I am from islamic state مونودراما الاحتفاء بالحزن

2017-11-10 15:00:00

I am from islamic state مونودراما الاحتفاء بالحزن
Photos: Reuters, Illustration: Vocativ

في بدايات الثورة السورية، انتشرت الكثيرُ من النُكات حول المناطق التي عاشت حياةً مهمّشةً في ظلّ نظام البعث، إحدى تلك النُكات كانت أنّ أولَ ظهورٍ للسلاحِ في إحدى القرى النائية، لم يكن لمواجهة النظام أو القتال، بل لأنّ شبّانَ تلك القرية قرأوا اسمَ قريتهم على محطةٍ تلفزيونية مرموقة لأول مرة في حياتهم، في خبرٍ يتحدثُ عن مظاهرةٍ فيها! الأمرُ الذي استدعى الاحتفال، فخرجَ الشباب ببنادقهم العادية وأطلقوا النار في الهواء ابتهاجًا!

أول ما يتبادر إلى ذهن قارئ جملة «أنا من الدولة الإسلامية»، أنها نُكتةٌ من النكات الكثيرة التي خُلقت في السنوات الأخيرة، سنوات القيظ التي عاشها مواطنو دول الربيع العربي، فعبّروا من خلالها، ومن خلالِ آلاف النُكات سواها، عن شعورهم إزاء ما جرى ويجري على أرضهم.

غير أنّنا إذا ما أردنا أن نكون واقعيين، فإنّ الجغرافيا الطبيعية، خضعت على الدوام لأحكام الجغرافيا السياسية، وبذلك تشكّلت الدول، وتبدّلت تشكّلاتها منذ قديم الزمان. على ذلك فإنّه يتحتّمُ على المرء الاعتراف أنّ مناطق واسعة من بلاد الشام والعراق خضعت في وقتٍ من الأوقات لحكمِ مجموعةٍ بشرية، اتخذت لنفسِها اسمَ: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهي ليست نكتةً على الإطلاق. ومثلما يقولُ سوريٌ مثلًا، إذا أرادَ أن ينتسب، أنهُ من مملكة أوغاريت، أو سويديّ من بلاد الفاينكينغ، فإنّه من المحتملِ أن ينتسبَ شخصٌ ويقول ”أنا من الدولة الإسلامية“. وهذه واحدة من المفارقات الجديدة، التي يطرحُها النصّ المونودرامي للشاعر والكاتب السوري خلف علي الخلف، والذي يحملُ نفس هذا الإسم: I am from islamic state!

ولدَ خلف علي الخلف في قرية ”خنيز“ الصغيرةٍ النائية في ريف الرقة، شمال شرق سوريا، ما يجعلُه فعليًا من مواليد المدينة التي كانت في فترةٍ زمنيةٍ ما عاصمة ”الدولة الإسلامية في العراق والشام“. وبعد انتقالات كثيرة في حياته، حطّ رحالهُ في السويد، شمال العالم، حيثُ العُزلة القسرية، والهدوء وبطء الحياة. الصفات التي باجتماعِها، تفتحُ الباب للتفكير، وللتبحّرِ في مآلات الإنسان.

ينطوي النصّ المسرحي I am from islamic state على مجموعةٍ من الأفكار والصراعات الداخلية لشخصٍ خاضَ رحلةَ حياةٍ غنية وغريبة في آن. تناقضات يُمكنُ أن تكون مثار استياء واستغراب حين نقرأها في رواية، أو نشاهدها في فيلم سينمائي. لكنّها حدثت وتحدثُ كلّ يومٍ في الحياة العادية، وعلينا أن نصدقها!

تبدأ هذه التناقضات من الاسم، حيث وعلى الرغم من أنّنا قد نستنكرُ أن يكتب أحدٌ ما نصًا نوستالجياً عنوانه: أنا من الدولة الإسلامية، وسنستغربُ جرأة صاحبهِ على نشرِ "الرجعية" إذا جاز التعبير! إلّا أنّ إحدى القيم التي يُقدّمُها النّصُ تكمنُ في هذه النقطة تحديدًا، في النقطةِ التي تجعلُنا نُعيدُ النظرَ في معارفنا حول طريقةِ حياةِ السكّانِ العاديين، الطبيعيين، في مناطقنا. كأنما أراد النصّ أن يقول إنّ الإنسان يُمكنُ أن يجد صيغًا للحياة في ظلّ أيّ نظام حكم، حيث لا يكترثُ السكانُ العاديون لمفاهيم الرجعية أو الدول أو الثورات. ويُمكنُ أن يحنّ البشريّ الطبيعيّ لتلك الحياة أيضًا، سواء كانت تحت حكم الدولة الإسلامية، أو الدولة البعثية، أو الدولة السويدية.

في بدايات الثورة السورية، انتشرت الكثيرُ من النُكات حول المناطق التي عاشت حياةً مهمّشةً في ظلّ نظام البعث، إحدى تلك النُكات كانت أنّ أولَ ظهورٍ للسلاحِ في إحدى القرى النائية، لم يكن لمواجهة النظام أو القتال، بل لأنّ شبّانَ تلك القرية قرأوا اسمَ قريتهم على محطةٍ تلفزيونية مرموقة لأول مرة في حياتهم، في خبرٍ يتحدثُ عن مظاهرةٍ فيها! الأمرُ الذي استدعى الاحتفال، فخرجَ الشباب ببنادقهم العادية وأطلقوا النار في الهواء ابتهاجًا!

أرادَ النصّ أن يلعبَ على هذا الحبل، الحبل الواصل بين المأساة والملهاة. بين الواقع وبين الخيال، بين الأحلام والحقائق. ولكي لا يُجنّ رجلٌ يرى وزراء خارجية دول كبرى، يزورون قريتهُ التي لم يزرها من هو في منصبٍ أعلى من أمين فرقةٍ حزبيةٍ خلال عقود طويلة، فقد قررَ صاحب «نواح الغريب» أن يكتب... فالكتابةُ وهذه الحالة، كانت في بادئ الأمر محاولةً علاجيةً من آثار شتّى للدمار الذي اكتستهُ الشخصية السورية خلال السنوات الأخيرة. أرادَ الاستشفاءَ من ذاكرةِ المكان من خلال استرجاعها. حيث تستطيعُ تلمّسَ ريف الرقّة وسيرورته من خلال قصة «تلّ الوهدانية» مثلًا. وأراد الاستشفاءَ من ذاكرةِ الناس، أولئكَ الذين ما عادَ يعرفُ على وجه الدقة من منهم حيّ ومن سحقتهُ معادنُ الحرب. من خلال قصصهم، وأمثالهم الشعبية، وآليات تعاطيهم مع المفاهيم العامة في تلك المنطقة من العالم.

لكنّ العلاجَ لم يتوقّفُ عند هذا الحدّ، بل ذهب إلى ماهو أقسى، إلى الحاضر. الحاضر الذي يظنّ كثيرونَ أنهم بوصولهم إليه فقد نجوا من تبعات الحرب. والحقّ أنّ هذا الحاضر، كان تمظهرًا جديدًا للقسوة الحتمية للحروب. وهنا، امتدّت السخريةُ اللاذعة في النص، والنقدُ الذكيّ والصارم في آن، ليتعدى الديكتاتوريات المُسلّم بإجرامها، والمعارك الأخلاقية التي لا تكاليف عاليه للخوض فيها، ليشمل السيستم العام الناظم للحياة بأسرِها في السويد وأوروبا عامةً. شعوبًا قبل حكومات. ذلك ما لم يُقرأُ كثيرًا في أدب ما بعد الثورة السورية. النقدُ الذي يتعدّى الطقس، والشتاء القارس والعتمة الثقيلة الوطئ. ليصل إلى ابتسامات الشفقة، والعنصرية المبطّنة، والالتفاف على القانون، واستغلال الخوف المتأصل في نفوس الهاربين من الديكتاتوريات العسكرية والدينية، والرعب من الآخر، ومن الدولة! ومع ذلك فإنّ النصّ لم يُكتب انتقامًا من أحد. بل ذهب إلى الإيجابي، إلى الاحتفاء، ولما لم يجد في طريقهِ سوى الحزن، احتفى به!

 وبالعودة قليلًا إلى تاريخ المونودراما، فإننا سنجدُ أن الشاعر ألفريد لورد تينيسون، كان أول من أطلق صفة المونودراما على نصّه مود (Maud) في العام 1885، أي أنّ ذلك حدث مع مطالع القرن العشرين، بينما عاشت المونودراما ازدهارها ما بعد ظهور مدرسة التحليل النفسي للفيلسوف سيغموند فرويد بزمن، وما بعد الحرب العالمية الثانية تحديدًا، ذلك يجعلُ منها مرتبطة بشكلٍ من الأشكال بالعنف المعمّم، والمكتوم، ومرتبطةً حتمًا بالتفسيرات النفسية للسلوك الإنساني، والتي بدورها أعلت من شأن المونودراما بوصفها آليةً للتفريغ الإيجابي، لإخراج ما يعتمل في النفس إلى العلن، إلى الهواء، إلى الفضاء العموميّ، بحيث يصيرُ الشخصيّ أخفّ وطأة حين يتمّ تناولهُ بوصفه قضية.

وعن درايةٍ حقّقَ الخلف هذه المعادلة، أرادَ أن يطرحَ كلّ المسألة لا بوصفها قضية عالمية تشغل الصحافة ودول صناعة القرار، بل كمسألة شخصيّةٍ تمامًا، تتعلّقُ بالذاكرة الفردية، وبالأعراف الجماعية التي تغذي هذه الذاكرة الفردية. أرادَ أن يطرحها ليتنفّس، ليُخرجها من قرارةِ نفسهِ، ليسمعهُ أحدٌ ما، في بلادٍ ترامت أطرافُها، وتقطّعت السبلُ في لاجئيها لإيجادِ مستمعينَ عاديين لمشاكلهم، أرادَ أن يكشفَ الجرحَ، في محاولةٍ للخلاص من الألم.

لكأنّ السوريّ مكلفٌ بأن يعيش هذه الحياة، وعليه في النهاية أن يعود ويحدّث أهله عن أنّ الرحلةَ لم تكن تستحقّ كل هذا العناء، إذ لم يجد وراء الأكمة أيّ شيء!

يختمُ خلف علي الخلف نصّهُ المونودرامي I am from islamic state، الصادر عن شركة النشر الإلكتروني “لولو بريس”، والواقع ضمن أربعٍ وستين صفحة، بمقطعٍ لم يستطع التغلّب على الشخصية الشعرية لدى الكاتب، الذي يخاطب أباه:

نعم يا أبي 
لقد وصل ابنك أخيراً إلى حد الدنيا
وصل دون مجازات 
كانت رحلة طويلة وشاقة يا أبي 
عبرنا قرى ومدناً كثيرة يا أبي حتى وصلنا هنا
وصلنا هنا حفاة وعراة بـ «طركَـ» الذكريات 
مات منا نصف مليون في الطريق يا أبي
لكنّا وصلنا إلى اللاشيء أخيراً يا أبي.