حديقة المنفى
خرجتُ إلى رقم ٢، وهو كذلك خارج المبنى، خرجت إليه من باب أسود عريض، هو نصبٌ في الهواء الطلق من ٤٩ عموداً مرتفعاً تشكّل معاً مربّعاً كبيراً هو أقرب للمتاهة، على أسطح الأعمدة مزروعة شجيرات زيتون تتدلى بعضها عنها، التراب في واحدة منها محمول من القدس. للمكان هيبته، كأن لا مخرج منه، تماماً كالبرج الذي سبقه، متاهة لا يكون الخروج منها إلا الخلاص، اسمها ”حديقة المنفى“.
أحاول ألا أترك مدينة أوروبية أزورها دون البحث عن مَتحف لليهود فيها أو نصب للهولوكوست. لا أعرف تماماً لمَ، قد يكون ذلك للقدرة ”العظيمة“ لليهود على تحويل المأساة إلى منبع للسلطة/للتسلّط في هذا العالم، منبع ممتد وبصلاحية تامة لأكثر من سبعين عاماً اليوم. قد يكون ذلك للفكرة التي لا تفارقني، التي أوردها إدوارد سعيد ومن بعده إلياس خوري وهي أنّنا نحن الفلسطينيين يهود اليهود، فأرى ما يفعله اليهود بمأساتهم، كيف يقدّمونها للعالم وكيف يوظّفونها سياسياً، وما نفعله نحن. بكلمات أخرى: أتلمّس خيبتنا في نقل نكبتنا للعالم بالمقارنة مع ”عظمة“ إعادة الإنتاج اليهودي الحاضر دائماً، لمأساتهم.
آخر هذه الزيارات كان إلى ”المتحف اليهودي“ في برلين، وقد زرته قبل أيام، ومنه أجدّد تساؤلي الذي أوردته في مقال سابق وهو: هل نحن جديرون بنكبتنا؟ هل أعدنا إنتاج النكبة بما يسمح بأن تكون حيّة وحاضرة لدى العالم، كنكبة وليس كممارسات إسرائيلية راهنة؟ هل أساساً قدّمنا مأساتنا للعالم بشكل جدير بما حصل ويحصل؟ الإجابة الأرجح لديّ هي النفي. لكن من هذا النفي يخرج سؤال آخر قد يبرّره، وهو: هل ما منع كلّ ذلك هو استمرار النكبة (في مخيمات سوريا تحديداً إذ يمارس النظام السوري ما مارسته العصابات الصهيونية)؟ هل تحتاج النكبة كي يُعاد إنتاجها إلى أن تتوقّف؟ هل اشتغالنا على تقديم نكبتنا كفلسطينيين يستلزم لهذه النكبة أن تتوقف؟
دخلتُ إلى المتحف بعَمارته الملفتة، تناولت خريطته والدليل الصّوتي بسمّاعتيه، وبدأت من حيث يجب: رقم ١ ثم ٢ وهكذا إلى نهاية المتحف بطوابقه الثلاثة. وهنا الفكرة الأساسية التي جعلتني أخرج منه ناوياً الكتابة عن ”كيف يقدّم لك المتحف موضوعَه، أو كيف يدوّر المتحف حكاية موضوعه؟“
رقم ١ إذن، البداية، قد يكون المكان الأكثر رهبة الذي أدخله في حياتي: برج منفصل عن المبنى في الخارج، يدخل الزائر إليه من الداخل، من تحت الأرض، بباب حديدي عريض وأسود. عتمة مريعة، فضاء تتناهى إليه أصوات للحياة في الخارج، تبدو بعيدة جداً. هو برج عال، عال جداً، مفرّغ تماماً، لا شيء فيه سوى الفراغ وأصواته، وشق رفيع أعلاه يسمح بإدراك علوه. فتحتُ الباب وتقدّمت خطوة ووقفت، تردّدت خوفاً، نعم خفت أن أدخل المكان، خفت أن أعلق فيه، ليس هنالك من سبب يجعل أحدنا يعلق ويُنسى في إحدى ”صالات“ متحف ما، لكني تسمّرت مكاني للحظة. دخلت، أطلت بقائي فيه ثم خرجت منه وأكملت تجوالي ثم عدت إليه مجدداً. خرجت وسمعت الدليل الصوتي عنه (وقد نسيت الجهاز معلّقاً على رقبتي) لأعرف أن اسمه ”برج الهولوكوست“ وأنّ أصوات الحياة في خارجه، البعيدة جداً كما بدت، كان يسمعها اليهود في معتقلاتهم النازيّة.
خرجتُ إلى رقم ٢، وهو كذلك خارج المبنى، خرجت إليه من باب أسود عريض، هو نصبٌ في الهواء الطلق من ٤٩ عموداً مرتفعاً تشكّل معاً مربّعاً كبيراً هو أقرب للمتاهة، على أسطح الأعمدة مزروعة شجيرات زيتون تتدلى بعضها عنها، التراب في واحدة منها محمول من القدس. للمكان هيبته، كأن لا مخرج منه، تماماً كالبرج الذي سبقه، متاهة لا يكون الخروج منها إلا الخلاص، اسمها ”حديقة المنفى“.
من بعد ”برج الهولوكوست“ و”حديقة المنفى“ يصعد الزائر درجاً طويلاً يمرّ في منتصفه على آخر ما سيمرّ عليه قبل خروجه: علم أزرق عليه نجمة داوود. يراها أثناء صعوده وفكرة ”الخلاص“ من ”الهولوكوست والمنفى“ ماتزال عالقة في ذهنه.
يدخل الزائر إلى مقتنيات المتحف، أي إلى الموضوع الأساسي له، إلى ما يأتي الناس لرؤيته حين يُقال لهم “المتحف اليهودي“: الحياة اليومية والدينية والثقافية والسياسية… تبدأ بشجرة رمّان (الرمان هو لوغو المتحف) كرمز يهودي مرتبط بأرض فلسطين (وهذا كان أحد الأسباب الذي اتّخذتْ لأجله هذه المجلّة اسم هذه الفاكهة: علاقتها بأرض فلسطين). بعدها يجول الزائر في الطوابق بين تفاصيل الحياة اليومية لليهود الأشكيناز/الأوروبيين: طقوسهم الدينية، حياتهم الفلاحية والتجارية، رموزهم الفكرية (حتى كارل ماركس وألبرت أينشتاين كانا من بين المذكورين!) وذلك مروراً إلى الممارسات الأوروبية اللاسامية تجاه اليهود وانتهاءً بممارسات النازيّة بما فيها الترحيل ومعسكرات الاعتقال. أخيراً، يظهر العلم الأزرق ذاته وعليه نجمة داوود (غير العلم الإسرائيلي) لينتهي به المتحف.
بذلك تكون الحكاية قد دُوّرت. فلا ندخل إلى مقتنيات المعرض (صفحات قديمة من التوراة وغيره) إلا محمّلين بوهرة البرج والحديقة، الهولوكوست والمنفى، وهي بداية الدّائرة التي تُروى بها الحكاية، الحكاية التي بدأت زمانياً بالتوراة وشجرة الرمّان وتمرّ على يوميات اليهود في أوروبا واللاسامية وانتهاءً بعلم لا يذكّر إلا بعلم إسرائيل تُوصل إلى ما بدأنا به: البرج والحديقة. دائرة لا تنتهي، ربط سببي بين اللاسامية والهولوكوست والمنفى وأخيراً أرض فلسطين (التي ذُكرت مراراً في الدليل الصوتي) ودولة إسرائيل. فاللاسامية في أوروبا أودت إلى الهولوكوست (صحيح)، والمخرج من ذلك كلّه هي دولة لليهود في فلسطين ويأتي كانطباع أخير للزائر!
لا ندخل في المتحف إلى التراث اليهودي دون ربطه من الأساس بالهولوكوست في البرج والمنفى في الحديقة، لا نتلقّى العادات اليومية، من أعراس وطقوس دينية… إلا بسياق سيكون آخره المحرقة، لا يدخل الزائر إلى تراث لفئة من الأوروبيين إلا في توظيف سياسي يبدأ بالمحرقة وينتهي بدولة إسرائيل. تدور الحكاية بين البرج والحديقة -الذين يمرّ بهما، بالمناسبة، أثناء خروجه- وبين ما تلقّاه الزائر في الطوابق الثلاثة عن يهود أوروبا. فلا يهود دون محرقة ومنفى ولا ”يهود بمحرقة ومنفى“ دون دولة إسرائيل على أرضنا تكون الخلاص.
خرجتُ من المتحف بمساء برلينيّ خريفي ومعتم وبارد وماطر، وفي ذهني سؤال واحد: هل نحظى يوماً بأن نكون يهود اليهود؟ اليهود جديرون بمأساتهم، لمَ لم نكن نحن، حتى اليوم، جديرين بمأساتنا؟ ثمّ ”عزّيت" نفسي بأنّنا لسنا كذلك لأنّ النكبة ماتزال مستمرّة، ووجودي في أوروبا اليوم هو أحد أوجهها.
آخر هذه الزيارات كان إلى ”المتحف اليهودي“ في برلين، وقد زرته قبل أيام، ومنه أجدّد تساؤلي الذي أوردته في مقال سابق وهو: هل نحن جديرون بنكبتنا؟ هل أعدنا إنتاج النكبة بما يسمح بأن تكون حيّة وحاضرة لدى العالم، كنكبة وليس كممارسات إسرائيلية راهنة؟ هل أساساً قدّمنا مأساتنا للعالم بشكل جدير بما حصل ويحصل؟ الإجابة الأرجح لديّ هي النفي. لكن من هذا النفي يخرج سؤال آخر قد يبرّره، وهو: هل ما منع كلّ ذلك هو استمرار النكبة (في مخيمات سوريا تحديداً إذ يمارس النظام السوري ما مارسته العصابات الصهيونية)؟ هل تحتاج النكبة كي يُعاد إنتاجها إلى أن تتوقّف؟ هل اشتغالنا على تقديم نكبتنا كفلسطينيين يستلزم لهذه النكبة أن تتوقف؟
دخلتُ إلى المتحف بعَمارته الملفتة، تناولت خريطته والدليل الصّوتي بسمّاعتيه، وبدأت من حيث يجب: رقم ١ ثم ٢ وهكذا إلى نهاية المتحف بطوابقه الثلاثة. وهنا الفكرة الأساسية التي جعلتني أخرج منه ناوياً الكتابة عن ”كيف يقدّم لك المتحف موضوعَه، أو كيف يدوّر المتحف حكاية موضوعه؟“
رقم ١ إذن، البداية، قد يكون المكان الأكثر رهبة الذي أدخله في حياتي: برج منفصل عن المبنى في الخارج، يدخل الزائر إليه من الداخل، من تحت الأرض، بباب حديدي عريض وأسود. عتمة مريعة، فضاء تتناهى إليه أصوات للحياة في الخارج، تبدو بعيدة جداً. هو برج عال، عال جداً، مفرّغ تماماً، لا شيء فيه سوى الفراغ وأصواته، وشق رفيع أعلاه يسمح بإدراك علوه. فتحتُ الباب وتقدّمت خطوة ووقفت، تردّدت خوفاً، نعم خفت أن أدخل المكان، خفت أن أعلق فيه، ليس هنالك من سبب يجعل أحدنا يعلق ويُنسى في إحدى ”صالات“ متحف ما، لكني تسمّرت مكاني للحظة. دخلت، أطلت بقائي فيه ثم خرجت منه وأكملت تجوالي ثم عدت إليه مجدداً. خرجت وسمعت الدليل الصوتي عنه (وقد نسيت الجهاز معلّقاً على رقبتي) لأعرف أن اسمه ”برج الهولوكوست“ وأنّ أصوات الحياة في خارجه، البعيدة جداً كما بدت، كان يسمعها اليهود في معتقلاتهم النازيّة.
خرجتُ إلى رقم ٢، وهو كذلك خارج المبنى، خرجت إليه من باب أسود عريض، هو نصبٌ في الهواء الطلق من ٤٩ عموداً مرتفعاً تشكّل معاً مربّعاً كبيراً هو أقرب للمتاهة، على أسطح الأعمدة مزروعة شجيرات زيتون تتدلى بعضها عنها، التراب في واحدة منها محمول من القدس. للمكان هيبته، كأن لا مخرج منه، تماماً كالبرج الذي سبقه، متاهة لا يكون الخروج منها إلا الخلاص، اسمها ”حديقة المنفى“.
من بعد ”برج الهولوكوست“ و”حديقة المنفى“ يصعد الزائر درجاً طويلاً يمرّ في منتصفه على آخر ما سيمرّ عليه قبل خروجه: علم أزرق عليه نجمة داوود. يراها أثناء صعوده وفكرة ”الخلاص“ من ”الهولوكوست والمنفى“ ماتزال عالقة في ذهنه.
يدخل الزائر إلى مقتنيات المتحف، أي إلى الموضوع الأساسي له، إلى ما يأتي الناس لرؤيته حين يُقال لهم “المتحف اليهودي“: الحياة اليومية والدينية والثقافية والسياسية… تبدأ بشجرة رمّان (الرمان هو لوغو المتحف) كرمز يهودي مرتبط بأرض فلسطين (وهذا كان أحد الأسباب الذي اتّخذتْ لأجله هذه المجلّة اسم هذه الفاكهة: علاقتها بأرض فلسطين). بعدها يجول الزائر في الطوابق بين تفاصيل الحياة اليومية لليهود الأشكيناز/الأوروبيين: طقوسهم الدينية، حياتهم الفلاحية والتجارية، رموزهم الفكرية (حتى كارل ماركس وألبرت أينشتاين كانا من بين المذكورين!) وذلك مروراً إلى الممارسات الأوروبية اللاسامية تجاه اليهود وانتهاءً بممارسات النازيّة بما فيها الترحيل ومعسكرات الاعتقال. أخيراً، يظهر العلم الأزرق ذاته وعليه نجمة داوود (غير العلم الإسرائيلي) لينتهي به المتحف.
بذلك تكون الحكاية قد دُوّرت. فلا ندخل إلى مقتنيات المعرض (صفحات قديمة من التوراة وغيره) إلا محمّلين بوهرة البرج والحديقة، الهولوكوست والمنفى، وهي بداية الدّائرة التي تُروى بها الحكاية، الحكاية التي بدأت زمانياً بالتوراة وشجرة الرمّان وتمرّ على يوميات اليهود في أوروبا واللاسامية وانتهاءً بعلم لا يذكّر إلا بعلم إسرائيل تُوصل إلى ما بدأنا به: البرج والحديقة. دائرة لا تنتهي، ربط سببي بين اللاسامية والهولوكوست والمنفى وأخيراً أرض فلسطين (التي ذُكرت مراراً في الدليل الصوتي) ودولة إسرائيل. فاللاسامية في أوروبا أودت إلى الهولوكوست (صحيح)، والمخرج من ذلك كلّه هي دولة لليهود في فلسطين ويأتي كانطباع أخير للزائر!
لا ندخل في المتحف إلى التراث اليهودي دون ربطه من الأساس بالهولوكوست في البرج والمنفى في الحديقة، لا نتلقّى العادات اليومية، من أعراس وطقوس دينية… إلا بسياق سيكون آخره المحرقة، لا يدخل الزائر إلى تراث لفئة من الأوروبيين إلا في توظيف سياسي يبدأ بالمحرقة وينتهي بدولة إسرائيل. تدور الحكاية بين البرج والحديقة -الذين يمرّ بهما، بالمناسبة، أثناء خروجه- وبين ما تلقّاه الزائر في الطوابق الثلاثة عن يهود أوروبا. فلا يهود دون محرقة ومنفى ولا ”يهود بمحرقة ومنفى“ دون دولة إسرائيل على أرضنا تكون الخلاص.
خرجتُ من المتحف بمساء برلينيّ خريفي ومعتم وبارد وماطر، وفي ذهني سؤال واحد: هل نحظى يوماً بأن نكون يهود اليهود؟ اليهود جديرون بمأساتهم، لمَ لم نكن نحن، حتى اليوم، جديرين بمأساتنا؟ ثمّ ”عزّيت" نفسي بأنّنا لسنا كذلك لأنّ النكبة ماتزال مستمرّة، ووجودي في أوروبا اليوم هو أحد أوجهها.