"كاس ومتراس" لبديع أبو شقرا: عن ماض يحضر، وعن فن يعرّي

2018-01-09 17:00:00

أمسية "كاس ومتراس" ـ التي تُتيح للكأس أن تتبوأ مرتبة أساسية في مساواتها مع متراسٍ، يبدو حاضراً، أيضاً، في مساحات اللحظة الآنية، وفضاءاتها الباهتة والكثيرة ـ تبقى أمسية مفتوحة على مرايا تعرية واغتسال، لا لبكاء أو ندب أو رغبة مجانية في ماضٍ يحضر دائماً، بل لمنع الأحوال اللبنانية من الاندثار من ذاكرةٍ، يُراد لها أن تبقى "مثقوبة".

تُشكّل أغنيات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، المُنتجَة من قِبَل أحزاب وميليشيات متقاتلة، ثراءً متنوّع الأشكال، لكونها مرايا محطات وحالات، ناشئة من واقعٍ ميدانيّ شعبيّ صرف، يلتزم هذا الحزب أو تلك الميليشيا، ويتماهى بهما، في النضال والعقيدة والتفكير وأنماط العيش. ولكونها الأصدق في التعبير عن حالةٍ شعبية، وفي التأثير في حالةٍ شعبية في آن واحد، لأنها تعتمد مفرداتٍ "سهلة"، مُلحّنة ومُغنّاة، تُصيب "العصب الإيمانيّ" -في السياسة والاجتماع والدين والعائلة والتربية والسلوك- لدى شريحة واسعة من المريدين.

ذلك أنّ النمط الغنائي/الموسيقي/الأدائيّ هذا، المنبثق من الصراع العسكري بين خصومٍ شديدي النقمة، بعضهم ضد البعض الآخر (رغم لحظات تواصل كلاميّ، أحياناً، يصنعونه على خطوط تماسٍ، أو بين متاريس متقابلة)، يُعتَبر (النمط) أساسياً في خوض كلّ معركة، وفي حاجة كلّ صدامٍ عنفيّ بين طرفين (أو أكثر) إلى ترويجٍ دعائيّ، تبقى الأغنية الحماسية -المرتكزة على كلماتٍ وألحانٍ تدغدغ انفعالاً وغريزة، لا عقلاً وثقافة- أقدر الأدوات المُقنِعة لتجييشٍ مطلوبٍ.

عن تجييشٍ حماسيّ

والتجييش، إذْ يحتلّ مرتبة -دعائية حماسية شعبية- أولى في الخصام الدائر، لن يعثر على مفردات سهلة وبسيطة وعفوية، في أعمال مختلفة عن الأغنية. فهذه الأخيرة أنجح في اختراق الوعي والمُتخيّل، وأنجع في السيطرة عليهما، بشدّة أقوى من كلّ نصٍ أدبي أو فني أو أكاديمي، إيديولوجي أو تنظيري أو تحليلي. كما أنها أفعل، في التوغّل في مسام الروح والمعنويات، من كلّ خطابٍ، وإنْ يتمكّن الخطاب -المتوجّه إلى الانفعال والغريزة أيضاً، لكن بلغة تمتلك شيئاً من التحليل السياسي والفكر العقائديّ، المُخفّفين بنبرة حماسية ولهجة مفهومة وسريعة الوصول والتأثير- من فعل التجييش، في تأثيرٍ يتساوى، غالباً، مع الأغنية؛ مع أن هناك ميلاً "نقدياً" إلى اعتبار الأغنية أبرع في التأثير من الخطاب، ولو بدرجةٍ، أو أكثر بقليل.

هذه حاجة ماسّة، لن يتردّد حزبٌ أو ميليشيا في لبنان الحرب الأهلية عن تحويلها إلى نسقٍ عمليّ في مقاربة معنى الانخراط في حربٍ كهذه. حاجة إلى جذب أكبر عدد ممكن من المريدين، تتمكّن الأغنية -بعفويتها، وصوابيتها النضالية، وارتكازها على مفرداتٍ حميمة لدى هؤلاء المريدين، الذين يحسّون بلغتها فيتفاعلون معها، قبل أن يُفكّروا بها- من تفعيلها (الحاجة)، بنبرة حماسية، تُزيد الموسيقى، الشبيهة بإيقاعٍ عسكري غالباً، في حماستها.

مردّ كلامٍ كهذا عائدٌ إلى "سهرةٍ" بعنوان "كاس ومتراس"، مُقامة في أمسيات عديدة في "تياترو فردان" (بيروت)، بهدف تقديم نماذج من تلك الأغنيات الحزبية الميليشياوية، السائدة زمن الحرب الأهلية. أغنيات، بل أناشيد حماسية، تنضح بأفضل ما يُمكن الحصول عليه من كلمات وألحانٍ وأداءٍ تنخرط، كلّها، في أكثر من مشترك: تأكيد كلّ طرفٍ على صوابية خوضه الصراع، انطلاقاً من مفهوم خاصّ به إزاء الوطن والمجتمع والثقافة والانتماء والحرب والنضال السياسي العقائدي؛ نزع كلّ مصداقية ممكنة عن خطاب الآخر، وإنْ بشكلٍ مبطّن، كأن يتمّ هذا عبر منح من يَنْزع المصداقية عن خطاب الآخر كلّ الصفات الحسنة والإيجابية والإنسانية، فتُوَجّه السلبيات، ضمناً، إلى الطرف المنزوعة عنه المصداقية؛ سرد مقتطفات من أحوال اللحظة، عبر جُملٍ تروي وقائع أو حالات، يكون أبطالها مقاتلي الطرف/صاحب الأغنية/النشيد؛ إلخ.

إذاً، يختار الممثل اللبناني بديع أبو شقرا -الذي يكشف جانباً من شخصيته الفنية، يتمثّل، هنا، بالغناء- مجموعة من تلك الأغنيات، العالقة في أذهانٍ فردية وذاكرة جماعية، كي يصنع منها مشهدية تمزج مناخ حربٍ أهلية بوقائع تواصل عنفي صدامي بين الفصائل المتقاتلة، ويضع حيوية النصوص الحماسية في سياقٍ ينفضّ عن مَوَاجع تلك الحرب، كي يجعلها راهناً يواجه ماضيه بضحكٍ وسخريةٍ، لكن بكثيرٍ من "الوفاء" -المبطّن أو المُعلَن عنه- لدى مستمعين، يأتون من أطيافٍ مختلفة في الاجتماع اللبناني، بكلّ ما في الاجتماع اللبناني هذا من تناقضات واختلافات، ومن تشابهٍ أيضاً في  مواقِعَ عامة. و"اللمسة" الموسيقية (توزيع ريان الهبر) لن تُفْقِد النصوص "أصالتها" القديمة، وبراعتها في أداء "واجبٍ"، وطني -قومي- تحرّريّ، بقدر ما تصبغها بـ"حساسيةٍ" متوافقةٍ والمزاج الآنيّ، في الموسيقى والوعي والعلاقة بهذا الماضي، الحاضر بفعاليةٍ كبيرةٍ في وعي أو لاوعي، فردي وجماعي معاً.

صدام أزمنة وحالات

والاختيار ممهورٌ بسمة توفيقية، إلى حدّ ما، بين أنماط غنائية (تتشابه بحماسة لغتها الموسيقية والنصّية والأدائية)، وراهنٍ فاقدٍ "جماليات" ماضٍ موغلٍ في حربٍ مأسوية، لشدّة بهتان صراعات الآني، وقسوة مآزقه، وعفن قياداته. والسمة تلك متأتية من خيارات تضع -على خشبة مسرحية- أحزاباً وميليشيات متقاتلة ومتخاصمة زمن الحرب الأهلية اللبنانية، في سياقٍ واحد، يُعرّي مضامينها، ويكشف أصلاً لبنانياً، يتمثّل بعنفوان وقدسية وقناعة (لا تُمسّ) بامتلاك حقائق وتاريخ وجغرافيا ووقائع، لن يملكها الطرف الخصم، أو الطرف العدوّ؛ بل ربما لن يحقّ له امتلاكها.

لن يكتفي المشهد بموسيقى وغناء وتوزيع ونكاتٍ تُقال بين أغنية وأخرى. فأكياس الرمل والزيّ الميليشياوي جزءٌ من تلك اللعبة الجمالية، التي يستدرج بديع أبو شقرا، إليها، جمهور المُشاهدين/ المستمعين، بل التي تدفعهم، معه، إلى المُشاركة العملية فيها، وهي المكتملة بلوحة بصرية تعرض صُوراً قليلة للغاية، عن أشكالٍ قديمة لمدن أو لمساحات، لكن الأهمّ فيها كامنٌ في صورة اللبنانية جورجينا رزق، ملكة جمال الكون (1971). كأن في ذلك تبيانٌ لاختلافِ أزمنة، ولتناقضِ مراحل وحالات، ولصدامٍ -خفيّ أو مبطّن- بين أشكال عيش وسلوك وثقافات.

والأغنيات متنوّعة بتنوّع أحزابٍ وميليشيات متناحرة، بعضها ضد البعض الآخر، في مراحل مختلفة من أعوام تلك الحرب الأهلية اللبنانية: الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل وحزب الكتائب اللبنانية وحرّاس الأرز والحزب الشيوعي اللبناني، وصولاً إلى الحالة العونيّة، المتحوّلة -سريعاً- إلى نسق ميليشياوي مجتزأ، لكنه مترفّع عن أحوال الميليشيات كلّها، لانبثاقه، في اللاوعي الجماهيري (على الأقلّ)، من مؤسّسة عسكرية، يُفترض بها أن تكون للّبنانيين جميعهم. أغنيات تجعل المستمعين إليها في حالة نشوة غرائزية مؤقّتة، لكنها ممسوكة بما يُشبه الوعي الراهن بفقدان المشاريع القديمة تلك أهميتها وسحرها ومعاني صراعاتها الدموية.

... وللكأس مكانٌ أيضاً

وإذْ يمضي بديع أبو شقرا وفرقته الموسيقية إلى أزمنة القتل والقهر والتهجير والخراب، عبر تلك الأغنيات المفعمة -قديماً وراهناً- بـ"رونق" إبداعي، يتلاءم ومشاريع الأحزاب والميليشيات حينها، إلاّ أنه (أبو شقرا) يختم سهرته بما يبقى "الأسلم" و"الأصدق" و"الأكثر واقعية وحقيقة" في الاجتماع اللبناني، طوال سنين مديدة: "يا زمان الطائفية". كأن الختام معقودٌ على تذكيرٍ بلا جدوى الصراعات، إنْ تبتعد الصراعات عن جوهر المسألة: إلغاء الطائفيات المختلفة، لمصلحة عقد اجتماعي وطني يحترم الخصوصيات والاختلافات، ويُديرها -في الوقت نفسه- عبر مُشتركاتٍ عديدة، متينة الصُنعة، بين الجميع. 

فبعد نحو ساعتين من الاستعادة المشوّقة لمراحل القتل والموت، عبر الأغنيات وأفكارها ومضامينها وحماستها، تأتي أغنية زياد الرحباني لتُغلق استذكاراً مطلوباً، لا لأمسية ضاحكة وجميلة فقط، بل أيضاً للتنبّه الدائم إلى ثراءٍ متنوّعٍ في أدبيات حربٍ أهلية لبنانية مريرة، يحتاج إلى قراءات مختلفة. إذْ تبقى "يا زمان الطائفية" أقرب النصوص إلى حقائق ووقائع العيش اللبناني، في يوميات التناحر والخصام والعداوات والانهيارات بين اللبنانيين.
من العرض
من "نِحْنا الاشتراكية" إلى "حَمْرا ومكتوبة بالنار"، ومن "الأشرفية البداية" إلى "عونك جايي من الله"، ومن "هزّة مدافعنا" و"حرّاس الأرز" و"نحنا جنود الحرية" و"نحنا نحنا الشيوعية" و"لاح العلم الأحمر لاح"، إلى "دَقّ الخطر" و"رجالك متل النار" و"من هاك الملعب" وغيرها، ترتفع رايات وأصوات، وتختلط أحلام بهواجس وكوابيس، ويصدح غضبٌ يتحوّل، في الأمسية، إلى سببٍ إضافي لضحكاتٍ، تجعل الذاكرة أجمل في مقاربتها، وتضع أسئلة الموت والدمار في سياق البحث عن معاني الماضي وتبدّلاته، وعن وقائع الراهن وتحوّلاته.

أمسية "كاس ومتراس" ـ التي تُتيح للكأس أن تتبوأ مرتبة أساسية في مساواتها مع متراسٍ، يبدو حاضراً، أيضاً، في مساحات اللحظة الآنية، وفضاءاتها الباهتة والكثيرة ـ تبقى أمسية مفتوحة على مرايا تعرية واغتسال، لا لبكاء أو ندب أو رغبة مجانية في ماضٍ يحضر دائماً، بل لمنع الأحوال اللبنانية من الاندثار من ذاكرةٍ، يُراد لها أن تبقى "مثقوبة".