السينما والذاكرة الفلسطينية

2017-12-21 08:00:00

السينما والذاكرة الفلسطينية

يبدو أنّ مرحلة الترميم أصعب من مرحلة البحث عن الأفلام، فعلى الرغم من الوعود والتمنيات الطيبة، واستعداد بعض الجهات العربية والأجنبية، ذات الطابع الثقافي، للمساهمة في نفقات الترميم، إلّا أنّ أي خطوة عملية لم تبدأ بعد. ويبدو أنّ مشاغل المسؤولين عن الشأن الثقافي والسياسي تمنعهم من رؤية أنّ جزءًا مهمًا من الذاكرة الفلسطينية محتجز الآن في استوديو في العاصمة المصرية، وأنّ بكرات الأفلام وأشرطتها، ومعها ذاكرتنا البصرية، توشك على الضياع.

تندثر الشعوب إذا فقدت ذاكرتها وإذا عدمت السبل التي تربط حاضرها بماضيها، وتمكّنها من صوغ مستقبلها وتشكيله. وبقدر الشتات الذي أصاب الشعب الفلسطيني توزّعت ذاكرته وتناثرت عبر الهجرات المتعاقبة والنكبات المتتالية والنزوح المستمر من مكان إلى آخر. وإذا كانت الذاكرة الشفوية المترسخة في جيل النكبة الأولى قد انتقلت شفويًا عبر الأجيال المتعاقبة، كما حفظت الأهازيج والأغاني الشعبية بعضًا منها، فإنّ ثمّة إشكاليات قد أحاطت بالذاكرة المكتوبة والمرئية. منها اقتصار أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية في مجملها على التعبئة الجماهيرية المطلوبة في حينها، ممّا أدّى إلى افتقارها لتسجيل دقيق لتاريخها بإيجابياته وسلبياته، ومنها وفاة الكثيرين من ذوي الصلة بهذا التاريخ دون أن يتركوا يومياتهم أو مذكراتهم التي تروي مشاهداتهم الحقيقية، ومنها فقدان جزء كبير من هذا الأرشيف الوطني نتيجة للحروب والنزاعات المتكررة التي خاضتها الثورة الفلسطينية المعاصرة، ممّا أدّى إلى ضياع أراشيف وأوراق مهمة في عمّان وبيروت ودمشق وبغداد وصولًا إلى الصحراء الجزائرية، حيث ابتلعت رمال الصحراء أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني بعد أن كان أسيرًا لدى العدو الصهيوني الذي صادره عند احتلال بيروت، وحُرّر في إحدى عمليات تبادل الأسرى.

واكبت السينما الفلسطينية الثورة الفلسطينية منذ بداياتها، عندما تأسست أول وحدة سينمائية "وحدة أفلام فلسطين" عام 1968، والتي تطوّرت إلى مؤسسة السينما الفلسطينية في منتصف السبعينيات، وانتجت عددًا كبيرًا من الأفلام على أيدي منتجين ومخرجين فلسطينيين وعرب، وبالشراكة أحيانًا مع أصدقاء مؤيدين للقضية الفلسطينية، إضافة إلى عدد آخر من الأفلام أنتجتها مؤسسات وفصائل فلسطينية ومؤسسات عالمية صديقة. وسجّلت هذه الأفلام واقع المخيمات ومعظم الحوادث التي وقعت من معارك وحروب، واستشهد عدد من كادر هذه المؤسسة خلال تغطيتهم للمعارك، أذكر منهم هاني جوهريه الذي استشهد في عينطوره عام 1976 وإبراهيم ناصر (مطيع) وحافظ الأسمر (عمر) اللذان استشهدا في بنت جبيل عام 1978، وأُسر رفيقهم وزميلنا في الدراسة رمزي الراسي. كما برز عدد من الأسماء مثل المرحوم مصطفى أبو علي مدير المؤسسة، والمخرج اللبناني جان شمعون الذي شهدت بيروت قبل أسابيع تأبينًا حاشدًا له استرجعت فيه بيروت جزءًا من ذاكرتها الفلسطينية، وزوجته المخرجة مي المصري، والمخرج العراقي قيس الزبيدي وآخرون كُثُر.

عند حصار بيروت صيف 1982، نُقل جزء كبير من أرشيف مؤسسة السينما من منطقة جامعة بيروت العربية التي كانت تتعرّض لقصف مُركّز إلى منطقة أكثر أمنًا، لكنّ وقت الخروج من بيروت قد حان، والتعليمات تقضي بعدم نقل أي شيء مع الخارجين سوى حقيبة ظهر صغيرة. 

احتار العاملون في مؤسسة السينما، وبعد مشاورات مع القيادة الفلسطينية المنهمكة في تفصيلات الخروج وفي أماكن حفظ أراشيفها الشخصية أيضًا (جزء منها أُحرق عند دخول قوات العدو إلى بيروت) توصلوا إلى اتفاق مع السفارة الفرنسية، أو أحد العاملين فيها، على الاحتفاظ بالأرشيف الضخم في مستودع تابع للسفارة، لكنّ الرياح لم تجرِ كما اشتهى صانعو الأفلام، فقد شهدت بيروت مرحلة اقتتال داخلي وقصف كثيف متبادل بين الفرقاء المختلفين، وتُوّج ذلك بسيطرة النظام السوري الكاملة عليها، ممّا اضطر السفارة الفرنسية إلى طلب إخلاء المستودع بعد أن أغلقت السفارة أبوابها.

نُقل الأرشيف بداية إلى قبو أحد المساجد، ومن هناك إلى مستودع مستشفى، لكنّ العاملون هنا وهناك خشوا من سطوة نفوذ النظام السوري، إذ كان التعامل مع أي موضوع فلسطيني يُعرّض صاحبه للملاحقة والاعتقال. وأخيرًا عثر الشخص المكلّف على صديق له لديه مستودع تجاري فأودع الأرشيف لديه.

لسبب ما اعتُقل الشخصان، كلٌ على حدة، وبقيا في زنازين المخابرات السورية أشهرًا طويلة، وعندما خرجا من المعتقل كان المستودع فارغًا من كل شيء، ولم يفلح الجهد المبذول لمعرفة أين أصبحت الأفلام الفلسطينية.

مصير مماثل واجه وثائق وأراشيف وأفلام فلسطينية في دمشق وبغداد كانت محفوظة في مكاتب الفصائل الفلسطينية. وروى لي صديق كيف تمكّن من الوصول إلى أفلام ووثائق كانت موجودة في أحد المكاتب المهجورة في العاصمة السورية بعد أن رشى أحد القائمين على المكتب وحصل منه على مفتاح له. قال لي الصديق ساخرًا إنّ مشكلته الكبرى كانت مع الغبار العالق فوق الوثائق والأفلام.

بُذل جهد كبير للعثور على ما يمكن من هذا الأرشيف الثمين، وكان للسيدة خديجة الحباشنة أبو علي، المخرجة السينمائية وزوجة مدير مؤسسة السينما الفلسطينية مصطفى أبو علي، والمخرج العراقي قيس الزبيدي دورًا ملحوظًا في ذلك، حيت سارا في رحلة بحث مضنية عن نُسخ من هذه الأفلام. خاطبت خديجة السفارات الفلسطينية في الخارج لعلّ إحداها استعارت نسخة فيلم ما لعرضه في احتفال أو مناسبة، كما لجأت للفصائل وللمخرجين الأجانب الذين ساهموا في إنتاج بعض هذه الأفلام.

قبل عام حضرتُ في عمّان فيلمًا عن تل الزعتر استعيد من النسخة الإيطالية في الوقت ذاته الذي عُثر على التسجيل العربي للأصوات، فأعيدت دبلجة الفيلم باللغة العربية وترميمه بمساعدة إيملي جاسر ومونيكا ماورر وبيتو إدريانو.

بعد جهد استمر أكثر من عشرة أعوام، وتجوال في العواصم العربية والأوروبية عُثر على 85 فيلمًا أُنتجت بين عامي 1968 و1982. وما زالت هناك خمسة أفلام وثلاثة أعداد من الصحيفة المصورة في عداد المفقودين.

في أروقة التلفزيون الأردني اطُلع على جزء من هذه الأفلام لمعرفة مدى الضرر الذي أصابها، وفي نهاية المطاف نُقلت إلى استديوهات مصرية في القاهرة لمعاينتها على أجهزة عرض قديمة (16ملم)، وغسلها وترميمها وتحويلها إلى نُسخ رقمية؛ ليتسنّى عرضها على الجمهور، وما زالت هذه الأفلام موجودة هناك بانتظار من يتكفل بنفقات ترميمها منذ أعوام.

يبدو أنّ مرحلة الترميم أصعب من مرحلة البحث عن الأفلام، فعلى الرغم من الوعود والتمنيات الطيبة، واستعداد بعض الجهات العربية والأجنبية، ذات الطابع الثقافي، للمساهمة في نفقات الترميم، إلّا أنّ أي خطوة عملية لم تبدأ بعد. ويبدو أنّ مشاغل المسؤولين عن الشأن الثقافي والسياسي تمنعهم من رؤية أنّ جزءًا مهمًا من الذاكرة الفلسطينية محتجز الآن في استوديو في العاصمة المصرية، وأنّ بكرات الأفلام وأشرطتها، ومعها ذاكرتنا البصرية، توشك على الضياع.