أدبٌ سوريٌ سجين

2018-01-06 10:00:00

أدبٌ سوريٌ سجين
Liberty, Dino Ahmad ALI, 2014, Print on Polyester, 120 x 120 cm, 15 editions

رافقت الانتفاضة السورية سنة 2011 نهضةٌ للواقعية الاشتراكية وأدب الالتزام، وهذا المذهب بشكل من الأشكال مدخلٌ لتلقّي الأدب السوري الجديد في الغرب أيضاً: الأعمال الأدبية كمرايا للواقع أو كانعكاسٍ لحركة التاريخ، أو كمداخل ميسّرة لفهم المجتمعات. رافقها تيار آخر، سأسمّيه تجاوزاً في فوضى التجريب "الاشتراكية السحرية"، استفاض في استعراض الكثير من فظاعات الواقع السوري كنوع من الغرائبية تُعرّى فيه الحقائق الصادمة.

ديك سقراط

سأضعُ هنا عدداً من الأفكار الأوّلية. ظنّي إن الكتاب السوريين سيسدّدون بالتقسيط، ولوقت طويل، الديونَ الباهظة التي تركتها لهم قرابين سورية، في سوق الآلام التي تشتري عذابات الناس وتسوّقها وتبيع حقوقها وحتى تتعيّش منها كبضاعةٍ رائجة محدودة الصلاحية، حيث ظهور كتّاب عديدين مستندٌ إلى تلاشي آخرين كثيرين، أقرانهم في صفة "سوريين". لعلّ هؤلاء الكتّاب لم يتغيّروا حقاً عما كانوا عليه قبل 2011، لأنهم انهمكوا بعرض آلامهم وتحليلها سياسياً وتحويلها إلى رسائل توعية، وذهبوا بهذا العرض إلى حدود قصوى، ولم يجدوا الوقت لمعايشتها والتفكير بها في صمت. ربما عليهم، مثل فلاحين في جبال الألب، أن يجيدوا العيش مع الموتى وفنون محاورتهم. فكرتُ كذلك بالألم الشبحي لدى المنفيين الذين يحسبون بلدانهم بعضاً من أجسادهم، فمدنها في قلوبهم وأنهارها في شرايينهم وأسماؤها موشومة على أكتافهم ومعاصمهم، بلدهم الذي يوجعهم يستمرّ بإيلامهم عن بُعد ويبرّحهم إثر بترهم عنه أو بتره عنهم، مثل المرضى الذين تظلّ تؤلمهم أطرافُهم المقطوعة، وتنشأ علاقات مركّبة بين الحنين إلى ما مضى والإيمان بنظرية المؤامرة…
 
لكني، على أية حال، لن أسهب في هذا الشرح، بل سأنتقل باختصار شديد، على غرار صديقي الذي كان يكتفي من الكتب بقراءة عناوينها، لأطرح على نفسي أمام الملأ، سؤالاً فيه شيء كثير من التعميم: بدءاً من سنة 2012، لماذا بتّ أستصعب، أكثر فأكثر، قراءة شعرٍ أو أدب يتبعه نعت "سوري"، هذه الصفة التي تسحق الموصوف وترميه إلى الركن المخصص للمآسي؟ لماذا لا يقرأ سوريون كثيرون ما يكتبه سوريون كثيرون عن سورية؟ سأحصر جوابي بالجانب الأدبي-الشعري من السؤال، ولن أستثني نفسي، متناولاً الموضوع من زاوية شخصية لا تدّعي الموضوعية بأية حال، ولا يخلو الاعتراف فيها من فضح ألمٍ وحيرة داخليين مستمرّين، ورجائي ألا تُرى تعالياً ولا تحاملاً على أحد، وألا تبدو، خصوصاً لليساريين السابقين، يمينيةَ النزوع. 
     
ذمّ البساطة ومدح البُسطاء

أحد الأسباب وراء عزوفي النسبيّ عن متابعة الأدب السوري، إضافة إلى الوطأة الفادحة لمرور الزمن خلال السنوات الست الماضيات، هو الخيبات التي تكرّرت عند متابعتي ما يكتب من محاولات التعبير عن الثورة والكارثة السوريتين. لا أعني بالمتابعة هنا التصفّح والاطّلاع العجولين المفضيين إلى مراكمة الأسماء والعناوين، وإنما القراءة المتأنّية التي تقتضي معايشة الكتب والرجوع إليها. ففي أحيانٍ كثيرة، تكون عدالة القضية السورية، بكل ما سكنها وتخلّلها من جرائم، تبريراً أخلاقياً لرداءة الأدب يصعب دحضه، إذ لا يجوز لأحد لومُ المضحّين والمستَضعفين والسكوتُ عن مجاملتهم بالتشجيع. لا تزال "البساطة" في الشعر، مثلما كانت من قبل، معياراً في الذائقة العامة التي كثيراً ما يُحابيها الشعراء، تتعزّز به أولوية الصدق في التعبير عن الواقع وتمثيل الحقيقة وحتى السعي إلى العدالة، ففي شعرٍ بهذه البساطة وهذا الوضوح المباشرين حرصٌ على إنتاج شيء "يشبهنا"، شعر أو أدب يحكي "حكايتنا" نحن السوريين العاطفيين الودودين اللطفاء الطيبين. البساطة في الأدب تضامنٌ مع الضحايا "السوريين العاديين" الذين قد تنمّطهم المخيّلة العامة كبسطاء يفترشون بسط المخيمات ويعيشون على كفاف الذلّ. 

رافقت الانتفاضة السورية سنة 2011 نهضةٌ للواقعية الاشتراكية وأدب الالتزام، وهذا المذهب بشكل من الأشكال مدخلٌ لتلقّي الأدب السوري الجديد في الغرب أيضاً: الأعمال الأدبية كمرايا للواقع أو كانعكاسٍ لحركة التاريخ، أو كمداخل ميسّرة لفهم المجتمعات. رافقها تيار آخر، سأسمّيه تجاوزاً في فوضى التجريب "الاشتراكية السحرية"، استفاض في استعراض الكثير من فظاعات الواقع السوري كنوع من الغرائبية تُعرّى فيه الحقائق الصادمة. عادت لغة الإبلاغ وتحولت القصيدة إلى قالب للفكرة وهيكل للرسالة تتحوّل فيه الصورة الشعرية إلى رسمٍ توضيحي يمكن ردّه دائماً إلى حدث اجتماعي أو واقعة أو كارثة. تحولت القصيدة إلى أمثولة شارحة مفسّرة، ناقمة أو محتجة أو رسولة سلام ومحبة، أو نادبة هولَ ما جرى. 

أدب الشهادة والكفّارات

فلأي سبب، إذن، أستصعب قراءة قصائدي في باريس حيث أعيش منذ خمس سنين؟ أتخيل نبرة إلقائي وبحة التأثر المحتملة في صوتي، ودموعي المحتملة، على المنصة الصغيرة في مكتبة صغيرة في بلفيل أو الباستيل، أو دموع سواي من الجمهور المتضامن فتطبطب إحداهنّ بصدق على كتفي وتواسيني، وكأنها تواسي بهذا التربيت كلّ الشهداء والقتلى والغرقى واللاجئين السوريين، وربما تكون قد قرأتْ عن كتاب مختارات شعرية سورية حول الحرب والحب بعد وصوله إلى طاولة فرانسوا هولاند، ولعلها تتعاطف مع الشعراء المفلسين بطبيعتهم ولا بد من المطالبة بمكافآت تجازيهم وتقيهم العوز وتوفّر لهم الأمسيات الشعرية لقمةَ عيش... أفترضُ ما سبق، فينتابني إحساس بالزيف والاحتيال يتحول إلى مانع قوي أمام القراءة في الأماكن العامة، مظلّلاً باسم سورية الذبيحة البعيدة، وكأنني إذا قرأتُ جاريتُ المتوقّع أو المطلوب من الشعراء في الأزمنة المظلمة، وهو، في حالتنا هذه، استدرارُ الدموع وتأجيج العواطف بالمراثي والوجدانيات وأناشيد المقاومة.

ليس الشاعر صوتَ أمّة أو شعب، ولا ضير إذا لم يكن لسورية شاعر هائل كمحمود درويش يحلّق بنكباتها إلى الأعالي. الطموحات المحدودة والمتواضعة أجمل في أحايين كثيرة. كان صديقي المغرَم بعناوين الكتب يُحصي كم مرة أورد علي عقلة عرسان كلمة "الغربة" في عناوين دواوينه. لم أستخدم هذه الكلمة أبداً، ولا أزال أشعر بالغربة تجاهها، ويكاد يكون هذا الموضع هو الوحيد الذي أستطيع استخدامها فيه، وبالمثل عجزتُ عن "توظيف" كلمات مثل "الثورة" و"الشهيد" في الشعر، ربما لأن هذا القاموس (الأدبيّ تعييناً، لدرء أي التباس)، يتقاسمه الأعداء والخصوم، والشهيد على هذه الضفة من الخندق السوري مجرمٌ على ضفته الأخرى، ولا مناص لمَن لا يتحيّز حتى أمام جثّة. 

مراتٍ قليلة قرأتُ شعري في باريس، وكان قبولي مشوباً بالتردّد ومبطَّناً بالرفض. كنت أستضيء ببول تسيلان: "تكلّمْ ولكن لا تفصلْ نعم عن لا". كنتُ إذا تحدثتُ عن ابتذال الألم وجدتُ كلامي مبتذلاً على الفور، وبدوتُ دعِيّاً أمام نفسي. لستُ غافلاً عن احتمال إن كل مَن ينتقد المدّعين يخاطر بالظهور مدّعياً هو نفسه، ومَن يلحّ على الصدق يخاطر بالظهور منافقاً أو نصّاباً. أدّت هواجس الواجب الأخلاقي إلى خلق بلاهات أدبية كنتُ ألمسها فيما أكتبه وما يكتبه بعضٌ من أحبّتي وأصدقائي، ولم أجرؤ على التصريح برفضي والتصريح بخوفي من الذين سيحقّرونني لأنني قد أبدو في أنظارهم متكبّراً محتقراً لعذاب الإنسان، وأبغضتُ صمتي الذي قد أقرأ فيه رياءً أو تعامياً عن الركاكة لأنني ساهمتُ فيها. لكنني، أخيراً، توقفتُ عن المجاراة التي تتطلّبها حلبات الإعلام، توقّفتُ عن المسارعة إلى تلقّف ساخن الأخبار، ولعل هذا التحاشي حيلة لمراوغة الانهيار، فصرتُ إذا قرأتُ عن الأهمية القصوى للتوثيق وحماية الذاكرة السورية لُذتُ بالنسيان. من جهة أخرى، هذا الانكفاء ولّد إحساساً غامضاً بالذنب أدّى أحياناً إلى كتابات تعويضية أحسبها جزء من "أدب الكفّارات" السوري، أدب الضمائر المعذّبة، فجدّدتْ إحساسي بالزيف والتزوير، لأنني كنت أقسر نفسي على كتابة ما لا أؤمن به في الصميم، وأعني تحديداً الأدب بمثابة الشهادة الشخصية على الكارثة. 

رُقباء جُدد

هذا الشعور الكبير والغامض بالذنب، لأنني لا أتابع جيداً ما يجري في سورية (هذا إن كان بمستطاع أحدٍ القيامُ بذلك حقاً)، قد ولّد شكلاً جديداً من الرقابة هيمن على الحيز الصغير من الحرية الداخلية التي أتيحت بعد ربيع 2011. فالرقباء، قُرناء الملاكين الرقيبين العتيدين اللذين يبلّلان كواهل المؤمنين بحبرهما الخفيّ، وقُرناء الجلادين الذين يلاحقون الناجين في مناماتهم ويقظاتهم، هم هذه المرة القتلى والمعذّبون والمحرومون، وأعينهم التي لا تنام كعين الله ترصدُ كلّ لقمة تُؤكل وكلّ كلمة تُكتب. باعتقادي، كثيراً ما أدّى هذا الشعور المعقّد الأسباب إلى انسدادٍ في الكتابة لدى كتاب كثيرين فتكيّفوا مع نوع من الإعاقة الروحية أو الحُبسة الكلامية، وأدى في أحوال أخرى، كما أسلفتُ، إلى خلق شكل من الزيف الجديد في الكتابة التي تدّعي تمثيل سورية، جراء المواكبة الأخلاقية المستمرّة للكارثة والمحاولات اللاهثة للتعبير عنها، في ثقافة الطوارئ المفتوحة التي نعيشها وتعطّل حواسّنا، وستودي بنا إلى فظاظة أشدّ في اللسان وشراسة في النظرة، وقد تذهب بما تبقّى في الذوق من رهافة، والأرجح أنها قد أثمرت انحطاطاً جديداً في الوعي لن تستيقظ منه الحساسية الكليلة، بعدما كاد يجهز عليها الخوف بعروضه التي لا تنتهي.

النقطة الأخرى التي قد تفسّر عزوفي النسبيّ عن متابعة الأدب السوري، قاصداً الرواية هنا، هي الطموح الشمولي في الأدب لتمثيل سورية والإحاطة بفهمها، سورية المنكوبة بالشمولية السياسية. كنتُ أرى في هذا الطموح الملحمي وجهاً هوليودياً أو تصادياً يتمادى مع مسلسلات الدراما التاريخية التي دشّنها المخرج نجدت أنزور وخلفاؤه، ومعه ما ترسّب في قاع العقول من بلاغة حزب البعث وإنشائياته، وكأن لا شيء يضاهي في الجدية والأهمية التصدّي، أدبياً بالطبع، للطائفية والمخابرات وآل الأسد والجهاديين... كانت توقّعاتي، المسبَقة والمتجنّية أحياناً، تحول بين مثل هذه الأعمال وبين فضولي كقارئ للأدب. لا يكفي القول بأن حكم الأسدين قد قام على محو المخيلات الفردية وتوحيدها، عبر الخوف والريبة المبثوثين في كل الأرجاء، فضحالة مثل هذه التفاسير، المستساغة فكرياً أو أخلاقياً، لا تُعين الكاتب في حيرته أمام الكتابة. العذاب العظيم، مع الأسف، لا ينتج بالضرورة أدباً حيّاً. إن مجتمعاً كالمجتمع السوري قد عوقب بأكمله، ولا يزال، في بقايا موطنه وفي شتاته، مسكوناً بأشكال شديدة التنوع من الرقابة الذاتية والخارجية. الحواجز متفشية داخل العقل، والانسدادات المباغتة للتفكير لا تُحصى. كم من كاتب سوري لم يكمل ما بدأه في كتاب هنا أو دراسة هناك، لأن طموحه أكبر من إمكانياته الحقيقية. الكتابة الإبداعية، شعراً ونثراً، استعصت على كثيرين ودخلت طوراً من الجمود. لعل تجارب السوريين المريعة أدت بهم إلى حرمان إضافي من روح التجربة العادية، وربما أدخلت كتّابهم إلى قفص زجاجي أقفلوه بأيديهم على أنفسهم، وظلّوا في داخله، نهباً لنهَمِ العيون، لا يُسْمَعون.

قرئت مقتطفات من هذا النص ضمن ملتقى "سوريا: بحثاً عن عالم" الذي انعقد في جامعة باريس ديدرو يومي 14 و15 كانون الأول/ديسمبر، 2017.