بمشاركات من نوال حلاوة وناهد الشوا وعائشة عودة ونسب حسين وشيخة حليوى وابتسام عازم وليلى الأطرش

سبع كاتبات من فلسطين يتحدثن عن الكتابة وجدواها في الزمن الراهن

2017-09-14 15:00:00

سبع كاتبات من فلسطين يتحدثن عن الكتابة وجدواها في الزمن الراهن
LAILA SHAWA, IMPOSSIBLE DREAM, 1988
مع تصاعد موجات العنف المتنوعة ومتعددة المشارب في المجتمع الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال ومن الشتات، نسأل سبع كاتبات فلسطينيات عن جدوى الكتابة في اللحظة الراهنة، وإن كان للكتابة دور في تغيير هذا الواقع المؤلم الذي تقاوم فيه المرأة الفلسطينية على أكثر من جبهة... 


ليلى الأطرش - روائية فلسطينية تعيش في الأردن
تمرّد الكتابة

الكتابة في زمن التحديات المصيرية ليست ترفًا فكريًا، بل فعل تمرّد على الواقع، وصرخة في وجه التردّي الثقافي والفكري، فتحاول كسر قيود الواقع، فتبرز أكثر عنفًا وصخبًا وواقعية، كاشفة مثالب الأفكار والسلطة الرقابية في مجتمعات لم تعد السلطة الأبوية بأنواعها هي السيف المسلط وصاحب القرار على الكتابة، بل لتتحدى رقابة أكثر تخلّفًا واستبدادًا وأحيانًا دموية، وهي السلطة الديّنيّة التي لا تعتمد أحيانًا على مرجعية النص، بمقدار إتكائها على أنها تمثّل الدين، وأنها الحارس عليه ويد الله في تنفيذ ما تراه مناسبًا من تكفير وقمع ومنع وعقاب. 

وفي ظل التدخّل الأجنبي في البلاد العربية خاصة في العقود الأخيرة، وتداعياته من صراع طائفي وعرقي وتشريد ولجوء، بدأت الكتابة تتّخذ أشكالًا أخرى، ربما كانت أسرع تأثيًرا من النثر والشعر والصحافة الورقية، مع وفرة وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة النشر وإفلاته من الرّقابة السّياسيّة والاجتماعيّة، وتوفّر فضائيات خاصة تبحث عن جرأة الطرح، والأهم اللجوء إلى المسرح لتأثيره المباشر على المتلقي، وإمكانية الإسقاط التاريخي لطرح كثير من المسكوت عنه، وهناك أمل يتمثل في عودة نساء النخب للقراءة وتكوين تجمعات ثقافية، في حين تشرذمت المؤسسات التي يفترض أنها تمثّل الفكر التنويري للكتّاب، سواء رابطة أو اتحاد، لكنها انقسمت حول مواقف هيئاتها السّياسيّة من الصراعات السّياسيّة والطائفية للأسف.

وليست الإشكالية الحالية في تمرّد الكتابة في وجه ما يحدث للنساء من عدمه، أو المحاولات الحثيثة لتغيير بعض مواد القوانين العربية، التي تحمي العنف ضد النساء في ما يسمى بجرائم الشرف أو عقاب المغتصب، إنما في تأثير الكتابة على المجتمع، وتغيير الأفكار والمعتقدات، فالأزمة الحقيقية هي في مقدار وحقيقة هذا التأثير على النساء، ودفعهنّ للتمرد والثورة في وجه ما يفرض عليهنّ. لقد تراجعت مكتسبات المرأة العربية إلى الحضيض مع مآسي اللجوء والتشريد والقتل، ليس فقط في مجال حقوق المساواة ومكتسبات العمل، بل في حقها كإنسان، المسكن والغذاء والتعليم والعلاج. وليست مخرجات تعليم الفتيات، مع تفاوت نسبها، مؤشرًا دقيقًا على وضع المرأة العربية، ومثلها شريحة النخب التي حقّقت إنجازات في مجالها، فالمؤسف مثلًا أن نسبة الأمية بين نساء العراق الآن تجاوزت 65%، نتيجة الصراعات والخوف من القتل أو السبي، والتهجير.. هذا عراق العالمات والطبيبات والمهندسات ورائدات التنوير والتجديد في الشعر العربي كنازك الملائكة.

وفي الحروب يشتد التضييق على النساء، فهنّ ضحايا العنف وصراعات الرجال وأخطائهم والتدخل الأجنبي كما الصراع القبلي والطائفي والعرقي. وجنون ما يحدث للنساء في العالم العربي خلال وبعد ما سمي ظلمًا بـ"الربيع العربي" شاهد حي على همجية الأفكار التي تربّى عليها الرجال العرب، من الاعتقاد بحقهم في ملكية النساء سواء الأصول والمحارم وكل امرأة أخرى. وهي أجيال تربت في مدارسها وبيئتها على عقول فسّرت واجتزأت نصوصًا بما يتناسب ومصالحها ورؤيتها. وهي نتاج تربية دينية وأسرية واجتماعية تؤمن بقوامة مطلقة للرجل. ولهذا أفلتت جميع القوانين من قبضة الشريعة والهيمنة الديّنيّة عدا الأحوال الشخصية التي تحكم وجود المرأة وقيمتها ودورها ورؤية الرجل لها، فقد بقيت في يد السلطة الديّنيّة، تفسيرًا وتطبيقًا.

وفي ظروف كهذه ليست الكتابة وحدها المطالبة بالمواجهة، فالتغيير الحقيقي هو تغيير منظومة متكاملة تربوية وفكرية وإجتماعية يبدأ من مناهج التعليم، والتربية الأسرية والإجتماعيّة التي تحترم المرأة وتنبذ العنف والتمييز بين الجنسيين. 
ويظل السؤال الأهم لمن نكتب؟ شخصيًا توجهت للكتابة للمسرح للكبار والأطفال، إلى جانب الرواية، لتأثيره المباشر على المتلقين.

ابتسام عازم - روائية فلسطينية مقيمة في نيويورك
الحكايات البديلة.. حكايات الزمان والمكان 


تلعب الكتابة الإبداعيّة بالنسبة لي دوراً رئيسيًا في مقاومة الظلم السّياسيّ والاجتماعي والإقتصادي والجندري. لكنها، أي الكتابة الإبداعيّة، لا يمكن أن تقوم بدورها هذا إذا تخلت عن جمالياتها. لأنها عند ذلك تسقط في فخ المباشرة. وهذه الجماليات تختلف طبعًا من كاتب/ة لآخر، لكنها مكوّن رئيسي إلى جانب أمور أساسية أخرى كموهبة الكاتب وتشعّب ثقافته وحساسيته للعوالم التي حوله وعطشه الدائم للمعرفة والإنصات والتقمص وغيرها. وليس المقصود بالجماليات التزويق، وإنما جماليات الصور والموسيقى في اللغة وطريقة السرد والدراما داخل النص وما إلى ذلك. تسخّر كل هذه الأدوات من أجل سرد حكايات الشخصيات وحكايات الزمان والمكان كما عوالمها الداخلية والخارجية. 

وتتجلى أهمية كل ما ذكر أعلاه، مثلًا، في المجتمعات والشعوب المناضلة التي تقبع تحت استعمار استيطاني منذ أكثر من سبعة عقود، كما هو الحال في فلسطين، أو تلك التي تعيش تحت بطش دكتاتوريات شمولية كما هو الحال في أغلب الدول العربية، طبعًا مع اختلاف وخصوصية كل حالة. تشكّل الكتابة بالنسبة لي الحكاية/ات البديلة ومصدر قوة تنافس بل تتعدى قوة الروايات التاريخية الرسمية، على الأقل مع الوقت. وليس المقصود هنا أن تكون الرواية "تاريخية" بالمعنى الحرفي للكلمة، بل يجب أن تحمل في طياتها روح عصرها. وهذا يعني أنها تشكل انعكاسًا مهمًا ووثيقة لفهم المجتمعات في الأزمنة والسياقات التي تتعامل معها. 

إضافة إلى ما ذكر أعلاه، فالكتابة الإبداعيّة، في كل تجليّاتها وأجناسها، تلعب كذلك، دورًا رئيسيًا في خلق فسحة ومتنفس، خاصة في زمن الحروب والمحن. إنها غذاء ضروري لأرواحنا باختلاف ثقافاتنا وخلفياتنا. وينطبق هذا على المنتج الثقافي عمومًا. ولعل السنين الأخيرة أكدّت حضوره وتأثيره في الحيّز العام. ألم تكن الأغاني محركًا للمظاهرات والاحتجاجات، وأعارت صوتها لحناجر الباحثين عن الحرية لتوحد أصواتهم في الشارع من أجل التغيير؟

وإلى أي مدى يمكن أن تغير أو تؤثر الكتابة على واقع ما؟ أعتقد أن الإجابة على السؤال تبقى ناقصة. بالنسبة لي شخصيًا هناك العديد من الأعمال الإبداعيّة، بما فيها الموسيقية والأفلام والروايات والأشعار والمسرحيات، التي كان لها أثر مهم علي وبقيت شخصياتها، سواء كرهتها أم أحببتها، تعيش معي. نحن نرى العالم ونفهمه عبر الحكايات وعبر شخصياتها. ونفهم التاريخ بحسب السارد الذي نستمع إليه. هذا على المستوى العام والجمعي. 

هناك نصوص أعود إليها حين أشعر بضيق روحي أو نفسي لأقرأها من جديد أو اقرأ مقاطع منها للتطهّر الروحي والوجودي ولكي أستطيع المواصلة والبدء من جديد. بغض النظر عن تأثير النص على الآخر والمجتمع، فعلى مستوى شخصي، يظل "الخلق الإبداعي" في الكتابة حاجة نفسيّة ووجوديّة.

شيخة حسين حليوى - كاتبة فلسطينية تعيش في حيفا
الكتابة ثانيًا وربّما آخرًا


كنت طفلة لم تتجاوز السابعة حين صفعني أوّل نصّ شفويّ دمويّ ولم أكن بعد قد أتقنت فكّ شيفرة المفردات الصعبة. ربّما الوجوه فقط وإنزواء ملامحها. نصّ تداولته النسوة بخوف ورهبة: لقد ذبحها على مرأى من صغارها. كانت تعجن فجرًا كي تخبز لأسرتها قبل إرتفاع الشمس. أخوها الذي ربّته بعد وفاة والديها "غسل عاره" كما يليق بابن السابعة عشرة. دم جارتنا الجميلة الشابة "وَدِيّة" ظلّ يشغلني لسنوات، هل وصلت رشقاته صغارها الذين تحلّقوا حولها وهي تبتسم في وجه أخيها وتعود لعجينها؟ أيّ طعمٍ للخبز المعجون بدم المذبوحات؟ 

بعد سنوات طويلة كتبت عن جديلتي المذبوحة وعن وضحى المذبوحة وعن جواهر الهاربة من وجه الذبح. لم تنجح كلمة واحدة ممّا كتبته أن تعيد الحياة والدماء لوجنة واحدة منهنّ، ولم ينجح نصّ واحد (هذا ما أعرفه) في ردع شيطان ذكوريّ يمارس طقوس الانتماء إلى قبائل الـ" يُراقُ على جوانبه الدمُ“.

أيّ جدوى للكتابة إذًا؟ أيّ كلمة مكتوبة قادرة اليوم أن تخترق سوق النخاسة المتنقّل وتنافس جدول الأسعار المُعدّ بعناية أرباب "كلمة الله"؟ أيّ نصّ كان قادرًا على هدم الفكرة المُنادية بدونيّة المرأة وإستباحة عقلها وجسدها؟ لماذا نكتب إذًا؟ ولِمن نكتب؟ سؤال قد يبدو مشكّكا في حقيقة أنّ الكتابة كانت على مرّ العصور ركيزة الحضارة والتاريخ. ربّما نسأل بصيغة أخرى: كيف تنجح كلمة في تجييش الجهل وتأجيج التخلّف وتفشل أخرى في تنظيم أبسط سلوكيّاتنا؟ قد تكون الإجابة في مَن يكتب وأيّ قوّة يملك. هي القوّة الديّنيّة والسّياسيّة القادرة على التغيير والتأثير. وحين يملكها مَن يؤمن بعدالة قضية المرأة وضرورة إنصافها من أجل بناء مجتمع سويّ مزدهر سيكون من السّهل القول أنّ الكتابة بأنواعها قادرة على حفظ التغيير والإبقاء عليه. ستكون حارسًا أمينا لمُنجزٍ مكتسبٍ بالقوّة، القوّة التي يملكها رجل الدين والسّياسيّ والناشط الإجتماعي والثائر والمُعارض وسيكون من السّهل أيضًا ومن الطبيعيّ أن تُلحق تاء التأنيث المربوطة بكلّ ما سبق ليس من باب التهذيب النحويّ بل من باب الإستحقاق والجدارة.

الكتابة ليست أوّلًا، هي ببساطة ثانيًا وربّما آخرًا. وإذا كان القول الشكسبيريّ السّائد أنّ الأمور بخواتيمها، سيكون من الإنصاف أن نعوّل على الكتابة من هذا الباب فحسب. 

نسب أديب حسين - كاتبة تعيش في القدس
هذا القلم.. تلك النيران


أغمضُ عيني.. فتحاولُ اختراق أذني.. أسدّ أذني.. فتُحاول أن تتشكل في مخيلتي، أفتح عيني مرّة أخرى، أسارع لعزل الكهرباء عن التلفاز. أخرج صوب شرفتي، لعلّ النسائم تحمل كلّ تلك المشاهد المزعجة التي تزداد يومًا بعد يوم، محاولة أن تجد لها مكانًا في ذاكرتي، بعيدًا عني. ليحشر سؤالٌ ما زال يتكرر منذ سنوات، نفسه.. أين سيصبُ هذا النهر من الدماء؟ 
عندما تفجرت القطرات الأولى من الدم، لم ندرك أنّ الربيع لا يزهر بالموت، ظنناها قطراتُ زيتٍ ستشعل فتيل القناديل المطفأة في ملايين قلوب أمتنا، وستقودنا بخطوات سريعة صوب شمس جديدة. ربّما كانت أحلامنا أكبر منا.. وها نحن انشطرنا نصفٌ يموت ويُهجر ويُعذب ونصف يحاول يومًا فيوم رتق جراح خيبته، والبحث عن شعلة جديدة تبعثُ فيه القدرة على الإستمرار. 

مرّة أخرى يصرّ المشهد الأخير المزعج على معاودة الظهور.. فقطراتُ دمعها، رغم ملامح الوجه التي تقصدت الشاشة إخفاءه ما زالت تتساقط في قلبي، بهمسات شابة أجادت دوائر العنف في بلد كان من أجمل دول المشرق، أن تخطفها وتغتصبها بعد قتل زوجها ووالدها، وحين تتركها لحال سبيلها، تجد ذاتها مهددة من عائلتها، بعد أن عرفت عمّا حلّ بها وتبحث عنها لتطهير شرفها. ليصبح الرحيل والإنغماس بهوية وواقع جديد الحلّ الأفضل.. 

تغيب قصتها، وتبقى مرارة الوجع الكبير، حين تُفتقد مساحة للطمأنينة والاحتواء، في أراضٍ ظننا أنّ الربيع سيزهر فيها، فإذ به صيف حارق نيرانه تكوي الجميع.   

هذا الواقع الصعب بأشكاله المتعددة، وخيبات أثقلت كاهل أمانينا، يضعني مثل كل كاتبة عربية يعنيها شأن أمتها، في مواجهة ظلمة تحاول الاستقرار في حدود نوافذي، وقد تلوح أسئلة فاصلة حول جدوى الكتابة في زمن لا يكتب إلا بالدم والحواجز. 

وهنا تبقى أهمية صمود الكاتب والمثقف عمومًا، وحماية نفسه من دوائر التيه واللاجدوى. فرسالة الكاتب في رصد ما يحصل، والبحث عن رؤية وأمل أجمل، والتحريض في سبيل ذلك، في كل الظروف، هو مهمة لا يمكن الاستقالة منها ما دام صاحب القلم يليق به، وإن كانت رسالته لا تملك القدرة على التغيير الملموس، فسيكفيه شرف المحاولة، والتأكيد أنّ قلمه ما يزال حيًا لم تنتصر عليه النيران.   

عائشة عودة - كاتبة وأسيرة محررة تعيش في رام الله
نحتاج إلى وقفة


في زمننا هذا، حيث بدأت المرأة في الإستيقاظ من سباتها العميق، والحركات النسائية تتعاظم. فإن المحصلة لهذا النهوض، لا بد أن يعيد الألق لدورها الجوهري في تشكيل ثقافة وضمير الإنسانية، وإعادة التوازن إلى هذا العالم المضطرب بالحروب والصراعات المختلفة، والذي يمور بالظلم والعدوان. ما يعني بالضرورة، أن نهوض المرأة وتفعيل دورها، يصب في صالح المستضعفين جميعًا. فهل يسمح غيلان العالم بهذا؟ وأي خطط إلتفافية سيضعونها لحرف هذا النهوض عن جوهره؟

إنه السؤال المركزي الذي نحتاج إلى وقفة أمامه، لبحثه والإجابة عليه. فالغيلان التي تسيطر على مقدرات الشعوب، تعمل جاهدة لحرف كل حركة تحرر لأي شعب في القارات المختلفة، وبالذات في منطقتنا العربية بعيدًا عن أهدافها. فيسارعون إلى قمعها أو الالتفاف على إرادتها. فهل يقفون مكتوفي الأيدي أمام هذا التحرك التاريخي والإنساني للنساء، حاضنات الحياة، ومنشئات الأجيال، والمؤسسات الرئيسيات للثقافة والقيم والضمير؟

النساء لا يشكلن طبقة اجتماعية بعينها، أو شعبًا بعينه، حتى يتم قمعهنّ أو عمل انقلاب عليهنّ، أو محصارتهنّ، كما يفعلون بالأمم والشعوب. لكنهنّ في جوهر النسيج المجتمعي الإنساني كله. إذًا، لا بد من قفّاز حريري، ومن شعارات براقة وجذابة، ومن أموال تغدق بلا حساب، ليتم إدخالهنّ في تفاصيل، يتم تصنيعها، كما تصنّع الحِلي والملابس. فيغرقون خطابهنّ بمفرداتهم. وبرامجهنّ بتوجيهاتهم هم، وأموالهم هم. والهدف؛ حرف دور النساء الجوهري والجبار الذي يمكن له أن يساهم بشكل جوهري في تغيير وجه التاريخ.

ها هم يوحدون حركة النساء في كل مكان تحت قيادتهم. يعقدون المؤتمرات العالمية. ينطقوهنّ بالمفردات ذاتها، وكذلك الشعارات. ولهنّ الأولويات نفسها! نساء من سيرالانكا، ومن فلسطين، ومن إفريقيا وفرنسا وأمريكا الشمالية والجنوبية. نساء من طبقات فقيرة ومستَغلّة، وأخريات من طبقات مستغِلة! إنه لأمر عاطفي ومثير للانبهار، ورغم هذا المظهر الموحد لحركة النساء على مستوى الكرة الأرضية. إلا إنّه في الحقيقة، يتم تحويله إلى إصطراعات فردية، وبالذات إلى صراع مع الشريك في الحياة. لتشتعل النار في كل بيت وفي كل أسرة، فهذا أفضل ما يتيح سيطرة غيلان العالم على النساء وعلى الرجال على السواء. ليصبح الجميع مُلك بنان الغيلان وفي خدمة مصالحهم.

إن الدموع التي يسفحها هؤلاء الغيلان، حزنًا على المرأة المظلومة وبالذات في الدول من العالم الثالث، لا نراها تسفح على الشعوب المظلومة، مثل الشعب الفلسطيني مثلًا، الذي يتعرض رجاله ونساؤه وأطفاله وأرضه وتاريخه وماضيه ومستقبله، لعدوانٍ وظلمٍ وقهرٍ شامل، تنزلها مدللتهم دولة الإستيطان والعنصرية (إسرائيل) على هذا الشعب! ألا يجدر بأن تكون العدالة واحدة؟ ويكون رفض الظلم واحدٌ؟

إن جوهر هذا التدخل يقول: لتشتعل النار في كل بيت، وفي كل أسرة، فهذا هو الذي يتيح سيطرة الغيلان على النساء وعلى الرجال على حد سواء، ليصبح الجميع مُلك بنانهم، ويخدمون مصالحهم. نحن بحاجة إلى إنسانية تسودها المحبة والعدل، وهذا بحاجة لدور النساء الفاعل. لكننا لسنا بحاجة إلى غيلان جديدة. أو لمزيد من مجندات يساهمن في الحروب، ويتفننّ بالتعذيب، كما حصل في سجن (أبو غريب) العراقي، أو حصل ويحصل في أقبية التحقيق الصهيونية.

ناهد الشوا - كاتبة قلسطينية تعيش في كندا
انتصارًا لثقافة المحبة


في زمن العتمة الذي يتمدد في القلوب ويحتل كل الفصول، في زمن القهر والتعذيب النفسي وجهًا ملطخًا بالهمجية البشرية، يشعر الكاتب بمسؤولية عظمى محاولًا بقلمه أن يواجه الطغيان الفكري من خلال أفكاره وكتاباته، يتطلع لنشر النور ويسعى لاستهداف العقول مستبسلًا في سبيل انتصار ثقافة السلام والمحبة والخير على العنف والاستبداد والقهر. فالمرأة العربية والرجل العربي على السواء يواجهان عنفًا منظمًا متنوع المشارب والمذاهب، تارة باسم الدين وتارة بإسم المبادئ وتارة بإسم التقاليد والخزعبلات الفكرية البالية. في حين أننا شعوب متعطشة للارتقاء في فضاءات الحرية والسلام والتعبير عن الذات، نحاول أن نمارس إنسانيتنا السمحة دون إنكسار أو احتلال فكري. لكن كيف لنا ذلك وهي مسجونة في زنزانات العنف والحروب والتسلط؟! 

لهذا أكتب للطفل العربي مهما كان جنسه ليقاوم ويدافع عن مفاهيم الحرية والعدالة والإنسانية. لينبذ العنف والتطرف والعنصرية والهمجية. ليفهم أولًا أن هنالك حياة كريمة وحرة وأخلاق نبيلة أساسها الحب والتسامح والإيثار. وقبل أن يكون رجلًا أو أنثى هو إنسان، وله حقوق واضحة تحميه من العنف والذل والتشرد والغياب في دهاليز التخلف.

الكاتب لا يحمل قلمًا فقط! هو يحمل سلاحًا نوعيًا وبه يصنع جبهة قوية ومعززة فكريًا ضد أي عنف سواءً كان فكريًا أو نفسيًا أو جسديًا، فإنما الفكر السليم هو الدواء الذي يجب أن نقدمه وتتشربه عقول أطفالنا لنداوي العديد من الأمراض الاجتماعيّة المنتشرة حاليًا ومنها العنف الموجه ضد المرأة أو الطفل أو الإنسان بصورة عامة. 

فلنتذكر أن نصف شعوبنا من الأطفال، فهل لنا أن نتخيل هذه الملايين من الأطفال عندما تكبر وتكون مؤثرة وقيادية تفهم وتعي وتبادر وتسعى في الخير والسلام وتفكر تفكيرًا سليمًا. ألا ما أجمل الغد وما أرقى الشعب وقتها! 

إن الإنسان بطبيعته يتطلع إلى المعرفة، كما أن اللغة هي أداة البحث والخلق والإبتكار التي تشكل مجالًا لإثبات الطفل لوجوده كمبدع ومفكر، وكتب الأطفال تعتبر أحد الأدوات المهمة لتلبية هذه الحاجات للطفل، وقد كتبت أولى كتبي لأطفالي بداية كوسيلة لتحفيز الخيال لديهم وحثهم على التفكير والتساؤل. ولا زلت أكتب كأني أكتب لهم، إما لأوضح بطريقة غير مباشرة ماهية السلوكيات السليمة أو لأعزز مفاهيم فكرية هامة مثل التفكير الحر ونبذ العنصرية وتقبل الآخر والمبادرة والتفكير خارج الصندوق أو بقصد أن يستمتع القارئ بالقراءة ويضحك ويستشعر الأحداث بطريقة مسلية. 

إن الكتابة للأطفال تعتبر أصعب أنواع الكتابة. فهي من النوع السهل الممتنع،  حيث يجب أن تخضع لإعتبارات تربويّة وسيكولوجيّة، وأدبيّة وفنيّة. فهي نوع من التربيّة في الدرجة الأولى لما لها من دور كبير وفاعل في التأثير في فكر الأطفال، فالكاتب مرب قبل أن يكون كاتبًا ومؤلفًا، وعليه أن يجعل التربية تحتل مكان الصدارة في أي عملية موازية وذلك ضمن إطار قواعدها السليمة.

الطفل المعاصر في القرن العشرين أكثر نضوجًا من قبل، هو يبحث عن المعرفة والمعاني كما الكبار، حتى أن مسألة تحديد عمر البالغ أصبحت مسألة شائكة. لذا لا بد لأدب الطفل أن يغير خطابه وأن يواكب التغيرات والثورات الفكريّة القائمة التي بدلت من مفاهيم كثيرة اجتماعيّة وإنسانيّة، والعديد من إصداراتنا كسر مسألة لمن كتب هذا الكتاب! فالمفاهيم الإنسانية لا تستهدف طفلًا فقط، بل تستهدف الكبار أيضًا. تصلني رسائل عديدة من مربين وأهالي على سبيل المثال أكدوا لي أنهم استشعروا رسائل بعضًا من كتبنا كأنها موجه إليهم وقد مستهم بقوة، في حين أن الطفل استشعرها وتفهم رسالتها. إذًا لا بد لمن يكتب للطفل أن يحترم عقل الطفل ويقدم من خلال ما يكتب الإنسانية كإطار للتفكير ويعرف تمامًا أنه مسؤول عن إعادة هيكلة أو حتى بناء فكر مواجه للعنف بكل أشكاله.

يهمني من خلال كتاباتي أن تصل رسائل المحبة والخير لتحفز قادة الغد على الإبداع وحثهم على إحداث التطوير والتغيير والبناء والإيجابي في سبيل مستقبل سلام وعدالة وأمان. فما نفع الأدب إن لم يعملنا الحب!

نوال حلاوة  - روائية فلسطينية مقيمة بكندا
نزرع قيمنا في زمننا المهزوم


لا شك أن للكتابة الإبداعيّة الواعية تطرح مشاكل مجتمعها وتترك للقارئ أن يفكر في حلول في مواجهة كل أنواع العنف على اختلاف مشاربه ودرجاته ليساهموا معًا في تغيير هذا الواقع الكارثي لأن الكتابة فعل نشط يستجيب له المتلقّي إذا خاطب عقله واحترم إنسانيته، والكتابة أفضل راصد ومُصّدر لثقافتنا وأدبنا وعلومنا وحضارتنا وتراثنا وقيمنا خاصة بعد أن أصبحت المرأة العربية تساهم بشكل أكبر وأوسع في نشر إبداعاتها الأدبيّة بعدما أبحرت في شتى أنواع المعرفة التي تركز على الإنسان والجنس وتساهم كتاباتها ودورها كأم أيضًا في تنقية أدمغة الأجيال الشابة التي تم غسل بعض أدمغتها بمعتقدات ألبسوها ثوب الإسلام، ومارسوا باسمه جرائم قتل الأبرياء وتهجير من بقي منهم أحياء لمصير أسود، وساهموا في بيع الفتيات القصر واغتصابهن بعد أن أصبح الهم الأول هو إنقاذ الذات وإستجداء لقمة العيش وخيمة لاجئ.. هذا الجنون الشيطاني مارس ولا يزال يمارس القتل المجنون ويدمر الإنسان وبنيته التحتية وتراث الأجداد وعمرانهم المستدام منذ آلاف السنين في عدة بلدان عربية.

الكتابة هي خلاصنا وأداتنا الوحيدة لإنقاذ ما تبقى فينا من قيم وإشعال وتوقد عقول وقلوب شبابنا العربي الضال بالعودة إلى إنسانيته التي دمرتها معتقدات جهنمية كارثية باسم الإسلام الذي يلتحفوا به وهو بريء منها. الكتابة عمل إنساني بحت يعيد لإنسانيتنا كيانها واحترامها ونبذ ما علق بها من شوائب واستعادة قيمنا نبراس حياة كل إنسان. الكتابة نور المعرفة ونهضة الوعي وشحذ العقول الغافية وإعادة الثقة بالنفس التي هي أساس القوة وداعمًا للإرادة الصلبة وشاحذًا للتخلص من الكوارث المدسوسة على مجتمعاتنا العربية.

الإنسان هو أساس بناء المجتمعات الحاضنة للوعي والنضج الذي تنتجه الكتابة الذكية النيرة وتؤدي إلى الخلاص من الكوارث التي داهمتنا، هذا إذا أردنا ووحدنا موقفنا ككتّاب بعامة والمرأة بخاصة للخلاص منها. لأن المرأة تتحمل عادة مسؤوليات مجتمعها والكتابة فقط لا تكفي وحدها لخلاصها وخلاص مجتمعها من بؤر الفساد والظلم والقهر والتنكيل الذي تتعرض له المرأة الضحية وكبش الفداء لكوارث الوطن ومجتمعاته.

إن أهم دور للمرأة هو تهيئتها معرفيًا وثقافيًا كأم لتربية جيلٍ واعٍ لقيم الإنسانية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والرأي، وأهمية مساواة المرأة بأخيها الذكر يجب أن تنمو رويدًا وسويًا معه في البيت حيث لا تفرقة بينه وبين أخته، لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات، خاصة وكلنا يعرف أنه لا فرق من الناحية العلمية بين أدمغة الرجال والنساء والفرق الوحيد هو أن المرأة هي التي تحمل وتعاني شهور الحمل التسعة وآلام الولادة وينسب المولود لأبيه.

دور الكتابة هو تصحيح أخطاء سياسات تحجيم دور المرأة، وعلى المرأة نفسها أن تحصن نفسها وتعي وتتحمل مسؤولية تصحيح هذا الخطأ الشائع وخطورة القوانين التي سُنت من قبل رجال الدين في تفسيراتهم وتشريعاتهم وقوانينهم التي حجمت دور المرأة في الحقوق المشروعة لها ووضعت الحد لكل من حاول/حاولت تصحيح وضعها الإنساني وحقوقها المشروعة.

الكتابة أملنا الوحيد في التنفيس عن كبت مجتمعاتنا وترشيدها، وأشعر بالفخر لما تنتجه المرأة والرجل معًا من كتابة جادة على جميع الصعد، والمتتبع لإنتاج وإبداعات وكتابات المرأة المثيرة للجدل في الفترة الأخيرة من القرن الماضي حتى الآن، خاصة بما يتعلق بالظلم والقهر حول واقعها الكارثي الذي انفجر وأعلن عن ذاته بقوة منذ خطر الربيع العربي الذي تحول من ربيع الديمقراطية والحريّة والعدالة الإجتماعيّة الذي هب له الشباب المثقف (المرأة والرجل) على حد سواء إلى مستقبل أسود ومارد جبار يقتل بالسيف وبكل أنواع أسلحة الدمار الحياة والبشر والزرع والأرض. وعدّ نكبة سوداء ضربت الأمة العربية بعامة والمرأة بخاصة.