"الثأر مع دويري" أم إعادة إنتاج الدور الأبوي للمثقف المقاطع والمطبع

2017-10-25 18:00:00

المخرج اللبناني زياد دويري

منذ فترة خرج علينا أحد رموز سلطة رام الله -الموكلة إسرائيليًا- بتعبير "الفلسطيني الجديد"، وتلك القريحة التي أنتجت هذا المصطلح ليست استثناءً بالنسبة لما يمكن أن ينتجه خطاب "زنجي الحقل" (بحسب تعبير مالكوم إكس)، وهي نماذج متنوعة بين "الأعضاء العرب في فريق الأحلام الإسرائيلي"، أو ما نادى به مدير مهرجان "أيام سينمائيّة"، كامل الباشا، بضرورة تشكيل جبهة من المثقفين الفلسطينيين لمواجهة حركات أو/و حملات المقاطعة؟، ليس السؤال هاهنا بحديّة سؤال "التخوين"، والكثافة والاختزال فيه، بقدر ما هي فكرة مواجهة حراك يقض مضاجع دولة الاحتلال، ما معنى أن يختزل مثقف وفنان فلسطيني، ونعني الباشا، الموقف من نموذج دويري الثقافي بأنه "ثأر شخصيٌ مع دويري"؟

استهلال فلسفي/تأملي:

في حداثة يصفها عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان بالحداثة السائلة، القيمة العليا الحاكمة فيها صارت للاستهلاك. لا يحتاج الاستهلاك لضوابط بل لإطلاق الرغبات من عقالها، للوعود الغامضة بما تحمله كل سلعة جديدة من إمكانات، بالبحث الفردي عن موقع اجتماعي من خلال قدرتك على الشراء. تُحفّز الرغبات ومعها الولع بالتخلص، من أجل شراء الجديد. ليس المهم ديمومة السلعة بل العكس؛ فناؤها السريع. في هذا الشرط الموضوعي للحداثة السائلة يرتبط/ينعكس «وهم» الحرية الإنسانيّة بالنزعة/الممارسة الاستهلاكية. بقدر ما تحقق «وهم» الحرية المرتبط بالنزعة الاستهلاكية، بقدر ما أفضى إلى شعور عارم بعدم الأمان.

وفي ظل هذه الحالة من الغرق في المعلومات، وتنميط الاستهلاك، بتحويله إلى ممارسة جماعيّة مكثفة ممأسسة، ومقاسة رقميًا، يصبح سؤال الخيار الفردي حتى في الإستهلاك نموذجًا لكسر سيطرة التنميط والتسليع (فالحرية في ذاتها أصبحت سلعة، لها منتجوها الخطابيون ومنمطوها).

أدت حالة الشك هذه وانهيار السرديات إلى تحول الهويّة الموحدة إلى حالة من التشظي والانزياحات المتعددة، الغارقة في الشك وانعدام اليقين، والنزوع المتجدد لرسم حدود الأنا والآخر، لإعادة تكسيرها ورسمها، فعوضًا عن الحراك السياسي الإحتجاجي المنظم، ظهرت "الحشود" و"الجماعات"، التي تلتقي تحت راية هدفٍ "محدد"، أو قضية سرعان ما تتجزأ، فتتفكك الحشود. 

لم يسلم الفن، باعتباره أحد الفضاءات الأساسيّة للتعبير عن الذات وسؤال القيمة الإنساني (الحرية، العدل، وغيرها) من انهيارات حدود الهويّة، وسؤال الجماليّة، فعلى نقيض فناني "الحداثة الصلبة"، الباحثين عن ديمومة العمل الفني وكماله، أتت أعمال «العرض الواحد». ليس ثمة مشروع يعمل عليه الفنان بدأب، بل قدرته تتمثل في نسيان ما صنعه سابقاً، في تفجير إثارة لحظية سريعة الزوال والانطفاء.


تبدو الحرية بنظر باومان وهمية بقدر ما أنت مجبر على الاختيار داخل اللعبة، ولكن أبدا ليس على تغييرها. ولا يعبر الاختيار هنا عن قيمة عليا، بل عن ذاتك وحسب، مما يعني أنك تتحمل وحدك رعب الفشل وعواقبه.


دينامية المؤقت هذه التي تحكم العمل الفني، من ناحية، ومن أخرى، حتمية الإستهلاك السريع كمعبر عن الحرية، يدفعان الفن والذات/الهوية إلى ثلاث سلوكيّات: العزلة والخوف من الآخر أو الاستسلام لقوانين اللعبة، ودفع سؤال الأنا والآخر فنيًا إلى حالة من اللاقيمة.

عن الفن وحملات المقاطعة، وأدوات تحديد الجماعة العضويّة الفلسطينية:

تبدى هذا الخلل المابعد حداثي، جليًا واضحًا، وفجًا في سلوك الوسط الثقافي والجمهور الفلسطيني، في مهرجان "أيام السينما" الفلسطيني، والذي إنتهى منذ أيامٍ فقط، إزاء عرض فيلم للمخرج اللبناني المطبع مع الكيان الإسرائيلي المحتل، زياد دويري، والذي انتهى بـمنع عرض الفيلم. 

تصف "إسرائيل" حركة المقاطعة وأثرها عليها بأنها أخطر من النووي الإيراني، وقد أخرجت كل أوراق ابتزاز المعنى المعتادة "إسرائيليًا" في مواجهتها، فقال نتنياهو عنها بأنها حركة "لا ساميّة"، وقال غيره أنها ضد الإنسانيّة، وغير ذلك الكثير.

لا يمكن لمتابع أن ينكر أثر وفاعليّة حركة المقاطعة، وأنها في زمن القلق الوجودي، وانهيار حدود الجماعة العضويّة قيميًا، وهذا الشك وخوف المفرط من الآخر، والاستسلام الاستهلاكي، قد منحت الفلسطيني أدواتٍ لرسم حدود فعاليته، بما يتضاد مع منتج الرأسماليّة الحداثية وهو "دولة إسرائيل"، فبات فردٌ فلسطينيٌ قادر بهذا النفس الفردي أن يهدد كيانًا خطابيًا ومؤسساتيًا بحجم "إسرائيل/الدولة الحديثة“.

وبرغم ما يمكن قراءته واضحًا وجليًا (وأحيانًا؛ وقحًا) على بنية حملات المقاطعة، سواءً في استبطانها آليات الدولة الحديثة في تعريف فلسطين والفلسطيني، فتتيه حدودها بين البحر والنهر لتتقلص في أحيانٍ كثيرة إلى حدود دولة -مسخ- اسمها الضفة والقطاع، وتضيع بقيتها، ويضيع الفلسطيني معها، أو في استخدام أنماط خطابيّة إقصائيّة تجاه النقد، ما حوّلها إلى سلوك أبوي مركزي، بشكل يفقدها الكثير من موضوعيتها، حولت بعض نشطائها إلى مرتزقة أفكار وعرابي شللية لا تختلف عن الشللية التي أصيبت بها الحالة الفلسطينيّة، إلا أن لحركة المقاطعة إنجازات لا يمكن التغافل أو التعامي عنها، ولعل ما يدفعنا إلى كتابة نقدٍ بشأنها هو الإيمان بقدرتها المتجاوزة لثنائيّات الحداثة وتشظيات ما بعد الحداثة، في زمن يستعيد فيه العربي والعربية الحق في تقرير المصير.

هل المنع هو الحل؟

في مراهقتي كنت مأخوذًا بـ"أوديسا" هوميروس، أتذكر كيف حماني أوديسوس حينها من كراهيةٍ يتغذى عليها مجتمع محكوم بالنقاء الإلهي، وتصنيف الآخر، لولد كنته حينها، لا يعلم بعد لمَ، أتذكر تقريبًا كل مشاهد الملحمة، وبالذات أنني قرأتها مصورة في البداية، قبل أن أقرأ النص الأصلي، أتذكر مشهدًا علق في ذهني بقوة، حينما طلب أوديسوس من طاقم سفينته أن يضعوا شمعًا ذائبًا في آذانهم، لكي لا يسمعوا غناء الحوريات الذي يسحر عقول البحارة، قبل أن يقتلهم اللحن الأنثوي، وأكثر من ذلك طلب منهم -أوديسوس- أن يربطوه إلى ساري السفينة كي لا يضعوا في آذانه شمعًا، كانت مشاهد الرواية المصورة لمؤسسة ”بساط الريح"، متقنة وكأنها تصميم لمشهدٍ سنمائي، عروق أوديسوس تكاد تنفجر من عنقه، بعضلاته القوية، أمام فتنة الحوريات أنصاف العاريات. الآن أتذكر هذا المشهد تمامًا، لأنه يختصر آلية السلطات في المنع والسيطرة، وإنتاج ذكرٍ مركزيٍ أبويٍ؛ يملك وحده آليات إنتاج المعنى والخطاب، وعلينا أن نتبعه فيما يقرر.

في عصر الإتاحة المفرطة، وتهافت سؤال قيمة الحرية إلى حدود الاستهلاك، وفي ظل سؤال أخلاقي -كما هي فلسطين- عن الحريّة، لا يجب أن يقف من يدافع عن فلسطين وحق الفلسطيني فيها، موقف من ينادي بالمنع، لا لتهافت المنع في عصر الإتاحة، ولكن لكي تصبح المقاومة والممانعة هي حالة من التساؤل، والتأمل والتفكر، وليس فقط الإجراء (منعًا، طردًا أو غيرهما!).

لعل مواجهة خطاب التطبيع ممثلًا بدويري وخطابه (نموذجًا)، لا تحقق انتصارًا بمنعه، بقدر ما تحققه بعدم اختياره بالأساس، الأجدر بالفلسطيني أن يفكك هكذا نماذج دون أن يتم الدفع بها إلى الجمهور ضمن قالب استهلاكي، ينتج صورًا استهلاكيّة ولا ينتج حالة نقديّة تفكريّة، فسرعان ما تحول دعاة المقاطعة إلى وحوش، ودويري ومن نادى بعرض فيلمه إلى ضحايا، والعكس كذلك، وباتت مناقشة وتأمل وتفكيك دور المؤسسات الثقافية الفلسطينية وما تقدمه، ومناقشة خطاب دويري، وسؤال حرية التعامل مع نماذج فنية كتلك، آخر هم الجميع.

"الفلسطيني الجديد"، أو "الفلسطيني المرغوب إسرائيليًا“:

منذ فترة خرج علينا أحد رموز سلطة رام الله -الموكلة إسرائيليًا- بتعبير "الفلسطيني الجديد"، وتلك القريحة التي أنتجت هذا المصطلح ليست استثناءً بالنسبة لما يمكن أن ينتجه خطاب "زنجي الحقل" (بحسب تعبير مالكوم إكس)، وهي نماذج متنوعة بين "الأعضاء العرب في فريق الأحلام الإسرائيلي"، أو ما نادى به كامل الباشا، بضرورة تشكيل جبهة من المثقفين الفلسطينيين لمواجهة حركات أو/و حملات المقاطعة؟، ليس السؤال هاهنا بحديّة سؤال "التخوين"، والكثافة والاختزال فيه، بقدر ما هي فكرة مواجهة حراك يقض مضاجع دولة الاحتلال، ما معنى أن يختزل مثقف وفنان فلسطيني، ونعني الباشا، الموقف من نموذج دويري الثقافي بأنه "ثأر شخصيٌ مع دويري"؟ ألا يدفعنا هذه إلى تأمل حالة الثقافة الفلسطينية في التعامل مع سؤال التطبيع؟، فإذا كان لنا أن نفترض جدلًا -عبثيًا- أن ثمة ثأر شخصي بين حملات المقاطعة ودويري، أليست تلك المقولة فيها استخفاف بالعقل والذائقة الفلسطينية اللذان لهما حق مقاطعة منتج الدويري من عدمه؟ أوليس هذا تطوعًا بلا أدنى جهد لحصار حركة المقاطعة، فلسطينيًا، بدلًا من نقدها وتنقيتها من عيوبٍ ألمت بها، ولنا ولغيرنا الكثير من التحفظات عليها؟

في النهاية، لا يمكن أن يكون الفضاء الثقافي فلسطينيًا استثناءً عما أصاب الحالة المجتمعية الفلسطينية من أمراض تذرر حدود الجماعة العضويّة، مع تذرر حدود فلسطين التاريخية والقيمية ("إسرائيل وجدت لتبقى" – أبو مازن)، وما أنبته كل هذا من أمراض التصنيف بغاية الاستهلاك، باسم الحرية، بين ثنائيّات عنيفة وإقصائيّة.