أطفال مبادرة "العمل للأمل"... وحفلة "مسرح المدينة"

2017-09-20 11:00:00

أطفال مبادرة
الصورة لكرم أبو عياش

أستاذ خالد علاف وأستاذ عمر سعيد ينتقلان الى المطبخ لفسحة من التدخين. تتأخر الأستاذة سلوى جرادات قليلاً مع تلامذتها. ولكن لا بأس طالما أن هنالك وقتٌ كافٍ للعب لعبة الخمس حجرات. أو لعبة "صقلة" كما يسميها أهل ريف حلب أو لعبه "بحته" وفقاً لأهل إدلب. لم يعرف أيٌ من الأطفال تلك الفروق بين اللعبة ذاتها قبل هجرتهم الى مخيمات اللجوء اللبنانية. يلعبون بالحجارة ويرفعونها عالياً في الهواء ثم يلتقطون الحجرة الأولى فالثانية فالثالثة ضمن إيقاع محدد وقواعد عصية على من خفيت عليهم ألعاب الحروب. عيونهم فرحة والحماسة حاضرة لحفلة مسرح المدينة. بعضهم يخوض حفلته الثالثة الآن.

ثلاثة أبواب خشبية. ضجيجٌ جميل يحيط بغرف صغيرة حيث يتجاور الجميع على حب الموسيٍقى. كلٌ يمسك آلته ويعيد عزف المقطوعة إياها تحت تعليمات ثلاثة أساتذة ينتصفون غرفهم. في الغرفة "جيم" هنالك عازف أكورديون لم تنبت شواربه بعد يستفسر من الأستاذ بصوت خفيض، ومهى، ذات الضفائر الذهبية، تعطي بعض التعليمات لزميلاتها. بزقان يجاوران العود. في الغرفة "ألف"، أستاذ آخر يذكّر تلامذته حول اختلاف موقع الإصابع عند عزف "التاك" بين آلتي الكاتم والطبلة. 

عزف إيقاعي آخر… القفلة ليست كما ينبغي… لا بأس! سنعيد الكرّة! في الغرفة "باء"، غناء. 

غناءٌ جماعي تقوده الأستاذة، كأنها قائدة أوركسترا أو كأنها قائدة سفينة وسط بحر هائج أو الأمران معاً حتى ينفرد صوت حسن مغنياً. ساعةٌ من الزمن والأساتذة يعيدون التمارين لحفلة الثاني والعشرين من شهر سبتمبر. ينقحون أداءً تارةً، ويضبطون الإيقاع تارةً أخرى. 

يشجعون فتاةً خائفة. يخففون من تشنج عازف طبلة. حسناً. حان وقت الراحة. نصف ساعةٍ أو أكثر من الراحة للجميع. يخرج معظم الأطفال الى الباحة. تتراوح أعمارهم بين السابعة والثامنة عشرة. يبقى أحمد المربوط الرأس ليعزف قليلاً على آلة الأكورديون. 

أستاذ خالد علاف وأستاذ عمر سعيد ينتقلان الى المطبخ لفسحة من التدخين. تتأخر الأستاذة سلوى جرادات قليلاً مع تلامذتها. ولكن لا بأس طالما أن هنالك وقتٌ كافٍ للعب لعبة الخمس حجرات. أو لعبة "صقلة" كما يسميها أهل ريف حلب أو لعبه "بحته" وفقاً لأهل إدلب. لم يعرف أيٌ من الأطفال تلك الفروق بين اللعبة ذاتها قبل هجرتهم الى مخيمات اللجوء اللبنانية. يلعبون بالحجارة ويرفعونها عالياً في الهواء ثم يلتقطون الحجرة الأولى فالثانية فالثالثة ضمن إيقاع محدد وقواعد عصية على من خفيت عليهم ألعاب الحروب. عيونهم فرحة والحماسة حاضرة لحفلة "مسرح المدينة". بعضهم يخوض حفلته الثالثة الآن. مضى على دخولهم مدرسة الموسيقى ١٦ شهراً . تخللها عدد لا يستهان به من ساعات الدراسة الموسيقية التي تتطرق إلى نظريات وتاريخ الموسيقى. حين بدأت المدرسة، كانت ثلاث آلات متاحة للتعليم، اليوم يضاف اليها الساكسفون والناي. ٢٤ طالباً يتحضرون لحفلة "محلى نورها" . تلك الحفلة هي خلاصة ما يوازي ٥٢٠ ساعة عمل ودراسة.
 
خاص. رمان

مر على مهى كل تلك الساعات وتبتسم. بالنسبة لها كانت ساعات حصتَي نظريات وتاريخ الموسيقى بمثابة اكتشاف. أن تكتشف ممّ يتكون الصوت وعناصره الثلاث: الطبقة والشدة والمسافات. أن تتعرف إلى مقامات "صُنِع بسحرك". صبا. نهاوند. عجم. بيات. سيكاه. حجاز. راسط وكرد. أن تعرف أن لكل مقام نوتة ثابتة ينطلق منها ويعود إليها، بالإضافة إلى مجموعة نوتات أخرى. أن تكتشف كل تلك الفوارق والمسافات بين المقامات وأن تلتقي بأستاذ مصطفى سعيد في ورشات وحصص مكثفة وأن تتعلم منه أن تنقل موسيقى تحرّك روح الجمهور. كل هذا بالنسبة لها كنزٌ ثمين. رغم ذلك ما زالت ابنة الرابعة عشر تشعر أن كل الموسيقى التي تعزفها حتى الآن ليست بموسيقى. عليها أن تشعر بآلتها أكثر وأن تنصهر بها. تفكر مهى كثيراً بعلاقتها كفنانة يافعة مع الجمهور وترى أن هنالك كمٌ كبير من المساومات معه أي أننا نختار دائماً الأغاني التي ترقّص الجمهور أو تفرحه من الخارج بينما هنالك روحٌ خفية للموسيقى تتعدى هذا البعد. عندما تحزن مهى أو تفرح حتى، تمسك البزق وتبدأ بالعزف لتخرج مكنوناتها. قررت الصحافية في تلك اللحظة أن تطلب من كل شاب أو شابة تقابلها في الفرقة أن تقترح أغنية أو مقطوعة موسيقية كي تتشاركها مع القارئ وكان اقتراح مهى سماع "يا أيها المختار” وهي أنشودة دينية للشيخ طه الفشني.

على بعد أمتار عديدة، يتعب أحمد المربوط الرأس من العزف على أكورديونه الخاص. ليس تعباً من الآلة بقدر ما هو تعبٌ من قطَبه العشر التي يغلفها بربطة بيضاء. صوته اليوم منخفضٌ أكثر من العادة ورأسه تؤلمه. لم يمنعه ذلك التعب من التوقف قليلاً لتنظيف آلته. يمسك قماشة قطنية وينظف أكورديونه الخاص بعناية فائقة. هذا الشغف بالآلة يتشاطره تميم الفلسطيني، اللبناني الأم، ولكن الآلة المنشودة هي الطبلة. كل ما حفظه من دروس نظريات الموسيقى تتعلق حصراً بالطبلة والدربكة كما يسميها كثيرون هي تسمية خاطئة. بالنسبة لأنس، عازف العود في الفرقة، أقدم آلة تم اكتشافها هي الناي وما يميز الموسيقى العربية التي تم الكشف عنها في بلاد ما بين النهرين وبلاد اليمن هو بعد الـ ٣/٤ (أو الربع تون). 

لم تنته الفرصة بعد… الكل منشغل بشكل ما: الأستاذان عمر وخالد يخططان لمشاريعهما المستقبلية عند انتهاء الحفلة ثم يصمتان. عمر يتذكر الثنائي زينغو ورينغو – فتاتان من صف الإيقاع. سيفتقد تلك اللحظة التي تتكرر دائماً حين يجلس الثنائي زينغو ورينغو في فيئ الشجرة في الخارج وتتجادلان من أخطأ في الأول... فتتردد اللازمة ذاتها: أنت أخطأتِ… كلا أنت أخطأتِ. ثم تقوم الفتاتان وتراجعان عزف المقطوعة الإيقاعية معاً. من ناحيته يشعر خالد بالرضى لأنه يقوم بفعل إيجابي في هذا الزمن الأغبر لأطفال لم يختبروا من الحياة شيئاً سوى الحرب. لا ترى سلوى، خريجة إعلام وتنهي حالياً دروسها في علم الموسيقى، أن الدينامية التي تجمعها بالطلاب هي دينامية فوقية أو دينامية أستاذ يلقّن تلميذاً معارفه. التلامذة هم من علمّوا سلوى كيفية نقل المعلومة وهم من نقلوا اليها تلك الطاقة الجميلة التي غالباً ما تحتاج في ظل ضغوطات الحياة والدراسة والعمل. 

انتهت الفرصة. يعود كلٌ إلى غرفته. 
 
خاص. رمان

زهرة دحوس، منسقة مدرسة جب جنين، تنتقل من غرفةٍ الى أخرى، عبدالله بيرقدار، منسق منطقة البقاع لم يقم عن حاسوبه منذ الصباح، بسمة تحمّل الفيديوهات التي قامت بتصويرها خلال التمارين، والصحافية تراقب وتصوّر كل شيء. تقف وسط كوريدورٍ صغير يفضي إلى غرفة واسعة ومكتب ثم مدخل البيت ثم البوابة الحديدية الذي كتب عليها "مبادرة العمل للأمل". على يسار البوابة، باحةٌ صغيرة. هنا تطمح بسمة الحسيني، مديرة المؤسسة لبناء مسرح متنقل. تنظر إلى مساحة البحص الممتد وتتذكر كل الأميال التي قطعتها المؤسسة الناشئة حتى اليوم. لم يكن الأمر بتلك السهولة ولا تخفّ الصعوبات مع مرور الزمن. تضحك حين تتذكر كيف واتتها الفكرة إنشاء مدرسة للموسيقى وللأفلام للناشئة. 

بالصدفة، شاهدت بسمة على التلفزيون زيارة لأنجلينا جولي لمخيم لللاجئين السوريين. حينها شعرت بالخزي. كيف تزور نجمة هوليوودية المخيمات وأنا التي لديها عدد كبير من الأصدقاء السوريين والتي زارت سورية لمرات عديدة وأحبتها… كيف أجلس هنا وأراقب كل هذا على التلفزيون؟ أحست في البداية أن الأمر غريب بعض الشيء. بعد يومين من التفكير ترسل بسمة رسالة عبر هاتفها إلى مجموعة من الأصدقاء. كان الرد بالإيجاب من قبل سبعة عشر صديقة وصديق على اقتراح زيارة لمخيم من مخيمات اللجوء السوري في تركيا. وتم التخطيط للرحلة في نوفمبر حيث قدمت تبرعات بـ٨٠٠ كيلوغرام من الكتب والشنط المدرسية للأطفال ولعب الأطفال والأدوية… تلك الزيارة التي امتدّت لخمسة أيام، مهدت لخروج الأفكار الأساسية للعمل للأمل. حينها تنبهت بسمة لعطش الناس لكل ما هو ثقافي أو فني. من تلك التجربة نبت مفهوم الإغاثة الثقافية والفنية وهي عبارة عن زيارة مجموعة من والفنانين والناشطين الإجتماعيين والثقافيين والأطباء للمجتمعات المهمشة -أكانت مخيمات لجوء أو غيرها- لمدة أيام حيث يتم تقديم مساعدات إنسانية وفسحات فنية ثقافية وورشات عمل للأطفال لا تخلو من النقاشات مع الأهالي. نبع ذلك من إدراك بسمة -التي كانت حينها مديرة تنفيذية لمؤسسة المورد الثقافي- لضرورة الإنطلاق من القاعدة والشارع ولضرورة إندماج الفنون مع المنظومة الاجتماعية والإقتصادية التي ينادي بها كل الناس. فكانت قوافل الإغاثة الثقافية التي بدأت عام ٢٠١٢ والتي تمّ احتضانها من قبل المورد الثقافي لمدة عام. ثم نشأت الحاجة لمأسسة مستقلة لمبادرة العمل للأمل واستتبعت قوافل الإغاثة ضرورة تدبير سبل للإستدامة فتبلورت حينها فكرة مدرسة الموسيٍقى ثم الفيديو، وورشات المسرح. تعمل مبادرة العمل للأمل على عدة محاور: منها ما يركز على العمل مع المجتمع مباشرة ومنها ما يركز على الفنانين والعناية بالمواهب ومنها ما يركز على تسويق هؤلاء الفنانين وتغيير الصورة النمطية حول الفن والموسيقى. تُراهن بسمة على مواهب استثنائية وهي جاهزة حالياً، رغم صغر سنها، لدخول السوق وتسعى من خلال المؤسسة لتقديم منح استثنائية لذوي المواهب المتميزة. 

ما زال الكوريدور يصدح بهذا الضجيج الجميل. الأبواب الخشبية الثلاثة مقفلة الآن. أصوات الأساتذة تختلط مع أصوات الإيقاعات مع نغمات الأكورديون والعود والبزق…. صوت حسن ينفرد بين حينٍ وآخر. 

على بعد أمتار من الكوريدور، ثمة ورقة على الأرض... على الأرجح أنها تعود للصحافية التي غادرت للتو. كُتب على الورقة العناوين العريضة التالية: 
ما احتيالي، حول يا غنام، يا حليوه، أهو ده اللي صار، فوق النا خل، طلعت يا محلى نورها، يا فجر لما تطل، يا أيها المختار 

هي مختارات من طلاب العمل للأمل. 
 
خاص. رمان