حزامة حبايب: مازلتُ في طور الشغف

2018-01-20 15:00:00

حزامة حبايب: مازلتُ في طور الشغف

وهناك من صارحني بأنني لعلني قسوت على المخيم الفلسطيني.. وأنه كان حرياً بي ألا "أعريه" أو أكشف "عوراته" للآخر.. مثل هؤلاء الحالمين، ممن يروجون لأفكار من نوع: "المخيم مصنع الرجال"، يغفلون عن أن "أسطرة" الفلسطيني والإصرار على "البطولة الجوفاء" ألحقت ضرراً بالقضية المركزية كما أضرت بالأدب الفلسطيني، فالأسطرة تجردنا من الشرط الإنساني، وغياب الشرط الإنساني يعني غياب شرعية الحياة.

عُرفت الكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب في تسعينات القرن الماضي كواحدة من أبرز كتّاب القصة في الأردن وفلسطين، ضمن جيل السرد التسعيني. وبعد أربع مجموعات قصصية، كرّستها كصوت مميز في المشهد السردي العربي، نشرت روايتها الأولى «أصل الهوى» في العام 2007، وهي رواية حظيت باهتمام نقدي لافت. وفي العام 2011، نشرت حبايب روايتها الثانية «قبل أن تنام الملكة»، التي وصفها نقاد باعتبارها ملحمة روائية تتناول اللجوء الفلسطيني، واختارتها صحيفة "الغارديان" البريطانية ضمن أفضل قراءات العام 2012. وفي العام 2016، نشرت روايتها الثالثة «مخمل»، التي نالت عنها جائزة "نجيب محفوظ للأدب" للعام 2017. وكانت ضيفتنا قد نشرت في العام 2009 إلى جانب أعمالها القصصية والروائية، مجموعة نصوص شعرية بعنوان «استجداء». معها في هذا الحوار الذي خصت به "رمان" تحدثت حزامة حبايب عن روايتها «مخمل» وعوالم كتابتها، وعن الجائزة "المفاجأة"، وعن منجزها الروائي ومفهومها للأدب "الملتزم" وأدب الشتات، دون إغفال سؤال كيف تناول النقّاد تجربتها الأدبيّة؟.

نبدأ من حدث فوزك مؤخراً بجائزة "نجيب محفوظ للأدب" عن روايتك الأخيرة «مخمل». هل كان لديك شعور داخلي بأنك الأجدر وبأنك ستظفرين بهذه الجائزة؟ 

تلقيتُ نبأ فوز «مخمل» بالجائزة من خلال اتصال أحد أعضاء لجنة التحكيم بي، قبل نحو شهرين من إعلان الخبر، وتفاجأت تماماً. شخصياً، لم أتوقع أن تفوز «مخمل» بالجائزة التي أعتبرها -شخصياً- الأرفع عربياً لأنني -ببساطة- لم أرشّح نفسي لها، وكنتُ اختيار لجنة التحكيم، وهو أمر بصراحة ملأ قلبي بسعادة غامرة، لا لأنني أتوق للفوز بجائزة أو أحظى بتكريم أدبي ما، وإنما لأن الجائزة والتكريم طرقا بابي في لحظة لم أتوقعها ولم أنتظرها ولم أذهب إليها، بل الجائزة هي التي أتت إليّ؛ حتى إن لجنة التحكيم لم يكن لديها رقم هاتفي أو عنواني أو إيميلي للتواصل معي بصورة مباشرة، فتواصلوا في البداية مع صفحة الفيسبوك الخاصة بالمتابعين لي، ومنها توصلوا إلى إيميلي. نعم.. فرحتُ بالجائزة كثيراً، وأعتبرها فوزاً مستحقاً، وهي تثبت لي شيئاً ظللتُ قابضة عليه، وهو أن التقدير الحقيقي، البعيد عن الاستعراض والحسابات والتوقعات، ما زال له مكان وسط كل هذا "الضجيج" الاحتفائي، على الأقل لدى أقلية مخلصة للقيمة الأدبيّة الحقيقية للعمل الروائي وللأصل الذي وُجدت الكتابة له ومن أجله. 

وفي ما يتعلق بتوقيت الجائزة، وما إذا كانت تأخرت أم لا، فإن هذا الأمر لم يشغل ذهني، كوني لم أفكّر بها أبداً.
 

من منظورك ككاتبة، إلى أي مدى تساهم الجوائز في صناعة الروائي/ة وتطوير تجربته/ا وترويج اسمه/ا؟ ومن ثم كيف ترين تأثير مثل هذه الجوائز في حركية الرواية العربية؟

لا أحد ينكر أهمية الجوائز في إضاءة أعمال روائية أو أدبية بحد ذاتها، خاصة إذا كان العمل -لسبب من الأسباب- غائباً أو مغيّباً نقدياً أو قرائياً، أو صاحبه متوارياً عن "الرادارات" الدعائية. وفي السنوات الأخيرة، دخلت المشهد الأدبي العربي، وتحديداً المشهد الروائي، جوائز كثيرة خلقت -ولا تزال- جدلاً لا ينقطع بين "مع" و"ضد". ومع المغريات المادية التي تقدمها بعض هذه الجوائز، إلى جانب "الوعود" بالترجمة إلى لغات عالمية، نشط سوق الرواية العربية، واشتغلت "ماكينة" الكتابة والنشر على نحو وفّر دفقاً غير مسبوق بالمنتج الروائي.

ومع الإقرار بالحيوية التي أضفتها هذه الجوائز في المشهد الأدبي من جهة، على نحو فتح باباً واسعاً للتجريب بكل أنواعه وقدم أصواتاً روائية جديدة بات لها حضور؛ فإنها من جهة أخرى قد تكون عاملاً مشوشاً ومربكاً وسط غزارة روائية لم تخلُ من ضحالة واستعجال. ومع غياب "أسس" واضحة ومحددة للاختيار لدى معظم لجان تحكيم الجوائز والاستناد في الغالب إلى "ذوق" شخصي لا نقدي، فإن عدداً كبيراً من الأعمال الروائية المهمة في الساحة الأدبيّة تعرضت لظلم فادح، وتخطتها الجوائز بطريقة مجحفة، على حساب أعمال لا تستحق. والسؤال هو: هل الجائزة هي التي تعطي العمل الروائي قيمةً؟ برأيي إن الأمر مرهون بكل من الجائزة والعمل نفسه؛ فثمة جوائز، بغض النظر عن جزالة مكافأتها، لا تنطوي على قيمة أدبية كبيرة، وغالباً ما تفشل في تقديم أعمال مهمة أو ذات ثقل؛ وثمة جوائز وجاهتها مكتسبة من مصداقيتها وموضوعيتها، وقدرتها على تجاوز أي حسابات أو مصالح مغلّبةً السوية الأدبيّة والقيمة الفنية والجمالية الأصيلة فوق أي اعتبار آخر. وحين يأتي تقدير للعمل من جهة رفيعة أو معتبرة، فإن الجائزة تضيف للعمل بمقدار ما يضيف العمل نفسه للجائزة. في جميع الأحوال، هذه المسألة متروك حكمها للتاريخ. الزمن وحده سوف يُبقي على أعمال وسوف يُسقط أعمالاً بصرف النظر عن أي جائزة نالها عمل أو حُرم منها آخر.

هل تكتب حزامة حبايب بعيداً عن شروط النشر التي باتت في معظم الأحيان خاضعة لأهواء لجان الجوائز الأدبيّة ومتطلباتها؟

لم أكن معنيّةً يوماً ما بالجوائز الأدبيّة، ولم تكن لتشكل أي هاجس بالنسبة لي. فأنا أكتب لأكون بوجه من الأوجه، لا لأفوز. أكتب كي أصنع اختلافاً، لأطرح أسئلة (غير معنية بالحصول على إجابات لها بالضرورة)، وكي أؤثّر ما أمكنني التأثير. أعرف أنني قد أكون مستفزة دون أن أتقصد ذلك؛ ولا أخشى أن أقول ما يعتقد دعاة "السترة" المزعومة بأنه لا يجب أن يُقال في العلن الروائي (غاضين الطرف عن قوله أو ممارسته في الخفاء)؛ وأعرف أنني أثير غضب البعض ونقمة البعض وادعاء الخجل لدى البعض. وعليه، لا أعمل حساباً لجائزة أو لمتطلباتها أو لشروط نشر بعينها. أنا هو ما أنا عليه، وأنا هو ما أكتب.

ماذا تمثّل لك «مخمل».. هذه الرواية المتوّجة بشكل خاص ضمن مشروعك الروائي؟

مشروعي الروائي هو جزء من مشروعي الأدبي ككل. منذ أن وضعتُ خطواتي الأولى في طريق الكتابة الشاق والطويل، وتحديداً منذ ظهور أول عمل قصصي لي، أعتبر نفسي بأنني ما زلتُ في طور الشغف والانبهار بالمشاعر الأولى؛ ذاك الشغف الذي يجعلنا نتعامل مع كل عمل كأنه الأول والأخير. كل عمل أدبي له مكانة خاصة في تجربتي وفي تاريخي. أحبّ أن أعتقد أنني في كل عمل أضيف شيئاً جديداً ومختلفاً لإرثي الشخصي، ككاتبة، وللتجربة الإبداعية الإنسانية ككل، وأنني أبني -في كل مرة- على هذا الإرث. وأحبّ أن أعتبر أن مشروعي الروائي يأخذ منحنى تطورياً، بمعنى التطور النوعي لا الكمي.

«مخمل» تجربة مختلفة على أكثر من صعيد في مشروعي؛ يمكنني القول بأنها ربما التجربة الأكثر انغماراً عاطفياً -وحتى جسدياً- بالنسبة لي؛ على مدى أكثر من عامين ونصف العام وأنا أشتغل عليها بمعنى البحث والإعداد النفسي، وتجهيز البيئة المخصصة للكتابة (ففي كل عمل أكتبه هناك فضاء خاص به، أهيّئه فقط من أجله). ولا أبالغ في القول إنني، من أجل «مخمل»، بنيت داخل بيتي ما يشبه فضاء مكانياً تجمعت فيه معظم عناصر المخيم، بالطرقات الضيقة والأزقة المتربة، ووجوه المخيم التي حوطتني -أثناء الكتابة- من كل الزوايا، وغرفة الخياطة المليئة بسلال الأقمشة الموزعة في كل ركن فيها، علماً بأني اقتنيتُ كميات كبيرة من مختلف أنواع القماش، بما في ذلك المخمل بألوان وأنواع عدة، حيث زرتُ العشرات من محال الأقمشة، واكتشفت أثناءها الروائح الثرية للأقمشة وقابليتها المدهشة للتغلغل في الحواس، حد الإثارة أحياناً.. وهذا بحد ذاته شعور لا يوصف. وعلى مدى شهور، لم أتوقف عن الكتابة، ضمن وتيرة محمومة أحياناً، لاهثة، وأخرى بطيئة أو متكاسلة، حسب المزاج العام ضمن مناخ السرد. وفي يوم، تراني أقبل على الكتابة بشوق غير متهيّبة، وفي يوم آخر أقارب النص المفتوح على احتمالات عدة بخوف، وأحياناً تأتيني الأفكار سهلة وأحياناً أخرى متمنعة، وهكذا.. في نمط يشبه سير الحياة.. بل هو الحياة ذاتها. كتابة «مخمل» كانت أقرب إلى عيش حياة عريضة، والانغماس في تفاصيلها حد التماهي التام.
 

ترصد «مخمل» معاناة النساء داخل مخيم البقعة حيث حوّا، البطلة الرئيسية في الرواية، والتي تعاني من وحشية الأب وخنوع الأم فتجد في بيت الست قمر الشامية حصناً لها وملاذاً من عالم يعج بالكراهية، ما يجعل من حياة حوّا سلسلة من الشقاء المتواصل.. ما الذي أملى عليك هذه الحكاية تحديداً؟

كحكاية، «مخمل» لم تكن وليدة فكرة وإنما نتاج إحساس عارم، أو بالأحرى فيض من المشاعر التي قبضت على كياني تماماً. أعتقد أن «مخمل» تخلّقت من حالة هيام.. عشق تام. ورغم هيمنة العنف والكراهية في الرواية التي تدور أحداثها في بيئة المخيم الخشنة، فإن «مخمل» في المبتدأ كما المنتهى هي قصة حب، في أكثر صور الحب توقاً وانغماساً وولعاً وارتقاء بالذات؛ ذات ”حوا“ بطلة الرواية، وذات ”قمر“ التي لا تقل وهجاً وتوقاً عن ”حوا“، وذات ”درة العين“ البطلة الجميلة التي تبدو حكايتها كأنها مشتقة من حكاية خرافية. وفي النهاية، ورغم كل شيء، وغصباً عن كل شيء، فإن الحب، حتى وإن بدا متخيلاً ونائياً وعصياً على التحقق، هو الذي ينتصر. في «مخمل» الجسد قد يُسحق، لكن الروح أبداً لا تُهزم. هذا ما تعنيه «مخمل» لي، وأتمنى أن يرى الآخرون ذلك.

في «مخمل» أنتصر للعشق الذي يصمد في وجه قسوة المجتمع وفساده وانحطاطه. (حوا) تجسيد للحياة التي يُراد لها أن تكون وأن تبقى وأن تنهض رغم القهر السائد، وهي امرأة جميلة تصون روحها وتحمي كيانها الجواني من التشوّه أو التحطم، حتى وإن اقتضى الأمر أن تضحي بـ"لحمها وشحمها" متعرضة لكل أشكال العذاب الجسدي في سبيل ذلك. ونساء «مخمل» في المجمل يحضرنّ في الرواية بقوة، وهنّ فاتنات، معذَبات ومعذِبات، وللقارئ أن يتماهى معهنّ، وقد يبغضهنّ، لكنه لا يستطيع إلا أن يتعاطف معهنّ، فحتى أعتى نساء «مخمل» وأشرسهنّ يستدعينّ عطفنا حين يتهاوى وجودهنّ.

لو طُلب منك إعادة كتابة هذه الرواية الآن، هل ستحذفين أو تضيفين عليها شيئاً ما؟

كلّا. في الحقيقة لم أفكر يوماً بإعادة كتابة أي من أعمالي أو حذف مقطع أو إضافة شيء.. برأيي ما نكتبه هو مقتطف -في حينه أو في لحظة الكتابة إياها- من تاريخنا، ومن تجربتنا الأدبيّة والشخصيّة ومن السياقات العاطفية والنفسية آنذاك.. وحين نتحدث عن "تجربة" ما فهي تعني اختبار وتحول وتجريب بالضرورة، والكتابة في هذا السياق اختبار يومي، وفي كل مرة نكتب فيها فإننا نخوض اختباراً جديداً، لا الاختبار ذاته. وإذا كان لا بد من حذف أو إضافة، فإن هذا ما نقوم به في أعمال لاحقة عبر مقاربات متجددة ربما لطرح سابق أو اجتراح طروحات ومقاربات جديدة. 

يلجأ البعض من الأدباء والأديبات للكتابة قصد الخلاص من آلامهم/ن، أو للبوح بأحزانهم/ن، تُرى لماذا تكتب حزامة حبايب؟

منذ زمن، تحولت الكتابة إلى حياة بالنسبة لي، بمعنى القدرة على العيش من خلال الكتابة. حتى في اللحظات التي يبدو فيها كل شيء عبثياً أو غير مفهوم، فإن الكتابة -بالنسبة لي- تمنح وجودي سبباً من نوع ما، حتى وإن لم يكن مقنعاً تماماً. نعم.. أعتقد أن الكتابة -بصورة من الصور- حصّنتني من اليأس. ومع ما يُروّج عني -وسط دائرة معارفي- بأني "قوية" و"صلبة"، فإن في داخلي هشاشة مرعبة، وقلقاً مستبداً، وشعوراً مستداماً بالتهديد. وإذا كانت الكتابة لا تلغي هذه المشاعر أو تقضي عليها تماماً، إلا أنها تحيّدها، "تزيحها" من الطريق أمامي، وترميها في نقطة بعيدة في قعر الذات، فلا تُستدعى إلا كل حين وحين. ونعم أيضاً.. فالكتابة في حياتي متكأ، يحول دون سقوطي في فخ الاستسلام لمسميات كـ"العادي" و"المألوف" و"الطبيعي". والكتابة تجعلني أكثر إنسانية، أقل نقمة، وأقل مرارة، وأقل ميلاً لإطلاق الأحكام. وربما الأهم أنه في لحظة الكتابة، في لحظة الخلق هذه المشوبة بكل أنواع العاطفة، أكون أصدق ما يمكن مع نفسي.

كيف ترين معايير النّقد الأدبي اليوم؟ وهل أعطى النّقد تجربتك الأدبيّة حقها؟

لا أعتقد أن هناك معايير نقديّة واضحة، أو "مُجمع" عليها.. معظم القراءات التي تتناول الأعمال الروائيّة والأدبيّة عموماً، أقرب إلى قراءات انطباعية منها إلى نقديّة مبنية على أسس معينة. هذا النوع من القراءات نشط في ظل غياب منابر نشر نقديّة محكّمة، ومع انقراض ظاهرة المجلات والملاحق الأدبيّة التي اتسمت بحد أدنى من السوية، تحولت الصحف والمواقع الإلكترونية إلى منبر شبه وحيد لنشر قراءات متعجلة. بيد أن هذا الأمر لا يعني غياب قراءات نقديّة مهمة، حتى وإن كانت محدودة، تعكس مقاربة تحليلية لافتة تنطوي على جدية.

شخصياً، أعتبر أن تجربتي نالت قسطاً جيداً من المتابعة النّقدية، خاصة من جانب أسماء مشهود لها بتجردها وجديتها ونأيها عن المزاجية.. وثمة قراءات نقديّة شكّلت إضاءة إضافية لي أنا شخصياً، بحيث فتحت عيني على أشياء لعلها كانت في اللاوعي. مثل هذه القراءات والمتابعات تشكل حافزاً إضافياً لي كي أظل على الطريق الذي اختطيته لنفسي: طريق الاختلاف والبحث عن الجديد وصنع الفرق مهما يكن.

إلى أي مدى يمكن أن يؤثر الالتزام السياسي بفكر أو قضية ما على الناحية الجمالية أو الفنية للعمل الإبداعي، خاصة وأن هناك نقاداً يتهمون "النصّ الفلسطينيّ" بأنه مباشر وانفعالي؟

هذه نقطة والحق جدلية.. فـ"الالتزام السياسي"، بمعنى النقاء التام، ومفهوم "الأبيض والأسود" الفجّ، والطرح المباشر والتنظير الأخلاقي المتعنّت، كثيراً ما يتحول إلى مفسدة.. مفسدة للفكر والعواطف، كما أنه حتماً يقود إلى شكل من أشكال "القصدية" التي هي بالضرورة منافية للإبداع، ومعيقة للشرط السردي، الذي يفترض أن يكون حراً بطبعه، متحرراً من ربقة الأدلجة، ومنفتحاً على المفاجآت بالمعنى الفني والإنساني.

شخصياً، واجهتُ في البداية بعض الأصوات المنتقدة، بنفس هجائي، بسبب ما اعتبروه أنني تعمّدت تجريد الفلسطيني من هالة البطولة التي يحملها! فالفلسطيني، كإنسان، يفترض أنه "غير قابل للفساد"، وأنه لا وقت لديه للحب والعشق، ناهيك عن إقامة علاقات "محرّمة" في وقت القضية الفلسطينية تحتاج فيه إلى أبنائها الأطهار الأنقياء! حتى «مخمل» شكلت صدمة للبعض. وهناك من صارحني بأنني لعلني قسوت على المخيم الفلسطيني.. وأنه كان حرياً بي ألا "أعريه" أو أكشف "عوراته" للآخر.. مثل هؤلاء الحالمين، ممن يروجون لأفكار من نوع: "المخيم مصنع الرجال"، يغفلون عن أن "أسطرة" الفلسطيني والإصرار على "البطولة الجوفاء" ألحقت ضرراً بالقضية المركزية كما أضرت بالأدب الفلسطيني، فالأسطرة تجردنا من الشرط الإنساني، وغياب الشرط الإنساني يعني غياب شرعية الحياة.

إن الأدب "الملتزم" هو الأدب الذي يعلي القيمة الإنسانية في الأساس؛ يحتفي بالبشريّ، ويقر بالهزيمة، ولا يخجل من الضعف والانكسار، ولا يستحي من العري -عري النفس والجسد- ولا يدفن الرغبات، ولا يواري الخوف والهواجس، ولا يدعي البطولة في غير موقعها. ولعل أسوأ أنواع الأدب "الملتزم" هو ذاك الذي يتحول إلى بوق للتنظير ويصبح مطية للطروحات الشعاراتية، على حساب القيمة الجمالية والفنية للأدب.

لست طبعاً ضد الأدب الذي يتعامل مع القضية الفلسطينية كحق أخلاقي، والالتزام بهذا الحق، والتعبير عنه بفنيات عالية، بعيداً عن المباشرة، ولدينا في "أدب المقاومة" نماذج ملهمة، من بينها تجربة غسان كنفاني الرائدة، من خلال أعمال قصصية وروائية برعت في تقديم الجانب الإنساني للفلسطيني بظلال لونية بالغة التنوع والثراء، وبعيداً عن إطلاق الأحكام الانفعالية.

هل ترين اختلافاً بين كتابات جيل الأدباء العرب في الداخل الفلسطينيّ المحتل والأدباء الفلسطينيّين في الضفة الغربية وغزة والشتات والمنافي البعيدة؟

أعتقد أن الأدب الفلسطيني يتمتع بتنوع كبير في التجربة، وأكيد ثمة اختلاف من تجربة لأخرى، حسب مقتضيات الظرف السياسي والجغرافي، والتجربة الفردية بموازاة التجربة الجمعية، وهكذا. فحين نتحدث عن الأدب الفلسطيني في الشتات مثلاً، فإن هذا التصنيف تندرج تحته تصنيفات فرعية لها علاقة ببيئات الشتات، والتركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه البيئات، ولغات هذه الشتات (فثمة تجارب سردية وشعرية فارقة لأديبات فلسطينيات مثلاً كتبن باللغة الإنجليزية). هذا التنوع الجغرافي وما ينضوي تحته من نسيج فكري وثقافي من نوع خاص أسهم بلا شك في إنتاج كتابات بعضها تركت أثراً بيناً في المنجز الأدبي الفلسطيني، وفي المنجز الأدبي الخاص ببيئة "الإقامة" أو ”اللجوء".

وليس غريباً أن يحظى أدب الشتات بقابلية انتشار أكبر من أدب الداخل الفلسطيني، لأسباب عدة، من بينها حرية الحركة -نسبياً- للكاتب والكتاب في دول اللجوء، وانفتاح أدباء الشتات على تجارب عربية وعالمية من خلال الاحتكاك المباشر، وغِنى وتنوّع بيئات الشتات، وهو غنى أسفر عن تنوع في الموضوعات والمقاربات. في المقابل، لا يزال أدب الداخل، من خلال عدد كبير من التجارب الشابة التي اطلعتُ عليها، يعاني قصوراً بيناً له علاقة بغياب النضج في المقاربة، والمباشرة في الطرح، وتشظي الفكرة، وهو أمر معنوي له علاقة بطبيعة الاحتلال الذي سعى إلى تكريس التشظي الجغرافي والنفسي، إلى جانب سقوط عدد كبير من الكتّاب والكاتبات في فخ "عقدة الذنب"، كما أميل إلى تسميتها، وهي عقدة متأتية من شعور الكاتب في الداخل المحتل بأن عليه "التزاماً قسرياً" كونه يقبع تحت احتلال مرير، وأن هذا الالتزام يجب أن يُترجم في الكتابة، كي لا يُساء فهم الكتابة الخالية من ظلال الاحتلال أو ينظر لها باعتبارها "ترفاً" أو "عبثاً" لا قيمة له، علماً بأن منظومة الاحتلال يمكن أن تحضر في النص الأدبي، ضمن عناصر تعبيرية تجعل هذه المنظومة مناخاً ضاغطاً أو مزاجاً عكراً أو إرهاصاً أو استحقاقاً أو ظلاً قاتماً، بل وقد تكون أكثر تأثيراً وحضوراً وتعبيراً في هذه الحالة من أي إشارة مباشرة أو مقحمة أو تنظيرية للاحتلال. يضاف إلى ذلك كله ضعف سوق النشر في الداخل، وعدم وجود مؤسسات توفر الدعم اللازم للأصوات المبدعة، الأمر الذي قد يكون سبباً في وأد تجارب عدة واعدة. ومع هذا، لا يعدم الأمر أن نقرأ من وقت لآخر أعمالاً متميزة لكتاب وكاتبات في الداخل الفلسطيني، خاصة في الرواية، يصوغون مشهدية لافتة لواقع إنساني على قدر كبير من الخصوصية.

لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة، ما هي الطقوس الخاصة التي تمارسينها عند الكتابة؟

عاداتي في الكتابة تتأرجح بين "الطقوس" و"الخرافات".. أنا أحتاج إلى أن أؤمن أحياناً بخرافات من نوع ما في عالم غير مفهوم بالنسبة لي.. أو عالم يبدو منطقياً للغاية على نحو يفوق قدرتي على الاحتمال! يجب أن يكون هناك مكان بعينه مخصص للكتابة، زاوية في البيت لا يقربها أحد غيري.. ولا بد أن تجاور الموسيقى الحكاية بمختلف مراحلها، وعادة ما تقتضي عملية الإعداد والتهيئة لأي عمل روائي تجهيز موسيقى وأغنيات تظل ترافقني طيلة فترة الكتابة. أنا لا يمكن أبداً أن أكتب في فضاء صامت. الموسيقى شرط للكتابة. وهو أمر ربما يُعزى لأن الموسيقى والأغاني رافقت، ولا تزال، فصول حياتي. وكثيراً ما يحدث حين تطرق أذني أغنية ما مرتبطة بذكرى شخصية لي أن أستعيد هذه الذكرى بكل تفاصيلها. 

وحين أكتب.. أميل إلى العزلة، وأنقطع على نحو شبه تام عن معظم الأصدقاء، وهو أمر جعل البعض ينفض من حولي، في حين هناك حفنة مخلصة تعرف متى تنسحب من حياتي ومتى تظهر.. وتتفهّم تحولات مزاجي.. وتحترم الحالة التي أعيشها أثناء الكتابة..

أخيراً وليس آخراً في مسلسل الطقوس/ الخرافات الواجبة: يجب أن تكون القهوة السادة حاضرة دوماً.. كذلك لا أرتدي أية إكسسوارات في يدي أو حول عنقي قد تعيق تواصلي مع الكلمات.. وأكون حافية.. لا يمكن أن أكتب بقدمي محشورتين في حذاء أو صندل!

ما هو المشروع الذي تعملين على تحقيقه حالياً؟

لدى أكثر من فكرة لمشروع أحتاج ربما إلى حياة أخرى كي أنهيها. لكن هناك مشروعاً روائياً في طور البناء بعدما تبلورت فكرته المبدئية. وضعتُ له معماراً أولياً، وأنا حالياً في خضم المرحلة الأولى من العمل على المشروع؛ وهي البحث والاستقصاء واستكشاف المناخ النفسي والعاطفي للسردية المتخيّلة. كالعادة، لا أعرف إلى أين ستقودني التجربة، ولا مانع لدي من أن أسلّم القيادة لها.. فالحكاية بالنسبة لي طريق ذو مسارين: أكتبها كما تكتبني.

بطبعي، أميل إلى عدم التحدث عن أي عمل أكتبه أو أكشف تفاصيله.. أحب أن أفاجأ نفسي قبل الآخر.. فكثيراً ما رأيتني أدخل مسارات في النص لم أكن أعمل لها حساباً.. وهذه بحد ذاتها تجربة مدهشة.. والكلام عنها قد يقتلها أو يجرّدها من إثارتها.