أثناء كتابة «يالو». بطلها نشأ في بيت يتحدث السريانية، لذا قرّرت أن أتعلّم السريانية. لا أستطيع أن أدّعي التكلّم بالعبرية، لكنّني لا أشعر أنّها لغة غريبة عنّي تماماً الآن.
  
ما الذي تعلّمته من دراستها؟
  
تعلّمت أن العربية والعبرية والسريانية تتشابه إلى درجة مخيفة. أوّلاً هناك الكثير من الكلمات المشتركة -وأشباه الكلمات- وبناء الجمل هو ذاته. اللغات الثلاثة تبني كلماتها من جذور ثلاثية، لذلك فهي تتشابه بالشكل كذلك. وتعلمت من يهودا شنهاف، مترجمي للعبرية، بأنّه منذ تأسيس الدولة، حاولت "إسرائيل" أن تمحو من لغتها كلّ آثار اللغة العربية. تطهير لغوي. أجد ذلك أمراً مثيراً للإهتمام. 
  
هل درست الأدب العبري؟
  
نعم، لكن هذه قصّة أطول بكثير. أوّل عمل أدبي عبري حديث قرأته كان رواية قصيرة بعنوان "خربة خزعة" ليزهار سميلانسكي. أتى روائي فلسطيني شاب يدعى توفيق فياض إلى مكتبي في مركز الأبحاث عام 1978 وأخبرني عنها. في ذلك الوقت لم تكن "خربة خزعة" قد ترجمت للإنجليزية أو حتى الفرنسية. طلبت من فياض أن يترجمها، ونشرنا النسخة العربية في "شؤون فلسطينية". أدّت إلى فضيحة صغيرة. الناس احتاروا لأنّ يزهار لم يكن محبّاً للعرب. كان صهيونيّاً ملتزماً وعضواً في الكنيست. لكن روايته كانت رائعة. تحكي قصّة فوج من الجيش الإسرائيلي أمر بتطهير قرية فلسطينية تدعى "خربة خزعة" خلال حرب 1948. يزهار يصف الفلسطينيين المجبرين على مغادرة قريتهم بلغة سفر الخروج. يتحدث الراوي عن البحث بينهم عن إرميا الفلسطيني، النبي الغاضب. نقطة يزهار هي أنّ اليهود في عام 1948 صنعوا يهوداً آخرين. الفلسطينيون هم اليهود الجدد. بعد ذلك، قرّرت قراءة المزيد من الأدب الإسرائيلي، لأنّه كان من الواضح أنّ الأدب يحتوي على أشياء أعمق من السياسة اليومية. قرأت كل ما كان قد ترجم: عاموس عوز، إبراهيم جبريل يشوع، وديفد غروسمان. تعلمت الكثير لكنّني لم أجد ما يشبه رواية يزهار القصيرة.
  
ترجمت أعمالك إلى العبرية، ممّا أدّى إلى انتقادك.
  
عندما نشرت «باب الشمس» من قبل صديقي يائل ليرير في دار الأندلس عام 2002، تعرّضت لهجوم وحشي، غالباً من قبل المصريين، بمن فيهم صديقي صنع الله إبراهيم. كانت حجّتهم أنّ ترجمة الكتب إلى العبرية هو نوع من التطبيع. هذا -كيف يمكنني وصفه- محض هراء. المصريون لديهم عقدة من التطبيع، طبعاً، بسبب كامب ديفيد. كل شيء في مصر "مطبّع"، لكنهم أول من يرفعون أصابع الإتهام. إدوارد سعيد كتب نص حول ذلك في الأهرام، وقال فيه كل ما يمكن أن يقال. كتب أنّ "الوصول إلى لغة أجنبية هو انتصار، دائماً، للكاتب“، وذلك صحيح بشكلٍ دقيق. أقرأ كتّاب إسرائيليين، لم يجب ألّا يقرؤون لي؟ هذا الرأي لا يجبرني على اتخاذ موقف سياسي مختلف عمّا اتخذته طيلة حياتي. التطبيع شأن علاقات اقتصادية بين دول، وليس تبادل أدبي بين أفراد. الترجمة ليست تطبيعاً.
  
كيف تستمر في كتابة الروايات بينما كل يوم يأتي بأخبار مآسي فظيعة ومصائب بشرية من محيطك؟
 
لقد عشت حياتي تحت حالة من الحرب الدائمة. ولدت عام 1948 ولديّ ذكريات حيّة عن الحرب الأهلية "الصغيرة" في عام 1958. نكسة 1967 ولّدت فيّ وعياً سياسيّاً. بدأت بكتابة الروايات في السنوات الأولى من الحرب الأهلية الأساسية. أحاول أن لا أكتب عن الحرب بل أن أكتب من داخلها. على المرء أن يكتب من داخل هذه المآسي والمصائب. أعتقد أنّه تمرين جيّد -للكتابة والحياة- لكنّه ليس سهلاً. على صعيد آخر، أعتقد أنّ الكتابة هي خليط من العذاب والبهجة. حاولت استكشاف ذلك في «يالو»، حيث يتم تعذيب بطل الرواية ويجبره المحققون على كتابة اعتراف. لذا فالكتابة هي تقنية تعذيب وتحرّر في الوقت نفسه، طريقة لفهم النفس. عبر الكتابة، نحوّل الحقيقة إلى مادّة للخيال. 
 
من اليمين: الياس خوري، محمود درويش، سمير قصير، مارسيل خليفة. مقبرة صبرا وشاتيلا . ١٩٩٩
 

مقدّمة المقابلة

 

يعدّ إلياس خوري الروائي الرئيسي الذي يكتب باللغة العربية اليوم. ولد في بيروت في عام 1948 المصيريّ. نشر روايته الثانية «الجبل الصغير» عام 1977 خلال بداية الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، والتي حارب فيها إلى الجانب الفلسطيني ضد الذين يشاركونه دينه الأصليّ، المسيحيين التابعين للكتائب. أعمال خوري الأولى كانت حداثية، تتناول الصراع اللبناني حتى حين كانت الأحداث في طور الإنكشاف. في بعض رواياته مثل «الوجوه البيضاء» (1981) و«رحلة غاندي الصغير» (1989) حمل خوري مرآة خياله المكسورة في وجه بلدٍ على وشك الإنهيار. 

رواية خوري الأكثر شهرة هي «باب الشمس» (1998) والتي وصفتها نيويورك تايمز بأنها "عمل فنّي عبقري". هي ثمرة السنوات التي قضاها خوري في المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث استمع إلى قصص اللاجئين حول سقوط قرى الجليل خلال النكبة، عام 1948.
 
الرواية هي ملحمة تجمع هذه القصص. كتبت كلوديا روث بيربوينت في ”ذا نيويوركر“: "تستحق القراءة مرّتين لأنّه من الصّعب رؤيتها كاملة من المرّة الأولى، ولأنّها غنية بطريقة ذكية". الرواية، في محورها، هي قصة زوجين فلسطينيين ينفصلان بعد الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1948: المحارب يونس وزوجته نهيلة اللذين يلتقيان في السرّ ويمارسان الحبّ في مغارة -اسمها "باب الشّمس"- في قرية من قرى الجليل قرب الحدود الّلبنانية. هي، قال لي خوري، واحدة من قصص الحب القليلة في الأدب التي تتحدث عن متزوّجين.

خوري هو أيضاً من أهمّ النقاد والمحرّرين في العالم العربي. 

بدأ بكتابة المقالات في «شؤون فلسطينية» الشهرية في بداية السبعينات. (هناك مجلّدات تحتوي على أعماله النقدية باللغة العربية)، كما كان محرّر الملحق الثقافي التابع لجريدة «النّهار» في بيروت (الملحق)، خلال التسعينات، والتي تحوّل إلى منتدى للنقاش حول إعادة بناء لبنان بعد الحرب. بالنسبة لخوري، فإن هدم وإعادة بناء وسط بيروت هي فرصة ضائعة لتصالح البلد مع ماضيه القريب. بدل الإعتراف الواقعي بالمسؤولية، قامت النخبة اللبنانية بفرض نوع من فقدان الذاكرة الوطني. الملحق، برئاسة تحرير خوري والذي استمرت حتى عام 2009، أصبح أيضاً منبراً للسوريين الخارجين عن النظام خلال حكم بشار الأسد. اليوم، خوري يكتب عاموداً أسبوعياً عن الثقافة والسياسة في الصحيفة العربية اليومية «القدس العربي» وهو رئيس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية» في بيروت. 

شخصيّاً، خوري مفعم بالحيوية، خفيف الظل، ودقيق. يتوقّف فجأة مراراً في وسط الشّارع ليستمع إلى ما تقوله أو ليؤكّد رأيه بشكلٍ قاطع. الحديث معه مليئ بالقصص -يحكيها بصوت منخفض، تظهر عليه عقود من تدخين المارلبورو- والتي تنتهي عادةً بضربة منه على الطاولة والضحك. حكاياته، وأغلبها عن رفاقه من الكتّاب العرب، تظهر حبّه للفاضح بإعتدال أو للمجدف بجدّية. خوري يستمتع بالجدال كذلك. حين يطرح عليه سؤال، يندفع لكي يصحّح أو يخالف الفرضيّة المطروحة. لديه آراء سياسية ثابتة يعلنها بصراحة، بغض النظر عن المستمعين. لديه كذلك عادات لغويّة عديدة مثل إطلاقه على الإسرائيليين لقب "أولاد عمّنا" وتلاوة "بسم الله الرحمن الرحيم" برسميّة مصطنعة قبل شرب الإسبرسو أو الرّد على اتّصال يفضّل عدم الرّد عليه.

أجريت هذه المقابلة على مدى يومين في مكتب في جامعة نيويورك، حيث كان خوري بروفيسوراً في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية لعدّة سنوات (الآن يعيش في بيروت على مدار العام). المكتب كان غير مستخدم بشكلٍ واضح، الرفوف خالية، بينما الزينة الوحيدة هي خريطة لمترو مدينة نيويورك ملصقة على الحائط إلى جانب الباب. قطعة من واشنطن سكواير بارك تظهر من النافذة. المقابلة كانت باللغة العربية، وقد ترجمتها إلى الإنجليزية لاحقا.