الفلسطينيون.. حاضر بلا تاريخ؟!

2017-10-20 18:00:00

الفلسطينيون.. حاضر بلا تاريخ؟!
Dor Guez, Samira, Lod Ghetto, a year after 1948, from the series Scanogram #1, 2010, manipulated readymade, archival inkjet print, 23 1/2 x 29 1/2 inches

كنت في دمشق حينها، وسألت بعض المعنيين في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عن مجلاتهم، والمعظم لم يكن لديهم إجابات دقيقة تشفي الغليل، فالجميع أكد أن أرشيف مجلات تنظيمه موجود بالكامل، انطلاقا من العدد 0 وصولاً لآخر عدد، حتى في المجلات المتوقفة كـ "فلسطين الثورة"، أكدوا أنهم يحتفظون بأعدادها، وحمداً لله أنها الآن توافرت في رام الله بمتحف "ياسر عرفات". 

قبل سنوات بدأت العمل مع مجلة الحرية الفلسطينية، وخلال العمل تم الاتفاق على رفع أرشيف المجلة بدءاً من العدد الأول على موقع المجلة في الانترنت. وبالفعل بدأ المشروع خلال أيام بجلب جهاز سكانر A3، مهني وعملي وقادر على تلبية العمل بشكل مثالي، وتم رفع بعض السنوات على الإنترنت من مطلع العام ألفين، على أن تكون الخطة اللاحقة، السنوات الأولى لـ ”الحرية"، من العدد 0 (4/1/1960) يوم كانت المجلة تتبع لحركة القوميين العرب.

في تلك الأيام عشش سؤال الأرشيف الفلسطيني في ذهني، وبدأت جولات البحث عن هذا الأرشيف الذي بالبديهة هو من الضخامة ما يجعل وجود مؤسسة متخصصة أمراً غاية في الأهمية.

كنت في دمشق حينها، وسألت بعض المعنيين في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عن مجلاتهم، والمعظم لم يكن لديهم إجابات دقيقة تشفي الغليل، فالجميع أكد أن أرشيف مجلات تنظيمه موجود بالكامل، انطلاقا من العدد 0 وصولاً لآخر عدد، حتى في المجلات المتوقفة كـ "فلسطين الثورة"، أكدوا أنهم يحتفظون بأعدادها، وحمداً لله أنها الآن توافرت في رام الله بمتحف "ياسر عرفات". 

السؤال هنا لم يعد متوقفاً على أرشيف المجلات، فبات أيضاً عن البيانات السياسية والعسكرية، وأفلام السينما، فمؤسسة السينما الفلسطينية وحدها أنتجت مئات الأعمال المهمة على يد مخرجين عرب وفلسطينيين. وبالمصادفة في جلسة دمشقية مع بعض الأصدقاء عرفت بوجود أرشيف فيلمي بأحد مكاتب منظمة التحرير بساحة الشهبندر، والذي كانت مؤسسة "عائدون" قد اتخذته مقراً لها، ويقع في الطابق الأعلى لمركز أدهم اسماعيل للفنون. ذهبت لذلك المقر بمساعدة صديقة كانت تعمل هناك، وعلمت أن الغرفة مغلقة ومفاتيحها بيد أحد الأشخاص في المنظمة، ولا يفرج عنه إلا في حالات رسمية محددة، ويومها عرفت أن الأرشيف على أشرطة كاسيت فيديو قديمة، وقررت تحويله لـ DVD، ووضع نسخ لدى المنظمة، ونسخة لي لإتاحتها بيد من يمكن له الاستفادة منها. لكنني عجزت وباءت محاولاتي بالفشل.

جئت إلى بيروت أواخر العام 2013، وتابعت العمل في الصحافة الفلسطينية التي لم أعمل بغيرها منذ العام 2005، وعاد سؤال الأرشيف، خاصة وأن بيروت حصل فيها ما حصل خلال وجود الثورة الفلسطينية، ومعظم الباحثين الوازنين في هذا المجال يقطنون هذه المدينة. والتقيت بعضهم، وسألتهم عن مواد بعينها، بعضهم أحبطني، ومنهم من أسعده شغفي، ولكن ظل سؤال ”أين هي مواد الأرشيف الفلسطيني؟“ مفتوحا على مصراعيه، هل حقا كلها ذهبت خلال الاجتياح بسرقة مركز الأبحاث؟ وهل لم يخطر في بال أحد القيادات الفلسطينية آنذاك وضع نسخ في أماكن آمنة؟!

وصحيح أن سرقة مركز الأبحاث تفطر القلب، لكن ما يوجع أكثر، ما حل بالأرشيف في الجزائر وضياعه. وقد كتب القصة بالتفصيل مسؤول قسم التوثيق والمكتبة خلال الأعوام 1980-1994 سميح شبيب، مادة مطولة نشرت في أكثر من صحيفة وموقع إلكتروني. ويذكر أن الأرشيف، استردته منظمة التحرير بعملية تبادل الأسرى في 23/11/1983، بعد اشتراطها على الاحتلال إعادته. لكن تقصيراً حصل هنا أو هناك (سميح شبيب يفصل الأمر) ضيّع الأرشيف حتى يومنا هذا. كما ضيّع مكتبة مركز الأبحاث الذي أعيد افتتاحه في العاصمة القبرصية، على شواطئ أحد الموانئ الإسرائيلية بعد اتفاق أوسلو 1993.

هذه التساؤلات قادتني بطبيعة الحال إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تأكدت أنها تحتوي على أرشيف كبير من المنشورات الفلسطينية منذ ما قبل انطلاق الثورة الفلسطينية 1965، ولكن الأرشيف على ما يبدو ليس متاحاً بأكمله على الإنترنت، بالتالي ثمة قصور بالاستفادة الممكنة من هذا الأرشيف الضخم. 

أما السلطة الفلسطينية التي تتولى زمام الأمور اليوم، والمعنية بمثل هذه القضايا، خاصة مع تحجيم أو إلغاء دور العديد من مؤسسات منظمة التحرير، فمن المفترض للمتابع أن يجد على الإنترنت في موقع "الأرشيف الوطني الفلسطيني" الذي يتخذ له شعار "ذاكرة الأمة وذاكرة الدولة" العديد من المواد والوثائق والأوراق، ولكن للأسف لا يوجد داخله محتوى يذكر، إضافة لكونه موقعاً ضعيفاً من ناحية التصميم والبرمجة، فقلما يعمل بشكل سليم يمكّن المتصفح من دخول الصفحات دون عوائق. وليس في الموقع على صفحته الرئيسية سوى بضع أخبار سريعة كـ: المجلس الدولي للأرشيف يعتمد "دولة فلسطين" في قائمة عضوية أرشيفات الدول المستقلة من الفئه أ". هذا الخبر مرفوع العام 2015 حسب الموقع، ويبدو أن لا تحديثات تطرأ على الموقع، وهنا يتبادر للذهن سؤال حول واقع مؤسسة الأرشيف الوطني الفلسطيني، إن كانت أيضاً مثل موقعها الإلكتروني، علماً أن خطة وضعت في عام 1996 لاسترداد الأرشيف إلاّ أنّ تلك الجهود فشلت بالكامل رغم التنسيق مع العديد من الدول لاسترداد الأرشيف الفلسطيني منها الجزائر ومصر والعراق وليبيا وتركيا وإسبانيا وكندا وبريطانيا.

ما سبق يحاول تسليط الضوء ولو جزئياً على إشكالية وطنية فلسطينية كبيرة حقاً، ولا يمكن اعتبارها بسيطة على الإطلاق، على اعتبار أن أكاديمية أو جدية الأبحاث الفلسطينية يصبح مشكوكاً بأمرها في غياب المادة الأرشيفية، كما أن اعتماد الباحث الفلسطيني فقط على الأرشيفات المتاحة سواء في كيان الاحتلال أو بريطانيا أو تركيا، من شأنه تصعيب الأمور، وأحياناً تغييب بعض المواد التي تعتبر سرية ما يضع البحث الجدي أمام معضلة قد توقف البحث لعدم اكتمال شروطه.

وكي لا تؤخذ عليّ كلمة أكاديمية أو جدية الأبحاث الفلسطينية، سأضرب مثالاً، لو أن باحثاً أراد التدقيق في ملكية الأراضي في فلسطين التاريخية قبل النكبة، أين له من الوثائق التي تؤكد ملكية كل قرية وفرد فيها، إن لم يرجع للأرشيفين العثماني والبريطاني؟ هذا إن لم يضطر للرجوع للأرشيف الإسرائيلي والذي أوجد الاحتلال مسوغات تتيح له الاستيلاء على تلك الأراضي بوصفها "أملاك غائبين"، وما تزال المشكلة مستمرة، فمؤخراً، بعد هبة المسجد الأقصى، خرجت تصريحات عدة تفيد بأن شرطة الاحتلال التي دخلت المسجد نهبت وثائق وأرشيف من محتويات المسجد التاريخية، وذلك خلال مرابطة المقدسيين عند بواباته رفضاً لإجراءات الرقابة الإسرائيلية على دخول المسلمين إليه.

مشكلة الأرشيف لا تقتصر على ما ذكرت فقط، لكنها تنسحب على الفن الفلسطيني، ونحن أمام إشكالية جديدة لم يفتح النقاش حولها بعد، وهي أعمال فنية فلسطينية مهمة للعديد من الفنانين الفلسطينيين الكبار في سوريا، أولئك الذين أخرجوا من ديارهم في مخيم اليرموك تحديداً، وبقيت أعمالهم داخل المخيم دون معرفة مصيرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك أعمال النحات زكي سلّام، وأعمال الفنان عماد رشدان، وغيرهما الكثير الكثير..

إشكالية الأرشيف الفلسطيني ليست حديثة العهد، ومرتبطة بالضرورة بطبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ومحاولاته تشتيت الفلسطينيين أينما حلوا ومحو تاريخهم، ومع ذلك هناك مسؤولية مباشرة تقع على عاتق المسؤولين الفلسطينيين، لإنشاء مؤسسة جادة في هذا الأمر، وقادرة عبر خطة زمنية دقيقة جمع ما يمكن جمعه واسترداد المنهوب لدى الاحتلال، والضائع لدى الدول العربية والأجنبية، حتى لا يأتي يوم على الفلسطينيين يصبحون فيه حاضراً بلا تاريخ.