الاشتراكية: التصوّر النظري والواقع

2017-10-24 10:00:00

الاشتراكية: التصوّر النظري والواقع
Maturin, Venezuela . زراعة الاشتراكية

إذن، هناك تصوّر نظري جرى استنتاجه من كتابات ماركس وإنجلز، بغض النظر عن دقة ذلك، بات هو المقياس الذي يتحدد الواقع به. بدا المؤشر الذي يحدّد اشتراكية هذه الدولة أو تلك، أو يلغي عنها ذلك. لكن، وإضافة إلى الخضوع لمنطق تطوري، فإنه جرى تجاهل الأمر الجوهري الذي يتمثّل في الملكية الخاصة. إن أهمية التجربة تتحدد في أن تمدنا بوقائع، وتظهر لنا مشكلات، يمكن على ضوء بحثها وتمحيصها الخروج باستنتاجات علمية عن الاشتراكية، وعما يجب أن تكون عليه الدولة والاقتصاد، والمجتمع. فقد قدّمت التجربة التي قامت على إثر ثورة أكتوبر كمية كبيرة من الوقائع التي تسمح بإعادة بناء مفهوم الاشتراكية ككل، وبتحديد السياسات الضرورية لتطور أرقى.

كان مسار ثورة أكتوبر مختلف عن ومخالف للتصور الكلاسيكي لارتقاء المجتمعات إلى الاشتراكية، وأشرت إلى أنه أنجز ما أنجزته الرأسمالية فيما يتعلق ببناء مجتمع صناعي حداثي. ليست هذه النقلة هامشية، بل إنها نقلة نوعية في التكوين المجتمعي، حيث أن تجاوز التبعية للمراكز الرأسمالية يفرض تأسيس بنية صناعية ومجتمع حداثي. وليس من طريق بعد أن باتت الرأسمالية نمطاً عالمياً يقسم العالم إلى مراكز وأطراف، سوى ما تطرحه البروليتاريا، والماركسية، الطريق القائم على تجاوز الرأسمالية بالتحديد. وحين تصبح المجتمعات صناعية وحداثية يتخذ الصراع العالمي شكلاً آخر، ويصبح أمر تحقيق الاشتراكية الحقة مطروحاً بلا جدال.

أحاول هنا التمييز بين الاشتراكية التي تبدأ بإلغاء الملكية الخاصة كما حدث في الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وبين الاشتراكية الحقة التي تحتاج إلى أكثر من ذلك. فقد تحقق التطور "الرأسمالي" في الاتحاد السوفيتي في ظل الاشتراكية، أي على ضوء إلغاء الملكية الخاصة، لكن أزمة هذا التكوين فرضت انهياره. وأعتقد بأن اشتراكية حقة ليست ممكنة إلا بعد انهيار الرأسمالية، وفي إطار عالمي. لهذا فنحن إزاء شكل أولي للاشتراكية، ربما تسمح الظروف الجديدة في نقلة أخرى في هذا المسار، لكن لا بدّ من ملاحظة أنه قبل "تصنيع العالم" وتحديثه، أي قبل أن تنتهي البنى ما قبل رأسمالية، ليس من الممكن توهّم تحقّق اشتراكية حقة. حيث أن استمرار وجود بنى تقليدية، ورأسمالية قوية، سوف يفرض صيرورة تطور معقدة، ويُنشئ مشكلات كبيرة.

في كل الأحوال، عادة ما يقاس وضع روسيا الاشتراكية بالتصور النظري للاشتراكية، ومنه يجري الاستنتاج بأنها ليست اشتراكية، أو دولتية، أو "رأسمالية دولة"، أو اشتراكية منحطة كما أطلق تروتسكي عليها. المشكلة في ذلك تكمن في أن التصوّر حول الاشتراكية "نظري"، ومبني على أساس صيرورة تطور الرأسمالية في الأمم الرأسمالية، بينما تحققت الاشتراكية في بلد متخلف قروسطي إقطاعي. لهذا ليس من الممكن "تطبيق" التصور النظري ذاك على هذه التجربة. لكن كل النقد كان يقوم على هذه "المقارنة" بين التصوّر النظري وواقع الاشتراكية الروسية، وباتت تقاس التجربة بالتصوّر النظري هذا، خصوصاً بعد انهيار الاشتراكية، و"تذكّر" أنها "ليست اشتراكية"، بالضبط لأنها مناقضة لـ "التصوّر النظري". ومن هنا جاءت العودة إلى كاوتسكي وبليخانوف والأممية الثانية، لأن هؤلاء انحكموا للتصوّر النظري الذي كانوا قد صاغوه كشكل كلاسيكي لتطور الاشتراكية (رغم أن ما يتعلق بالاشتراكية فيه كان عاماً وهامشياً).

ربما في هذا الأمر يقبع الفارق بين التصوّر والواقع ذاته، حيث ليس من الممكن أن يتضمن التصوّر النظري كل مكنونات الواقع وتفاصيله، ليبدو أنه يتضمن مؤشرات و"مبادئ عامة"، أو "خطوط عامة" مجرّدة، وبهذا التجريد تفقد جزءاً مهماً من الواقع ذاته. وفي الغالب تكون، كونها تجريد، مآل صيرورة تتحقق في الواقع وليس الصيرورة ذاتها. لهذا تبدو أحياناً مفارقة للواقع، أو منحازة عنه.

لهذا، ليس سهلاً أن نصدر حكماً على الاشتراكية المتحققة انطلاقاً من هذا التصوّر النظري، أو نُخضع التجربة لمقاييسه. هذا ما فعله نقّاد الاشتراكية بعد انهيارها، وهم الذين ترعرعوا في صلبها، ودافعوا عنها طويلاً. ومع الأسف فإن "التصوّر النظري" الذي يجري الانطلاق منه مبتسر، ويلتقط بعض الأفكار منتزعة من سياقها، لتكون المقياس الذي يقاس به واقع الاشتراكية في روسيا بعد ثورة أكتوبر. فإضافة إلى الإعادة إلى "الشكل الكلاسيكي" المتعلق بالتطور البشري الذي أشرت إليه قبلاً، سنجد أن مسألة الدولة، أو وضع "الملكية العامة"، أو "انهيار الاشتراكية" تصبح هي محدّدات لقياس الواقع الاشتراكي في روسيا. حيث تصبح فكرة "تلاشي الدولة" مؤشراً على عدم اشتراكية التجربة، حيث يشار إلى أن ماركس قال بتلاشي الدولة بينما كانت تتعزّز في ظل الاشتراكية. طبعاً لم يقل ماركس أن الدولة تتلاشى في المرحلة الاشتراكية بل إنه قال ذلك عن المرحلة الشيوعية التي تكون الاشتراكية مقدمة لها، وحيث تستعير البروليتاريا "الدولة البرجوازية" في هذه المرحلة. ولهذا أشار إلى "دكتاتورية البروليتاريا"، ورفض منظور الفوضوية التي تريد إلغاء الدولة فوراً (أنظر، لينين "الدولة والثورة"). بالتالي كان من الطبيعي أن تستمرّ الدولة في الاشتراكية، وأن تتعزّز كونها باتت "الوصي" على الملكية العامة.

إذن، ليس من نهاية للدولة في المرحلة الاشتراكية حسب التصوّر النظري الماركسي، وأعقد من ذلك أن الدولة باتت معنية ببناء الاقتصاد، حيث أنها باتت تلعب دور "رب عمل"، لأن روسيا لم تكن دولة صناعية، وكان يجب أن تُبنى صناعياً في عالم صناعي مسيطر. إضافة إلى ذلك، كانت الدولة تتشكّل من فئات فلاحية في الغالب نتيجة طبيعة المجتمع الروسي الفلاحي الإقطاعي. فقد فرض توسّع مؤسسات الدولة البيروقراطية، والجيش والشرطة والأمن، والموظفين العامين، توظيف تلك الفئات بكل وعيها القروسطي، وميلها الفلاّحي. ولم تكن العقود الثلاث الأولى كافية لتخريج فئات "مثقفة" أو "تقنية"، ولا كان المجتمع قد بات مدينياً، وأيضاً لم تكن الطبقة العاملة المتشكّلة بعد سياسة التصنيع (1931) قد امتلكت الوعي بدورها وفاعليتها، وفي الغالب كانت قد أصبحت خارج بنى النظام. كل ذلك كان يُدخل الوعي البطريركي إلى كل مؤسسات الدولة، ويشكّل سلطة بطريركية رغم أنها تتسمى بالشيوعية. فقد تشرّب الحزب الشيوعي، والدولة التي يسيطر عليها بكل وعي القرون الوسطى، ومطامح الريف (التي تميل إلى التملّك)، وهو يقوم بعملية بناء هائلة القوة، ويعيد تشكيل الوعي المجتمعي بما يتجاوز وعي القرون الوسطى. لقد طوّر الاقتصاد والبنى المجتمعية والوعي بينما كان يتخلّف، ويتشرّب "وعي المجتمع" الذي أراد تغييره.

ما يمكن أن يُنقد هنا، ويرفض، هو أن "دكتاتورية البروليتاريا" كانت بلا بروليتاريا، وتتسم بالطابع البطريركي، الذي تجاوزته البرجوازية منذ قرن تقريباً. بالتالي مثّلت سلطة "أبوية" مطلقة. أما الماركسية فتؤكد على دور الدولة في المرحلة الاشتراكية لضمان تحقيق التطور، وتغيير البنى والوعي المجتمعيين (وأقل لمنع عودة الرأسمالية، التي فشل فيها هذا الشكل من الدكتاتورية الذي ترعرع في الاتحاد السوفيتي). ومن ثم بدل القياس يمكن السعي لفهم مشكل الدولة في الاشتراكية، وبناء تصوّر جديد لوضعها في المرحلة الاشتراكية، حيث قدّمت تجربة أكتوبر وتجارب الصين وغيرها خبرات في هذا المجال كبيرة. بالتالي لا يمكن القول بأن التجربة هذه "منافية" للتصوّر النظري الماركسي، هذا التصوّر الذي لم يتشكّل بعد، ويحتاج إلى تجارب عديدة لكي يتشكّل بشكل متسق.

هذه المسألة كانت في أساس كثير من النقد من قبل "ماركسيين"، أو متحوّلين إلى اللبرالية، وشغلت الكثير من الصفحات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكانت تُعتبر في صميم أزمة الاشتراكية وسبب انهيارها، لكنها في الواقع كانت "مزحة" ساذجة لم تَفِدْ شيئاً في فهم مشكلات الاشتراكية التي كانت القائمة بالفعل.

وكانت مسألة "الملكية العامة" إشكالية أخرى في النقد، وربما هنا كان بعض النقد مفيداً، لأن المسألة تحتاج فعلاً إلى نقاش عميق. فقد أدى إلغاء الملكية الخاصة إلى أن تصبح الدولة هي "المشرف" على مجمل الثروة، وأن سلطتها وموظفيها هم من يقرر بشأنها، بعيداً عن البروليتاريا. لكن هل من شكل آخر لإدارة هذه "الملكية العامة"؟ ربما يجب البحث، لكن هذا الشكل لا يوصل إلى أن الأمر يتعلق بنشوء "رأسمالية دولة"، حيث أن غياب الملكية الخاص أمر حاسم هنا، وهو محدّد الانتقال إلى الاشتراكية، ولهذا لم يسمح بأن تُنهب "الملكية العامة" نتيجة السيطرة على السلطة وتحكّم فئات بيروقراطية بالدولة. ما حدث هو خلق فارق كبير في الاستهلاك بين "الطبقة المسيطرة" (أي بيروقراطية الدولة) وعامة الشعب، وهو تمايز، وربما وصل إلى مستوى كبير، لكنه لم يسمح بنشوء رأسمالية. بل قاد إلى التأثير في مسارات الاقتصاد، وخلق حالة احتقان، وفي مرحلة فرض وقف التطور، وهي المرحلة التي دخلت فيها الدولة الاشتراكية في أزمة، حيث تراجع مردود استثمارات الدولة نتيجة كل ذلك. وحيث باتت تعتمد على تصدير النفط والغاز. وهنا يمكن الإعادة إلى "الطابع الفلاحي" للفئات التي سيطرت في مؤسسات الدولة، وميلها إلى التملّك الخاص، الذي ظهر على شكل بذخ استهلاكي نتيجة غياب الملكية الخاصة.

المسألة هنا أنه بالضرورة ستكون الثروة العامة بيد الدولة، فهي ممثلة "الشأن العام"، لكن السؤال يتحدد في كيف تتم إدارتها؟ وكيف يتمّ توزيعها؟ وهل يمكن فصل الاقتصادي عن السياسي في بنية الدولة؟ مسائل لا زالت بحاجة إلى بحث ونقاش، ولا شك في أن التجربة الطويلة لثورة أكتوبر تسمح بتحديد نقاط الخلل والمشكلات، ومن ثم إبداع أشكال جديدة.

ثم، يمكن لمس كيف أن "التصور النظري" الذي حكم "الشيوعية القديمة"، والقائم على أن الانتقال إلى الاشتراكية لا يسمح بالارتداد، حيث أن الرأسمالية انتصرت ولم يعُد الإقطاع، وكذا الإقطاع، وبالتالي يكون نشوء الاشتراكية مؤشراً على دخولنا مرحلة جديدة "أكثر تطوراً"، "أرقى"، وليس من الممكن أن تجري العودة إلى الوراء، أي بعودة الرأسمالية. هذا تصوّر عام حكم قطاع كبير من أتباع "الماركسية السوفيتية"، حيث رؤوا أن التاريخ يسير في مسار خطي صاعد، ويعتمد على عملية التراكم المضطرد الذي يحقق النقلة النوعية، وهكذا، وهو خط تطوري بلا رجعة. طبعاً هنا المنظور المنهجي خاطئ، حيث أن الجدل المادي يلحظ العودة إلى الوراء، حيث ليس حتمياً التقدم، ولقد أشرت إلى نص "البيان الشيوعي" حول الأمر. لكن انطلاقاً من هذا "الفهم" جرى شطب التجربة الاشتراكية، بالضبط لأنها انهارت، حيث أن الاشتراكية لا تنهار ولا تتراجع. وأصبح ما كان في الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ليس اشتراكية بل "رأسمالية دولة"، أو استبداد آسيوي، أو حتى رأسمالية. وهنا جرى تجاهل أهمية الملكية الخاصة في التطور التاريخي وفق ما اكتشفه ماركس، حيث اعتبر أنها مفصل الانتقال إلى المجتمع الطبقي، وبالتالي فإن إلغاءها يمثّل نقلة نوعية لتجاوز الرأسمالية.

إذن، هناك تصوّر نظري جرى استنتاجه من كتابات ماركس وإنجلز، بغض النظر عن دقة ذلك، بات هو المقياس الذي يتحدد الواقع به. بدا المؤشر الذي يحدّد اشتراكية هذه الدولة أو تلك، أو يلغي عنها ذلك. لكن، وإضافة إلى الخضوع لمنطق تطوري، فإنه جرى تجاهل الأمر الجوهري الذي يتمثّل في الملكية الخاصة. إن أهمية التجربة تتحدد في أن تمدنا بوقائع، وتظهر لنا مشكلات، يمكن على ضوء بحثها وتمحيصها الخروج باستنتاجات علمية عن الاشتراكية، وعما يجب أن تكون عليه الدولة والاقتصاد، والمجتمع. فقد قدّمت التجربة التي قامت على إثر ثورة أكتوبر كمية كبيرة من الوقائع التي تسمح بإعادة بناء مفهوم الاشتراكية ككل، وبتحديد السياسات الضرورية لتطور أرقى.

لكن الأزمة تتحدد حين يصبح هناك "تصوّر نظري" يكون أساس قياس الواقع به.