غزوة الشيراتون

2017-10-16 18:00:00

غزوة الشيراتون
Ammar Al-Beik, Maximum Alert, Lost Images 1 series, 2008, Prints and multiples, Archival print on cotton paper

عرف المخيم في تاريخه ثلاث خمارات (أقدمها أبو رأفت في منتصف شارع لوبية ومحطة سمير في شارع فلسطين، وخمارة الدوار، إضافة إلى بعض المحلات الثانوية التي كانت تبيع الخمور الموزعة على مساحة المخيم. أفضلها للشباب هي خمارة الدوار لأن فيها تستطيع أن تجلس وتشرب البيرة، أما غير ذلك من المشروبات الثقيلة فقد كان محظوراً فيها.

لما فتحوا فندق الشيراتون في دمشق كان حتى المشي على الرصيف المرصوف بالرخام بجانبه، ورؤية رواده الجالسين على الشرفة يحتسون الشاي أو القهوة، كان منظراً يشبه المستحيل أن تتخيل نفسك جالساً بينهم، كنا نسمع أن ثمن فنجان القهوة فيه يصل إلى خمس مئة ليرة، وهذا مبلغ كنا نَلُغّ به (نشرب بلا توقف) من البيرة مدة شهر بخمارة الدوار، أو من محطة سمير، عداك عن البراندي والجن والليمون… 

عرف المخيم في تاريخه ثلاث خمارات (أقدمها أبو رأفت في منتصف شارع لوبية ومحطة سمير في شارع فلسطين، وخمارة الدوار، إضافة إلى بعض المحلات الثانوية التي كانت تبيع الخمور الموزعة على مساحة المخيم. أفضلها للشباب هي خمارة الدوار لأن فيها تستطيع أن تجلس وتشرب البيرة، أما غير ذلك من المشروبات الثقيلة فقد كان محظوراً فيها.

كنا ستة جالسين في خمارة الدوار، فقام أحد الشباب -سأسميه سعيد لأسباب جيوسياسية- كذلك الرّجل الذي خرج مرّة من الحمام وهو يصيح: وجدتها وجدتها!، قال: اسمعوا يا شباب.. سأدعوكم للعشاء وإكمال السكرة في الشيراتون. بالنسبة لنا طبعاً كان المسموع أسخف من الرد عليه، فضحكنا وتجاهلنا ما قال، ولكنه أصر على الدعوة! 

- طيب وبعدين معك!
- خلص كول خرا وهدّي بالنا. (وهو يزداد إصراراً)
- طيب ومن أين لك المال يا طيزي؟! هل تعرف كم ستكلفك هذه السهرة؟!
- لا عليكم سنسكر الليلة في الشيراتون رغماً عنهم.. لا تخافوا أنا سأتصرف، ثم ما رأسمال القصة؟!

فكرة الإرغام هذه مغريةٌ جداً، على اعتبار أننا كنا في هذا الوقت مشغولين بالصراعات الطبقية وديكتاتورية البروليتاريا، وهؤلاء الذين يسهرون في مثل هذه الأماكن هم رمز حيّ للبرجوازية القذرة مصاصة دم الشعوب الفقيرة.

حسناً… لماذا لا نعيد بعضاً من كرامة البروليتاريا! يبدو أن ساعة المواجهة الأولى قد أزفت، يا للروعة! سنكون وجهاً لوجه مع البرجوازية العفنة.

- طيب، ما الخطة؟
- لا عليكم أنا سأتدبر الأمور.. 
- إذاً شدّوا، على الشيراتون.. 

وهذا ما كان، أراد صاحبنا أن نسكر في أهم وأغلى قاعات الفندق.

سأل صاحبنا سعيد الرجل الذي استقبلنا: نريد أن نتعشى ونشرب في أغلى قاعة، فدلّنا الرجل على الصالة المناسبة، فتقدمنا ونحن من حوله وخلفه وكنا ستة أشخاص يومها.

منذ لحظة دخولنا كان الأمر مريباً لهم، ومع ذلك استقبلونا، ربما ظنوا أننا خليجيون، أو أن تصرفنا بثقة وغرابة في غير مكانه وضعنا في موقع الخوف والحذر منا (هكذا كانت سورية).

وسرعان ما اتخذنا مواقعنا في مواجهة البرجوازية القذرة بمساعدة ”الكرسون“، وبدأت الطلبات بناءً على الضوء الأخضر الممنوح لنا من صديقنا سعيد.

خيّا، أريدك أن تملأ الطاولة بكل ما عندك من لحومات، الشباب لم يأكلوا منذ ثلاثة أيام، ونريد ثلاث زجاجات ويسكي (بلاك ليبل)… كنا نسمع أنه الأفخر والأقوى على الإطلاق.

وبدأ المجون في هذه الأناقة، وبدأت المواجهة مع هذه القذارة الطبقية، يومها أكلت وشربت نيابة عن الطبقة العاملة في الأممية الثالثة كلها، خُيّل الأمر لي أنني أنهش لحم الإمبريالية العالمية، وشربت من الويسكي عن ثلاث أمميات قادمة. 

عازف الكمان كان يتجول بكمانه بين الطاولات، يعزف فوق رؤوسهم ليستمتعوا بحشو كروشهم النجسة على أنغام كمانه، استفزني ذلك كثيراً، وما زلت أعتبره امتهاناً كبيراً للكرامة الإنسانية، تحايلت على الأمر فعندما كان يأتي إلى طاولتنا كنا نتوقف عن الطعام وننتبه إليه بكليتنا، ونجامله بتعبيرات الإعجاب. هو و“الكرسونات“ ونحن في خندق واحد… كنا ندرك ذلك، ولكنها الحرب! 

وهي يلّا وهي يلّا واليرموك ما حيلّا!

استمتعنا كثيراً ولم يقطع هذه المتعة إلا أن تدق ساعة الصفر، ساعة الحساب، ساعة الحسم! كل أنظارنا توجهت إلى سعيد، وأنظار ”الكرسون“ الذي فهم أنه قائد هذه المجموعة. مباشرة قال له سعيد: خيّا، جيب الأمن، ما معنا مصاري. ضحك الرجل محاولاً أن يستكشف بالضبط إن كنّا نمزح أم لا. ذهب عندما تأكد من جدية الأمر. قلنا لسعيد: طيب وماذا نفعل الآن؟! قال: لا تفتحوا أفواهكم أنا أتكلم، وأنا دعوتكم وسأتحمل المسؤولية وحدي، سأقول أنا دعوتهم وهم لا يعرفون شيئاً. فقلنا: كيف خيّا تتحمل؟! أتريدنا أن نتركك وحدك؟! كول خرا، مع من ستتسلى في السجن؟!

وعلى هذا عقدنا العزم، فعاد ”الكرسون“ ومعه ثلاثة أشخاص بمواصفات الأمن المعروفة، وكذلك مدير الصالة: ”تَفَضّلوا يا شباب“ فتفضلنا.

أخذونا إلى غرفة تشبه المخفر في الفندق ذاته، وهناك بدأ التحقيق والتفتيش لعلهم يعثرون على بعض المال، ولكن هيهات يا بو الزلف!

قال الرجل وهو يقلب بالهويات: فلسطينية كمان! لك أنتو ما بتخلصوا مشاكل؟! وجايين على الشيراتون؟! أتعرفون أنكم إذا بعتم بيوتكم وأهلكم لا تغطون ثمن ما أكلتم وشربتم؟

 قال له: معلم، طول عمرنا نمشي بجانبه ولا نجرؤ على التفكير بدخوله، خيّا ”الحصرة" صعبة، والله صعبة. (يقصد الحسرة صعبة).
 
وصار كل منا يدلوا بدلوه لإقناعه بأننا لم نرتكب ذنباً. وأجمل الدلاء كان: معلم لن نهرب، إذا أردتم أبقونا في الفندق حتى نسدد المبلغ، أو قسّطوه لنا. فقال: تبقون في الفندق! ما شاء الله عنكم!! العمى، هذه أول مرة يحدث معي هذا! لو شربتم فنجان قهوة لكنا فوّتناها بتنظيف بعض الصحون، ولكن فاتورتكم أكثر من خمسين ألفاً!

يا لطيف!! لماذا أسعاركم غالية إلى هذه الدرجة؟!

عندها قهقه رجل الأمن، وقال له: ليش إنت دافع شي من جيبتك؟! لكن قسماً بالله أنكم أعجبتموني!

كان علينا أن نستغل هذه الانفراجة، فرحنا نستميله بخفة دمنا.

- معلم بربك، هل هؤلاء أحق منا بهذا المكان! ما الذي ينقصنا؟! 
- لا والله ليسوا بأحق منكم، كلهم أولاد قحبات، اسمع أنت وإياه، سأساعدكم، ستبقون معي في الحجز، وفي الصباح سآخذكم مكبلين إلى السجن، وفي الطريق سوف أطلق سراحكم.

أوصلنا إلى البرامكة صباحاً، وآخر ما قاله: ولكن إذا رأيتكم على بعد كيلو متر من الشيراتون مرة أخرى سأطلق عليكم النار بيدي.

فقال له سعيد: لا معلم! المرة القادمة سنسهر في الميريديان، هو بعيد أكثر من كيلو متر.. فهل تلبينا إذا دعوناك، على حسابنا لا تخاف!