تُعرض المسرحية في "مسرح المدينة" ببيروت في 28/9

رائدة طه: «٣٦ شارع عباس، حيفا» هي حكاية من هُجّر ومن بقي

2017-09-26 14:00:00

رائدة طه: «٣٦ شارع عباس، حيفا» هي حكاية من هُجّر ومن بقي
رائدة طه أثناء التحضير للعرض

لا أحب عنونة الأمور بهذا الشكل أو ترميزها. أنا أنطلق من الخاص الفلسطيني المنبثق بمفرده وبشكله الطبيعي والعضوي من الاحتلال ومن العذابات والشتات والحرق والقتل والسجن وتهديم المنازل. القصص تأتي من الأسفل وتصعد إلى الأعلى… أنا أحكي القصة والقصة تكون انعكاساً لواقع ما. ولكن أنا لا أرمزها. لا أقول مثلاً أنني سأكتب الآن نصاً عن حق العودة. أكره هذه الأشياء. أنا مع حق العودة بالطبع ولكن لا أعنون أو أؤدلج… أنا أحكي قصصاً. فقط لا غير.

بعد نجاح جماهيري لعملها المونودرامي الأول كتابةً وتمثيلاً، تعود صاحبة «ألاقي زيّك فين يا علي»، رائدة طه، بجمهورها إلى حيفا. «٣٦ شارع عباس، حيفا»، هو عنوان عرضها الجديد الذي يتولى إخراجه المخرج والدراماتورج جنيد سري الدين، عضو فرقة زقاق التي نالت منذ أيام جائزة "الفنانين الشباب- بريميوم إمبيريال ٢٠١٧" ( قُدمت من قبل جمعية يابان للفن).

رائدة طه، ابنة الفدائي والشهيد علي طه وسكرتيرة ياسر عرفات السابقة، التي انتقلت مؤخراً إلى عالم المسرح، تملك اليوم مشروعها الواضح والجلي والذي يتخطي عرضي «ألاقي زيك فين يا علي» و«٣٦ شارع عباس، حيفا»: نقل سرديات الحكاية الفلسطينية انطلاقاً من حكايا الناس. يتقاطع هذا المشروع بشكل أو بآخر مع إحدى اشتغالات فرقة زقاق في توثيق ما لم يُحك بعد في سرديات الذاكرة اللبنانية.

هو حوارٌ دُفِعنا ثلاثتنا إليه دون أي تدبيرٍ مسبق. لربما هذا الحوار، كان لا بدّ منه في ظل أنظمة تمارس عنفها المؤسسي في طمس الذاكرة الجماعية والجمعية و في بتر تاريخنا المعاصر وفي ظل سردية «٣٦ شارع عباس، حيفا» التي تنقل حكاية عائلتين إحداهما بقيت في الداخل الفلسطيني والثانية طُرِدت من أرضها. هي أيضاً حكاية منزل (انتقلت ملكيته بين العائلتين) بذاكراتٍ متعددة تصب في سياق سردي واحد. 

السطور التالية تنقل لقاءاً مع رائدة وجنيد قبل دخولهما إلى قاعة التمارين تحضيراً لافتتاح «٣٦ شارع عباس، حيفا» الذي سيتم في مسرح المدينة في الثامن والعشرين من هذا الشهر. 

كيف وصلت رائدة إلى حكايتها الجديدة؟ 

رائدة: هي حكاية عائلتين. عائلة أبو غيدا وعائلة الرافع وهي عائلة صديقة لوالدي وعمتي ومع الوقت انتقلت هذه العلاقة التاريخية لجيلي وجيل ابنته نضال التي تعرفتُ عليها إثر ذهابي إلى فلسطين حيث توطدت علاقتنا شيئاً فشيئاً، خاصةً أنني عرفت أنها سُمّيت نضال وفقاً للاسم الحركي لوالدي الذي كان يدعى أبو نضال. خلق هذا الأمر علاقة خاصة بيني وبينها. بطلة العرض هي سارة الرافع أم نضال. ولولا وجود نضال لما وصلت القصة إلينا. 

جنيد: نضال هي التي خلقت القصة. 

رائدة:  تماماً. نضال هي التي بادرت وجمعت وتابعت الكثير من الأحداث وأكثر من ذلك، فهي قامت بالكثير من المبادرات وسوف ترين ذلك في العرض. وأنا لأنني كنت شاهدة على القصة وكوني أحب كثيراً القصص الواقعية، أعطتني نضال الفرصة بأن أحوّل هذه القصة إلى مسرحية، وهي قصة عن الذين هُجّروا وقصة عن الذين بقيوا داخل فلسطين. كل قصة شخصية فيها انعكاس كامل للتاريخ. هي قصة بيت الرافع وبيت أبو غيدا وهي قصة آلاف من الناس الذين هُجروا والذين بقوا.

وتجدينها تمثل الحالة العامة الفلسطينية بشكل أو بآخر.

رائدة: لا أحب عنونة الأمور بهذا الشكل أو ترميزها. أنا أنطلق من الخاص الفلسطيني المنبثق بمفرده وبشكله الطبيعي والعضوي من الاحتلال ومن العذابات والشتات والحرق والقتل والسجن وتهديم المنازل. القصص تأتي من الأسفل وتصعد إلى الأعلى… أنا أحكي القصة والقصة تكون انعكاساً لواقع ما. ولكن أنا لا أرمزها. لا أقول مثلاً أنني سأكتب الآن نصاً عن حق العودة. أكره هذه الأشياء. أنا مع حق العودة بالطبع ولكن لا أعنون أو أؤدلج… أنا أحكي قصصاً. فقط لا غير.

يبدو ذلك واضحاً من خلال قصتك الشخصية التي حكيتها من خلال «ألاقي زيك فين يا علي» وهي تشكل نوعاً ما تكريماً لوالدك ومصالحة ومصارحة معه في آن وهي أيضاً قصة والدتك وعمتك ووالدك ومع كل هذا تنطلقين من حكايا بسيطة لا تخلو من حس الفكاهة والسخرية، ولكن بدايةً ما الذي دفع بك إلى الانتقال من السلك الدبلوماسي إلى عالم المسرح والتمثيل؟

رائدة: صحيح أن القصص التي أحكيها تبدو بسيطة ولكنها تنبع أيضاً من تاريخ ألم كبير ومن عمق تجربة كبيرة. في البداية لم يكن التعاطي مع القصص بتلك السهولة. عندما أصبحت تلك القصص جزءاً مني وعندما أصبحت جاهزة للتعاطي معها وأصبحتُ متصالحة مع نفسي، هذا القسم من الكتابة أو عندما تتحولين إلى صورة عامة أو شخصية تعري نفسها على الخشبة، لا تعود القصة هي قصتي فقط، بل تتحول لتصبح قصة كل الناس. هنا تبدأ عملية التطهير والمصالحة مع الذات. قد يكون هذا هو الهدف غير المباشر لميلي نحو المسرح. ولكن الهدف الأساسي والمباشر يكمن في إحساسي أن هنالك حاجة ملحة أن أحكي قصتي وأريد أن أحكيها من منظوري أنا. لا أريد لأحد أن يحكي باسمي عن "بنت شهيد أو امرأة شهيد أو أخت شهيد أو…“. لماذا؟ أنا ابنة هذه الحالة كلها، أنا ابنة كل تلك الحالات. أنا أريد أن أحكي حكايتي. أما عن النقلة من السياسة إلى المسرح فهذا يعود إلى أن الظروف التي ولدت فيها التي جعلت السياسة مفروضة علي. كل حياتي مبنية على السياسة وذلك كان دون قرار نابعٍ مني. إذا ما نظرت إلى عائلة والدتي، إلى عائلة والدي، إلى استشهاد علي، إلى الآن، هذا الجيل حيث أولاد ابنة عمتي ثلاثة منهم في المعتقلات… كل هذا هو امتداد فُرض علينا وأصبح للأسف جزءاً من الحياة. لأن القضية الفلسطينية تصبح جزءاً من كيانك، وأنت جزءٌ منها، وبالتالي تُفرض أمورٌ عليكِ أن تتعاطي معها، ينتهى الأمر بخياراتك الأخرى إلى تحييدها بوضعها على جنب. فكرة أن تكوني ابنة شهيد وخريجة صحافة وإعلام وسكرتيرة ياسر عرفات الخ… كل هذا الاستخفاف بالأمور قررت أخيراً أن أكسره لصالح حبي للمسرح، ”مش أكسره بس، أطحبشو“. طوال حياتي كنت أحلم بالمسرح. المسرح تحديداً وليس السينما. لم تسنح الظروف لأننا كنا نعيش حالة حرب وأمي لم تحبذ الفكرة كما أنني كنت بكر شقيقاتي وكنت قدوة لهن… بقي المسرح حلماً بالنسبة لي ولكنني كنت أعرف أنني في يومٍ من الأيام سأحقق هذا الحلم. أخذ وقته الحلم وأنا فرحة لذلك، لأنه كل هذا الوقت الذي مرّ أنا كنت أملأ جعبتي بالحكايا والتي كانت تنضج. لو حققت حلمي قبل ذلك، لربما لما كان لدي شيئاً لأقوله. 
 

كم من المهم أن نحكي حكايانا وقصصنا؟ «٣٦ شارع عباس، حيفا» هي ثاني تجربة مونودرامية لك، وهي أيضاً تجربة حكواتية نوعاً ما. في هذا التوقيت، في هذا الزمن ومع كل ما يجري، ما أهمية أن ننقل حكايا الناس؟ وأنت تركزين كثيراً على تلك النقطة. في إحدى المقابلات قلت "بدل أن أحمل السلاح قررت أن أحكي".

رائدة: هذه أداتي. انطلاقة الثورة الفلسطينية من عمري وصحيح أنني تدربت عسكرياً ولكنني أيضاً كنت في فرقة فولكلور فلسطينية تنجز أغاني وطنية ودبكة. بالنسبة لي هي مسألة اختيار أدوات. هي صورة رمزية بعض الشيء. لأن والدي اختار خطف الطيارات والكلاشينكوف وأنا هذه أداتي التي أتقنها وأحبها وأعرف أنها أداة جداً ناجعة وهي حالياً تصبح أقوى وأقوى لأنها تخترق كل الحواجز. 

جنيد: كنت أفكّر للتوّ أن هنالك أمر إيجابي بين الوضع اللبناني والوضع الفلسطيني. قصتنا التاريخية غير مكتملة. لبنان، بالنسبة لي، لم يخلق بعد ومازال بلداً متشظياً بخيارات متعدّدة… الأمر الذي ينطبق على قصة التاريخ الذي انشطر خلال الحرب الأهلية ولم تكمل الحكاية اللبنانية مسارها. في حين أن القصة الفلسطينية مُنِع قولها. لذلك كما يحكى التاريخ بحكاية هنالك حاجة ملحة لنعود ونقول ونردد ونبني قصصنا وحكايانا بأنفسنا لنبني منطقاً جديداً. وهذه حاجة أساسية وسياسية أيضاً.

هي محاولة أيضاً لبناء تاريخ بديل أو مغاير. أليس كذلك؟

جنيد: هي تبني تاريخاً وتبني علاقة مع الانتماء للمكان ومع كل شيء. لأجل هذا الأمر، بالإضافة إلى قدرات رائدة الهائلة في التمثيل، عملها على النص أساسي جداً. وهنا تتلاقى فرقة زقاق مع رائدة في ضرورة بناء سردياتنا الخاصة في عالم مثل عالمنا ومع أنظمة قمع وفساد وجهل وتجهيل، هنالك عنف ممارس على القصص لأن هنالك حكاية واحدة يجب أن تروى وهي الحكاية الرسمية. أجل، الشهيد هو شهيد ولكن هو أيضاً من لحم ودم وهو أب وأخ… وطبعاً قادة الثورة من الممكن أن يكونوا أناساً جيدين كما من الممكن أن يكونوا سيئين ومتحرشين. القصص التي نرويها مهمة كثيراً لأن القضايا الآتية من باب التاريخ بثقل توضع على الأرض كي نرى كيف نستطيع التعامل معها. هذا النوع من الحكايا يكسر الأيقونات والقداسات ويتيح لنا أن نتعامل مع قضيتنا كما ينبغي. لا أريد قبل أن تحدثني عن فلسطين أن تتحفني بستة عشر ألف شعار. 

يبدو أن رائدة الآن تحمل مشروعاً بات واضحاً وهو على الأرجح سيكمل مسيرته بعد «٣٦ شارع عباس، حيفا» هو نقل الحكاية الفلسطينية عبر شفاه وتجارب حقيقية وهنا تشابه مع تجربة زقاق التي تشتغل على الذاكرة من خلال تجربة حكواتية مختلفة تماماً عن نمط الحكواتي الذي تقدّمه رائدة. أين تقاطعتما أو اختلفتما في تحديد توجه وأدوات هذا العرض وماذا أضافت جعبة زقاق التي يحملها جنيد معه على نص العرض؟ 

جنيد: أولاً ما يجمعنا هو ادراكنا كفرقة زقاق وكرائدة لأهمية النص كنص مسرحي ينقل تجربتنا الخاصة كشعوب. عندما حضرنا في الفرقة عرض «ألاقي زيك فين يا علي» تناقشنا فيما بيننا كثيراً حوله وسررنا لوجود أشخاص آخرون يركزون في عملهم على نص يملك كاتبه القدرة على الجمع بين ما هو شخصي وسياسي واجتماعي لنقل حكايا الناس. لا أستطيع القول أننا أتينا بنص رائدة إلى توجه أو نمط عمل أو أدوات زقاق كما لا أستطيع قول عكس هذه الفرضية. تعاوننا تمّ بشكل عضوي دون أن يأخذ أحدنا الآخر إلى مسارات عمله السابقة. والجميل في رائدة أنها مرنة جداً وهنالك ثقة متبادلة فيما بيننا. 

رائدة: ويوجد قناعات مشتركة منذ البداية في طرح الأشياء. أنا أحب نصي ولكن ليس هنالك ما هو منزّل. أحب نصي ولكن أسمح لنفسي بتغيير الكثير من الأشياء وأحذف مقاطع منه… ولكن هنالك أشياء أساسية في النص لا تتبدل. نختلف أنا وجنيد على بعض الأشياء ولكن ليس هناك خلاف جوهري. إذا اختلفنا على شيء ما، نفتش ونجرب ونفتش مجدداً حتى يقتنع كلانا. سوف أشتاق كثيراً لمسار العمل وجنيد رائع في رؤيته الإخراجية.