«نار من نار»: وداعاً سينما الحرب

2018-01-17 07:00:00

«نار من نار»: وداعاً سينما الحرب
من الفيلم

من هذا السؤال، يولد فيلم «نار من نار» الذي يكشف لنا أنّ المشاهد الحقيقية هي وحدها العصيّة على التمثيل، وأنّ سينما الحرب ليست عن الحرب بل عن تزييفها. لذلك ربّما، قد تكون اللحظة التي شعر فيها أندريه بالنار تمتدّ إليه وتشعره بالعجز، هي اللحظة نفسها التي شعر فيها مارون بغدادي بأنّ عليه ألا ينجز فيلمه الأخير قبل أن يسقط عن الدرج، ويفارق الحياة والسينما.

“كلّ الأشياء التي نفعلها قد فعلها أبطال الروايات قبلنا”
ربيع جابر، «البيت الأخير»

كلّ شيء قابل للتصوير في “نار”. أندريه، المخرج اللبناني المقيم في باريس، يقدّم قصّته الشخصية بعد إجراء تعديلات لضرورات الإنتاج. نحن في بيروت ما بعد الاجتياح الإسرائيلي. تدور القصّة حول صديقين، محمّد (رامي نيحاوي) وإيلي (رودريغ سليمان)، وبينهما نادين التي تعيش مع إيلي، ثمّ تدخل علاقتهما في مرحلة معقّدة، فتقيم علاقة مع محمّد. جنس وخيانة وسهر وحب ومسلم ومسيحي وخطف وميليشيات في فيلم واحد. وفوق كلّ ذلك، تؤدّي دور نادين ممثّلة تدعى كامي (عديله بن ديمراد) تتكلّم العربيّة بلكنة فرنسيّة. يبدو الفيلم مثالياً للمنتجين والمشاهدين الذين سيتفرّجون على ذاكرتهم بعد إعادة توضيبها في فيلم يحوي كلّ الكليشيهات الفنية لسينما الحرب اللبنانية. 

لكن، مهلاً. كلّ شيء قابل للتصوير في “نار”، باستثناء مشهد واحد يستعصي على المخرج والممثّلين. ومن هذا المشهد الذي تعجز فيه الممثّلة الفرنسية عن أداء جملة في السيناريو، نكتشف أنّ شيئاً ما يؤرّق أندريه، وأنّ ثمّة ناراً أخرى هي غير نار الحرب الأهلية تشتعل في داخله، ومنها سيبدأ فيلم جورج الهاشم الذي لا يبدو مهتمّاً بالحرب نفسها، بل بلحظةِ ما بعدها. فكما يبدأ فيلمه السابق «رصاصه طايشه» بعد انتهاء حرب السنتين، يبدأ ”نار” بعد الاجتياح. ففي لحظة المابعد هذه، تتكثّف المشاعر الإنسانية، وتكتسب الحرب معناها، وتتولّد من نارها نار أخرى تصيب الممثّلين والمشاهدين معاً.

“بحبّك. بخاف عليك قد ما بحبك. متل ما حبيتني مبارح كتير انبسطت بس بعدين ما قدرت نام. طلعت عبالي بس ما استرجيت وعّيك. قرّبت لحدّك عمهلي ونطرت لإنت وعم تبرم يجي جسمك عليي وحبيتك لوحدي”. لماذا لم تتمكّن الممثّلة الفرنسية من أداء هذه الجملة؟ 

من هذا السؤال، يولد فيلم «نار من نار» الذي يكشف لنا أنّ المشاهد الحقيقية هي وحدها العصيّة على التمثيل، وأنّ سينما الحرب ليست عن الحرب بل عن تزييفها. لذلك ربّما، قد تكون اللحظة التي شعر فيها أندريه بالنار تمتدّ إليه وتشعره بالعجز، هي اللحظة نفسها التي شعر فيها مارون بغدادي بأنّ عليه ألا ينجز فيلمه الأخير قبل أن يسقط عن الدرج، ويفارق الحياة والسينما.


البيت الأخير

ففي كانون الأوّل ١٩٩٣، عاد المخرج اللبناني مارون بغدادي من باريس إلى بيروت حاملاً فكرة فيلمه «زوايا» الذي تدور أحداثه حول طبيب لبناني يعود إلى بيروت لينتقم من قتلة أبيه. لكن خلال رحلة بحثه عن القتلة، يزور الطبيب العائد، واسمه مروان، صديقه ورفيقه السابق في منظمة العمل الشيوعي، زياد، الذي قرّر العودة إلى القرية وإلى إيمانه الدرزي. يقول زياد لمروان إنّ بحثه عن القتلة ليس إلا “مراهقة رومانسية” وأنّه لو كان يملك فعلاً “نداء الدم” هذا، لما غادر لبنان أصلاً. وبالفعل، سرعان ما يكتشف مروان استحالة مشروعه الانتقاميّ في فيلم كان ليبدو منسجماً مع أجواء التسامح والنسيان في بيروت الخارجة لتوّها من حروبها الأهلية.

لم يبصر فيلم «زوايا» النور. ربّما لأنّ مارون بغدادي سقط عن الدرج ومات بعد أيّام من عودته إلى بيروت. وربّما لأنّ مارون تخلّى عن فكرة الفيلم قبل سقوطه عن الدرج. الرواية الأولى هي التي شاعت في الصحف. الرواية الثانية صدرت باسم «البيت الأخير» في العام ١٩٩٦ بتوقيع ربيع جابر. يبدو جابر في روايته غير معجب بفكرة فيلم مارون، لكنّه مع ذلك أو بسبب ذلك، قرّر إنقاذ الفيلم أو إنقاذ مارون من فيلمه هذا. فأخرج زياد من إيكزوتيكيّته، وأعطاه لبوساً كافكاوياً، واقترح ألا يكون الفيلم سياسياً، وألا يستسهل اللجوء إلى العناصر المتوقّعة من المشاهدين والمرغوبة من المنتجين: ميليشيات وخطف، ثمّ تسامح وتوبة. في الواقع، ما اهتمّ به جابر من سيناريو «زوايا» هو علاقة مروان بزياد، أو علاقة مارون بـ“ك” في «البيت الأخير». هكذا يتلو مارون في نهاية الرواية فعل الندامة قبل موته، فيقول في نفسه مخاطباً “ك”: “أعرف ما فعلتُ، لقد أفسدتُ عليكَ حلمك. كنتَ تريد فيلماً عن حياتنا، فلم أقبل إلا بفيلم مزيّف عن حياة لم أعشقها إلا كذباً. الآن، أعرف. نعم الآن أعرف”.

لكن، في نهاية الأمر، ليست الأفلام والسينما ما يؤرّق ربيع جابر، بل الرواية. يقترح “ك” على مارون فيلماً يقتبس رواية «الظلّ والصدى» ليوسف حبشي الأشقر، “رواية حربنا، حرب السنتين وما بعد هذه الحرب”، أي أن يكون فيلماً عن العلاقة بين بطلَيْ رواية الأشقر: اسكندر الحمّاني ويوسف ابن خليل. لكنّ مارون يلغي من السيناريو شخصية اسكندر الساحرة والمحوريّة “لأننا لا نستطيع أن نجد تمويلاً لفيلم فلسفي أبطاله من لبنان”. رغم ذلك، يوافق “ك” على كتابة السيناريو من دون توقيعه، ثمّ يختفي تاركاً لمارون اختيار أي روائيّ لبناني لصياغة حوارات الفيلم، في استخفاف صريح من ربيع جابر بمآل الرواية اللبنانية والروائيين اللبنانيين. وهكذا يكون جابر قد استخدم شخصية مارون ليكتب رواية عن الصداقة والعلاقات الإنسانية المعقّدة التي تشكّل الحرب خلفيّة لها ومناسبةً لتكثيفها، معلناً انتسابه في ذلك إلى تراث يوسف حبشي الأشقر، ومتبرّئاً من رواية الحرب اللبنانية. 

نداء النار

كما تنسج «البيت الأخير» رواية داخل رواية، يقدّم «نار من نار» فيلماً داخل فيلم. بقليل من المجازفة، يمكن القول إنّ مارون لو لم يتسلّل إلى غرفة “ك” ويقرأ يوميّاته والتعليقات التي كتبها في هوامش رواياته، لجاء فيلمه قريباً من “نار”. وتماماً كما أنقذ “ك” مارون من فكرة فيلمه، ظهر وليد لينقذ أندريه من “نار”. لكن، هذه المرّة، يأتي الإنقاذ بعد فوات الأوان، أي بعد نزول الفيلم إلى الصالات. فبعد العرض الأوّل لـ”نار” في معهد العالم العربي في باريس، يلمح أندريه طيف وليد. وهنا يبدأ الفيلم الذي اقترحه “ك”. فيلم عن الصداقة بين أندريه ووليد. أندريه الذي غادر لبنان وصار مخرجاً في باريس واعتقد أنّ صديقه وليد قد مات بعدما أحرق القصف منزله، ووليد الذي لم يمت بل هاجر إلى كندا بعدما ماتت أميرة بعد صراع مع السرطان. 

أندريه الذي لم يستطع أن يصبح وليد في الواقع، جعل من نفسه وليد في الفيلم. هذا أيضاً ما جرى لمارون الذي دخل غرفة “ك” بعد اختفائه، وتصرّف كأنّه “ك” نفسه، لبس ثيابه، وأكل طعامه، وأصيب بالصداع مثله، واكتسب أمراضه الجلدية، وصولاً إلى لحظة النظر في المرآة ليلمح وجه “ك” لا وجهه هو. وهذا أيضاً ما جرى مع يوسف في السجن حين ظلّ يكتب عن اسكندر حتّى أصبح اسكندر نفسه. 

لكن، ما هو هذا النداء نحو التحوّل؟ هل هو نداء النار أم نداء الحفرة؟

“- ك: أنت تتغلّب على ذلك الاحساس بأنّ العالم مزيّف، وبأنك أنت أيضاً مزيّف، وتخرج من تلك الحفرة وتمشي وتذهب وتصنع فيلماً أو تشتري سيارة أو تصادق أحدهم أو لا أعلم ماذا. إنّك كائن عملي وقادر على السيطرة على نفسك وعلى هذه الأشياء.
- مارون: وأنت؟
ك: أنا لا. أنا لا أريد أن أصعد من الحفرة. الحفرة تعجبني. الحفرة جيدة. الحفرة هادئة”.

في “نار”، ينتهي النداء بموت إيلي. الجنّاز الماروني الذي ينتقل من «رصاصة طايشة» إلى «نار من نار» يبدو وكأنّه ينهي الحكاية ببقاء محمّد وحيداً، محمّد الذي تقول لنا طائفته إنّه يمثّل شخصية وليد، وتقول لنا حياته إنّه يمثّل أندريه. انتهت عملية التحوّل مع موسيقى “زاد ملتقى” التي فارقها التوتّر القلِق الذي يسود طيلة الفيلم لتصوغ تنويعات على الألحان الجنائزية السريانية. 


الخلاص المستحيل

لكنّنا لسنا في فيلم “نار”. نحن في “نار من نار”. وهنا، لن تتكرّر حكاية «البيت الأخير». لقد جرّب أندريه هذه اللعبة. أعاد رواية حياته في “نار” كما لو أنّه وليد لا أندريه. لم يسرق حياة وليد وحسب، بل سرق من بيته أيضاً اللقطات التي صوّرها بعد خراب وسط بيروت، كما سرق اللقطات التي تظهر فيها حبيبته أميره وهي تردّد جملة: “بحبّك. بخاف عليك قد ما بحبّك”، لكنّه عجز عن إعادة تصويرها. جرّب أندريه أن يصبح وليد، ولم يقدر. لم يتمكّن من التغلّب على الإحساس بأنّ العالم مزيّف. شعر بزيفه وزيف العالم في اللحظة التي عجزت فيها الممثّلة الفرنسية عن أداء ذاك المشهد. لكنّه، رغم ذلك، لم يوقف الفيلم.

فالخيار لم يعد بين الحفرة والزيف. بين مارون و”ك”. بين اسكندر ويوسف. لذلك، ربّما، لم يختفِ “ك” ليظهر مارون، ولم يمت مارون ليظهر “ك”، بل اختار أندريه المواجهة. حين لمح طيف وليد في افتتاح الفيلم، أصرّ على دعوته إلى سهرة الاحتفال، وهو يعلم تماماً ما يفعله. فأندريه يعرف أنّ النار لم تحرق البلد وتمضي. أنّ ناراً أخرى ما زالت تتوالد منها. وهي نار لن تُخمَد. نار لا نرى لهباً لها، لكنّنا نراها في عينَيْ وجدي معوّض (أندريه) وفادي أبي سمرا (وليد)، وفي التعابير المسرحيّة للوجوه الآسرة. هي نار اسكندر الحمّاني في متاهته. نار يوسف حبشي الأشقر الذي تحوّل إلى اسكندر لشدّة ما كتب عنه، قبل أن يتعب ويقتله.

كأنّ أندريه، بعد النجاح الذي حقّقه، أراد أن “يخرج من الخزانة”. أن يشهر حقيقة النار التي تأكله كما يتجرّأ مثليّ على إشهار مثليّته بعد طول إخفاء. وربّما كان هذا ما جرى حرفياً لا مجازياً وحسب خلال لحظة المواجهة نفسها، حين باح وليد لأندريه بجملة أميره: “بحبّك. بخاف عليك قد ما بحبّك”. لكنّنا لا نعرف بالضبط، لأنّنا لسنا في “نار” بل في “نار من نار”. تماماً كما لا نعرف إن كان “ك” نفسه مثلياً. فالنار تحرق تحديداً لأنّنا لا نعرف.

اختار أندريه أن يبوح بالنار التي تأكله. النار التي تمنعه من أن يكون أندريه، والتي تحُول دون تحوّله إلى وليد. حين يغادر وليد الحفل، ويركض أندريه محاولاً اللحاق به، يوقف اندفاعَته نباح مجموعة من الكلاب. في تلك اللحظة التي تظهر فيها كلاب «نار من نار»، نعرف أنّ لحظة البَوْح قد آنت، كما عرفنا حين أصيب الكلب في نهاية فيلم «رصاصة طايشة» أنّ نهى لن تموت، لكنّ كلّ شيء قد انتهى.

“وليد: فوت نام
انت بتفلّ؟
لأ بجي لحدّك غفّيك
- بتقتلني أنا ونايم؟
أقل ما في إني إقتلك. كل الوقت ناطرني إتلقّط بخوانيقك وشدّ حتى تطلع روحك. هلأ بطّلت؟ ولا بطّلت مشتقلي.“

يعرف الاثنان أنّ أحداً منهما لن يتمكّن من قتل الآخر، وأنّ النار لن تخمد لأنّ كلاهما شهد على النار الأولى، كما شهدت نُهى في «رصاصة طايشة» ولم تمت. وحدهم الذين لم يروا يموتون. أمّا الذين رأوا، فلهم حياة نارٍ من نار يشعل فيها أندريه نار وليد، ويشعل فيها وليد نار أندريه، وهكذا كما تدور قرعة المتّه في «البيت الأخير».

“وليد درزي؟”، يسأل النادل في الحفل. ويبدو سؤاله كأنّه يريد الاستفسار إن كان وليد كزياد في «زوايا» أو مثل “ك” في «البيت الأخير»، فتأتيه الإجابة بالنفي. فتبدو لادرزيّة وليد إشارة إلى عدم قدرته على إنشاد الخلاص بالعودة إلى الجذور التي لا تنبت في السماء. 

فلم نعد في النصف الأوّل من التسعينات. لقد بتنا نعرف أنّ ما من خلاص. ففي «البيت الأخير»، وجد “ك” خلاصه في العودة إلى القرية ليعيش بين رواياته هناك، محقّقاً الحلم المستحيل لاسكندر يوسف حبشي الأشقر الذي قُتِل على باب المقبرة في قريته. في «نار من نار»، انتهى زمن اللجوء إلى قرنايل أو إلى كفرملات. البطلان الخارجان من الحرب الأهلية باتا في باريس أو في كندا. انتهت اللعبة، وما بقي من الحرب هو نارها التي ما زالت تحرق البطلَيْن كما المتفرّجين عليهما على الشاشة الكبيرة والمتسائلين: هل تحرقنا هذه النار أم أنّنا نتفرّج عليها؟


نورٌ من نور

في «البيت الأخير»، لاعبَ جابر الذاكرة على نحو مختلف لينتج رواية لبنانية جديدة. في «نار من نار»، الذاكرة تلاعب الحاضر بعدما تلاعب الحاضر بها. عودة وليد وإفساده للاحتفال هو إفساد للعروض التي تُقدّم منذ عقود عن الحرب اللبنانية. هو الماضي الذي لم يمضِ، الآتي إلى الحاضر ليسائل أندريه الذي استولى على الذاكرة وأعاد توضيبها على هواه. 

بين نار الحرب التي نراها متجسّدةً في حركة رامي نيحاوي ورودريغ سليمان، ونار الحاضر المتّقدة في أداء وجدي معوّض وفادي أبي سمرا، تظهر أميرة في المشهد الأخير. تظهر كما صوّرها وليد في ذاك الشريط القديم، نوراً من نور. لكنّها الآن هنا في شقّة أندريه الباريسية التي تحوّلت نوافذها الزجاجية إلى شاشات تحتلّها صور الماضي، قبل أن تتحوّل الشقّة نفسها إلى الشقّة التي التهمتها النيران في بيروت. إنّه المشهد الحقيقي الوحيد. المشهد الذي سبق لأندريه أن شاهده، ولذلك لم يتمكّن من إعادة تمثيله. وهل يمكننا أن نمثّل مشهداً حقيقياً؟ ألم يُوصِ يسوع تلاميذه، وهم نازلون من الجبل، قائلاً: «لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ»؟