المقابلة: محمد بكري

2018-02-28 10:00:00

المقابلة: محمد بكري

السينما الفلسطينية أسيرة الوضع السياسي الراهن المرتبط مباشرة بالاحتلال، ليس لنا بعد دولة بالمعنى الحقيقي بسبب هذا الاحتلال، ومن الطبيعي أن تتناول أفلامنا قضايانا ومعاناتنا ونحن تحت الاحتلال. أما السينما "الإسرائيلية" فلها أب راع، ولها دولة ومؤسسات، وهي تحاول أن تتنكر كما تتنكر "إسرائيل" لأثامها، في احتلال وطرد شعب أعزل هو شعبي، ومن الطبيعي أيضاً أن تتناول في هذه السينما مواضيع بعيدة عن الاحتلال، كاستمرارية لنهج التنكر لمسؤوليتها المباشره عن نكبة أبناء شعبي الفلسطيني.

لقائي الأول مع الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري كان مطلع تسعينيات القرن الماضي خلال مشاركته بأيام قرطاج السينمائية في تونس العاصمة، لتتعدد اللقاءات به على مدار السنوات اللاحقة، وفي كل لقاء كنت أكتشف فيه عوالم الإنسان والمبدع متعدد المواهب. 
ضيفنا من روّاد السينما الفلسطينية، ويعمل في التمثيل والإخراج والإنتاج، وهو ممن وضعوا سينمانا على الخارطة السينمائية العالمية، من خلال مشاركته في العديد من الأفلام العالمية، أبرزها مشاركته في فيلم «حنا. ك» عام 1983 للمخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس، وفيلم «خصوصي» للإيطالي سافيريو كوستانزو عام 2004، و«مصير نونيك» عن مذبحة الأرمن عام 2007 للمخرجين الإيطاليين باولو وفيتوريو تافياني، والفيلم الكردي «زهور كركوك» عام 2010 للمخرج فاريبورز كامكاري.

كما أخرج بكري عدّة أفلام سينمائية كانت كشفاً عميقاً لشعرية مُتفردة تسكن روحه، فمن منا ينسى أفلامه: «1948» عام ١٩٩٨ الذي يسجل لمعاناة خمسين عاماً من النكبة. و«جنين جنين» عام 2002، الذي فضح فيه وحشيّة الجيش الإسرائيلي وهمجيته. و«من يوم ما رحت» عام ٢٠٠٥ الذي يعرض المتاعب التي يواجهها الفرد الفلسطيني في صراعه في معركة الحفاظ على هويته. و«زهرة» عام 2009، الذي فاز بالجائزة الأولى في مهرجان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للأفلام في 2010. والفيلم الروائي القصير «قطرة» عام 2012 الذي كتبه وأخرجه ويشارك ولداه صالح وزياد في تمثيله.

كذلك لعب دور البطولة في عدد من الأفلام التي تعتبر اليوم من روائع السينما الفلسطينية مثل: «الملجأ» عام 1987 و«عيد ميلاد ليلى» عام 2008 و«حيفا» عام 1996 لرشيد مشهراوي، و«ليالي الغربه» عام 1989 لايزيدور مسلم، و«الزنديق» عام 2009 و«حكاية الجواهر الثلاثة» عام 1995 لميشيل خليفي، و«زراقاضة» عام 2013 للمخرج راني مصالحة.

حول آخر مشاريعه الفنية التي يحضّر لها حالياً وفيلمه الأخير «واجب» للمخرجة آن ماري جاسر، وراهن السينما الفلسطينية، كان لـ"رمان" معه هذا الحوار:


أستهل حواري معك بسؤالك عن عملك الفني القادم؟

عملي القادم سيكون مونودراما مسرحية شعرية عن حياة وسيرة الشاعر الراحل محمود درويش. العمل ما زال في طور الكتابة، وهو يعتمد بالكامل على أشعاره ونثره. المسرحية تروي حكاية درويش الشاعر والإنسان من خلال نصوصه التي كتبها في فترات زمنية مختلفة، دون أي إضافة من قبلي أو من قبل أيّ شخص آخر. وفي هذا العمل أسعى لتتبّع حكاية الإنسان الشاعر من الطفولة إلى آخر أيامه وقصيدته التي لم ولن تنته. سيكون شريكي في تحقيق هذه المسرحية ابني صالح، حيث سيتولى إخراجها، وكل ما أرجوه أن تكون المسرحية جاهزة للعرض قبل نهاية هذا العام. وكنت قد بدأت التحضير للعمل واختيار النصوص منذ سنة تقريباً.

وقد يسأل أحدهم لماذا محمود درويش الآن، بعد نيف وتسع سنوات على رحيله الجسدي؟ فأجيبه: لأني للأسف لم أكن متفرغاً خلال الفترات الماضية لهذا العمل فقط، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية لأن العمل عظيم، وهو يحتاج إلى جهد كبير وتريث لانتقاء أقرب ما كتب إلى قلبه وقلبي، وأكثر ما يحاكي الشخصي والعام دون الإجحاف بالحق التاريخي والمحطات والحروب التي مرّ ومررنا بها.

كان العرض الافتتاحي الأوّل لفيلم «واجب» قبل نحو خمسة أشهر، في مسقط رأسك، قرية "البعنة" في الجليل، أي دلالة لذلك من منظورك؟

بالنسبة لعرض الفيلم في البعنة فقد كنت أنتظر تلك اللحظة، وأتأهب لذلك اللقاء مع أهلي وناسي في قريتي، ولكن وللأسف كان عرضاً غير ناجح تقنياً من حيث جودة الصوت والصورة، طبعاً الكثير من الحاضرين لم يُلاحظوا ذلك لأنهم يفتقدون إلى المرجعية السينمائية الفنية، التي تمكنهم من المقارنة بين العرض الرديء وبين ما يجب أن يكون. هذا ناهيك عن استخدام الهواتف النقالة، التي طغى صوت رنينها على أصوات الفيلم فشوشت علينا. وقد شعرت أثناء العرض أن الهاتف النقال أكثر خطراً على السينما من التلفزيون، ذلك أن الأخير يقزم السينما، أما الهاتف النقال فيفسدها لأنه يقطع التركيز والتواصل مع بهجة السحر السينمائي. كل هذا قتل فرحتي ولهفتي في استقبال ردود الفعل بعد انتهاء العرض.

ما الذي أضافه هذا الفيلم تحديداً لمسيرتك الفنية السينمائية؟

هذا الفيلم كان بالنسبة لي تحدياً فنياً وشخصياً كبيرين، حيث أن شخصيتي في فيلم و«اجب» منافية تماماً لشخصيتي على كل المستويات جسدياً وروحياً، لأن الأب متشائل ٢٠١٧ "ماشي الحيط الحيط" وبيقول: "يا ربي السترة" و"اللي أخذ أمي هو عمي"، بينما أنا فمعروف عني في حياتي أنني أمشي في وسط الشارع، وأن من أخذ أمي ليس عمي بل عدوي. وفي الحقيقة استغربت كيف جازفت المخرجة آن ماري جاسر واختارتني لهذا الدور، لأنه فعلاً نقيضي في الحياة.

أما ما أضافه لي فإني أعتبره قفزة نوعية في مسيرتي الفنية، وهو من بين الأدوار الصعبة التي قمت بها، فلم يكن ذلك سهلاً أبداً من كل النواحي. كذلك العمل مع ابني صالح كان متعة مثقلة بالتوتر والخوف والاضطراب الدائم، الذي صب في النهاية في مصلحة الصراع الدامي بين الأب والابن.

ذات جلسة جمعتني بك في تونس قبل سنوات، سألتك حينها، ما أهم جائزة حصلت عليها في حياتك؟ فكان جوابك: أبنائي، وكان ابنك صالح معنا آنذاك، مؤخراً حصلت وإياه "مناصفة" على جائزة أفضل ممثل في مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الـ14. ماذا عنى لك ذلك؟ ومن ثمّ حدثني عن مشاعرك لحظة الإعلان عن هذا الفوز المشترك مع صالح؟ 

أبنائي هم أغلى ما في وجودي، وهم استمراري الروحي والفني والسياسي، والعمل مع ابني صالح كان غاية في المتعة والتحدي في آن واحد، لأن علاقتنا كأب وابن واضحة وصريحة وهي تخلو من المداهنات والتملق.

وصالح هو عيني الثالثة كما أنا له عيناً ثالثة. ولكن لم يخلُ الأمر أحياناً من التوتر المحشو بتراكمات جراء فارق السن بيننا، هو الذي يصغرني بـ ٢٣ عاماً. أما عن مشاعري لحظة الإعلان عن الفوز المشترك معه في هذا المهرجان فكم تمنيت حضوره معي، كما تمنيت قبل ذلك أن ننال هذه الجائزة مناصفة، وقد تحققت أمنيتي يومها بالفوز ولكن للأسف بغيابه. لا بل كانت لحظة الإعلان عن فوزنا بجائزة أفضل ممثل عن دورنا في فيلم «واجب» تحقيقاً لما هو أكثر من أمنية، وقد كان ينقصني في سهرة اختتام فعاليات المهرجان والتتويج بالجائزة أن أضمه إلى قلبي على خشبة المسرح، والذي هون عليّ وعوضني عن غيابه نوعاً ما إعلان مقدمة الحفل بعد ذلك حصول الفيلم على جائزة ثانية، وهي جائزة (أفضل فيلم روائي)، فأصبحت الفرحة غير المتكاملة فرحتين وكان ينقصهما حضور صالح معنا.
 
مع إميل حبيبي

اشتغلت كثيراً على الذاكرة، واهتمامك بها واضح في أغلب أعمالك، فهل تعتبر هذا الاشتغال هو الخيط الرابط في مشروعك الفني، ولماذا التركيز على الذاكرة؟ وبالتالي كيف تستطيع أن تشتغل على الذاكرة وفي الوقت نفسه على الواقع اليومي، الآن وهنا تحت الاحتلال؟

الذاكرة بالنسبة لي هي حضور الهوية والمكان بكل تجلياتهما، وهي ليست الخيط الرفيع الذي يربط بين أعمالي بل هي أرضي وسمائي. وكما قال محمود درويش، ما معناه، إن اللغة تصبح هي الوطن والملاذ الأخير بعد نكبتنا وتهجيرنا. نعم، هكذا أرى أن الذاكرة هي الوطن البديل للوطن المحتل، ووجودي هنا في "إسرائيل" تحت الاحتلال هو من أكبر الحوافز للتمسك بالذاكرة، والانطلاق منها أرضاً وسماءً، وهذا ما يجعلني أشعر وكأن قدماي على الأرض ورأسي في السماء

والذاكرة هي الحقيقة المدفونة تحت الأطلال كما حجارة بيوتنا وزيتوننا وصبرنا، الذين لا يمكن إخفاءهم بتشجير المكان بأشجار مستوردة ودخيلة على طبيعة أرضنا: فلسطين. ومهما حاولوا اقتلاعنا ومحو هويتنا تأتي الذاكرة حاضرة شاهدة على الحدث والتاريخ، فتصبغ أعمالي برائحة الطابون البلدي والزيت والتبغ والقهوة والزعتر.. والحكايا والملبس والأغراس والبيادر وأغاني الفصول الأربعة، كل هذا منبعه الذاكرة التي لن تنضب مهما أحاطوها بأشجار عالية ومبانٍ أعلى، وفرض يهودية الدولة واللغة العبرية والرفض العنصري لسماع لغتنا العربية، فشكراً لأمي. شكراً للذاكرة.

على الصعيدِ الإبداعي، هل تَعتبر وجودَك في الداخل الفلسطيني المحتل (أراضي الـ48) ميزة؟ أم أنه يحرمك من ميزات ما؟

وجودي في الداخل المحتل منحني قوة الارتباط بالهوية الوطنية، وجعلني أعمل جاهداً للحفاظ عليها عن طريق لغتي وحضارتي العربية وانتمائي إلى أهلي وشعبي الفلسطيني العربي.

كيف تَنظر إلى ما يُطرَح عربياً حول مسألة التطبيع مع الكيان الصّهيوني؟ وما هو تعريفك للتطبيع؟

الحديث في قضية التطبيع هو السهل الممتنع. وكل من يعمل تحت جناح "إسرائيل" كمؤسسة رسمية فهو ”مطبّع"، لا سيما إذا كان مواطناً عربياً. نعم يجب مقاطعة "إسرائيل" ثقافياً واقتصادياً إذا كنت عربياً، أما من يعيش من أصحاب الأرض الأصليين داخل "إسرائيل" فعليه مقاطعة مؤسساتها الثقافية، لأننا ببساطة لا نستطيع مقاطعتها اقتصادياً، ذلك أن المنتجات الغذائية مثلاً صناعة "إسرائيلية" وهذه ليس لها بديل.

واسمح لي أن أضيف هنا، صحيح أن وجودي في الداخل حفزني أكثر على الالتصاق بالذاكرة والحفاظ على هويتي الوطنية، ولكنه في الوقت نفسه منعني ولسنوات طوال من التواصل مع إخوتي في الوطن العربي. وأذكر أن الفيلم الأول الذي شاركت ببطولته للمخرج اليوناني كوستا غافراس «حنا. ك» كان عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام ١٩٨٤ وتعذر عليّ دخول مصر والاحتفال بالفيلم حينها، ومضت منذ ذلك التاريخ ٣٤ عاماً لم أشارك فيها في أي عمل مصري أو عربي بتهمة حملي لجواز سفر "إسرائيلي"! والحجة هي عدم التطبيع مع "إسرائيل"! وهذا بنظري جهل وظلم عربي مجحف بحق الفلسطينيين في أراضي الـ48 لأنه لا يجب أن تتخذ بحقنا نفس المواقف الرافضة لـ"الاسرائيلي" العدو، إذ يكفينا ما نواجهه من قبل المؤسسة "الإسرائيلية" التي هي سلطة احتلال، وإلا سنعيش الأمرين مرّة من قبل المحتل من جهة، ومرّة ثانية من قبل المؤسسة الرسمية العربية.

وللحق والتاريخ  أقول: إن البلد الوحيد الذي أحسست به أنني حر وفلسطيني بامتياز هو تونس، التي كانت حضناً دافئاً لي. ومِمّا يوجع القلب أنه في ذروة الهجوم "الإسرائيلي" عليّ في سبتمبر/ أيلول الماضي أثناء زيارتي لبيروت وعرض مسرحية "المتشائل"، إضافة إلى عرض سبعة من أفلامي، هاجمني بعض العرب الجهلة من لجنة المقاطعة واتّهموني بالتطبيع كـ"إسرائيلي" مع لبنان! أوليس هذا عهراً سياسياً ومزاودة مشبوهة؟

في كل مرّة كنت تزور فيها تونس، أذكر أنك كنت تصر على عرض مسرحية "المتشائل" على أكثر من خشبة مسرح، ومازالت أحتفظ بذاكرتي كيف حولنا معاً -في منتصف التسعينات- صالة في مقر تابع للجامعة العربية إلى ركح بأبسط التقنيات وديكور فقير، لتقدم عرضك أمام القيادات الفلسطينية وكوادر الثورة ممن يعيشون في تونس.

أعشق تونس وأرى بها حضناً دافئاً لنا. من هنا جاء حبي لعرض "المتشائل" في تونس كلما سنحت لي الظروف. أحب هذا النصّ لإميل حبيبي لأنه يحكي عن معاناة الفلسطيني المنسي عربياً. وفلسطينياً، يحكي معاناة أهلي الذين صمدوا رغم الداء والأعداء. وقد أصبح النصّ مع السنين أنا وأصبحت أنا النصّ.

حدثنا عن علاقتك بالراحل إميل حبيبي.

علاقتي بإميل حبيبي علاقة الولد بوالده. أحببنا بعضنا كما الولد يحب أباه، والأب يحب ابنه الروحي. وهو بالنسبة لي أحد "منارات" سفينتي التائهة.

وماذا عن علاقتك بالراحلين محمود درويش وسميح القاسم؟

ربطتني بمحمود وسميح علاقة مميزة، فيها كل النقاط والحروف والفواصل التي تكوّن جملة مفيدة، وكلمات تروي حكايتنا جميعاً براً وبحراً.. وطناً وشتاتاً.

كيف تحكم على العلاقة بين الأدب والمسرح والسينما من خلال تجربتك الذاتية؟

الأدب العربي، وخاصة الشعر الجاهلي، وأخص المعلقات الشعرية، بصورها الغنية، كان نواة حبي للمسرح. كذلك هو الأمر فيما يخص أدب المقاومة، نثر وشعر محمود درويش، وكل ما قدمه غسان كنفاني وإميل حبيبي وسميح القاسم وكثيرون غيرهم.
 
من فيلم «واجب»

هل‭ ‬قرأت‭ ‬رواية‭ ‬فلسطينية ما‭ ‬وتمنيت‭ ‬أن‭ ‬تحققها ‬سينمائياً؟ روايات إميل حبيبي أو غسان كنفاني مثلاً؟

أحلم في تحويل "المتشائل" إلى فيلم سينمائي. كما أحلم بتحويل عدّة أعمال لغسان كنفاني، وأتمنى أن أحقق بعضها قبل أن أرحل، فهي غنية جداً فنياً وتستحق بذل كل الجهود لإنتاجها سينمائياً.

باعتبارك أحد الذين وضعوا المدماك الأساسي في بناء السينما الفلسطينية، أسألك: لماذا لاتزال السينما الفلسطينية عموماً أسيرة لموضوع واحد هو الاحتلال، بينما تتناول السينما "الإسرائيلية" مواضيع عالمية بعيداً عن السياسة؟ 

السينما الفلسطينية أسيرة الوضع السياسي الراهن المرتبط مباشرة بالاحتلال، ليس لنا بعد دولة بالمعنى الحقيقي بسبب هذا الاحتلال، ومن الطبيعي أن تتناول أفلامنا قضايانا ومعاناتنا ونحن تحت الاحتلال. أما السينما "الإسرائيلية" فلها أب راع، ولها دولة ومؤسسات، وهي تحاول أن تتنكر كما تتنكر "إسرائيل" لأثامها، في احتلال وطرد شعب أعزل هو شعبي، ومن الطبيعي أيضاً أن تتناول في هذه السينما مواضيع بعيدة عن الاحتلال، كاستمرارية لنهج التنكر لمسؤوليتها المباشره عن نكبة أبناء شعبي الفلسطيني. ولكني أطمئنكم أن السينما "الإسرائيلية" بلا قضية، وطالما هي كذلك فلن تصل بعيداً حتى لو ملكت كل التقنيات المتفوقة تكنولوجياً على سينمانا الفلسطينية.

ميشيل خليفي، إيليا سليمان، هاني أبو أسعد، آن ماري جاسر، توفيق أبو وائل، شادي سرور، وغيرهم.. مخرجون حصلوا على جوائز عالمية عديدة، واحتفت بهم المحافل الأوروبية والعالمية، سؤالي هل هذه "سينما فلسطينية" ناضجة حقاً؟ وماذا عن الأفلام الفلسطينية الممولة "إسرائيلياً" وأوروبياً؟ 

ميشيل وإيليا وهاني وآن ماري، يمولون أفلامهم بطرق عدة، ولكن أبداً ليس من ”إسرائيل". وبالنسبة لتوفيق أبو وائل فالأمر يختلف، لأن ليس عنده مشكلة بالحصول على تمويل "إسرائيلي"، ولكنه مخرج موهوب ولا يزاود على أحد، وإن كان لديه مشاكله في لغته السينمائية، غير أنه بعيد عن المزاودة السياسية والوطنية الفارغة الكاذبة. كذلك هو شادي سرور إذ يمول أفلامه من جهات "إسرائيلية"، ولكنه أيضاً واضح المعالم. أما بالنسبة للإبداع فالأمر يختلف من مبدع إلى آخر، وحصول من ذكرتهم على جوائز عالمية فهو عن جدارة واستحقاق، وليس كالمخرج اللبناني زياد دويري الذي باع نفسه للشيطان، لأنه يعتقد أن الطريق إلى هوليوود يمر من تل أبيب.

للاحتلال تأثيرات على مجمل الحياة في الداخل الفلسطيني، سواء الحياة الثقافية والاجتماعية وعلى كل نواحي الحياة. كيف تقرأ هذا التأثير على النتاج الإبداعي الفلسطيني في مجالي المسرح والسينما؟

نعم هذا صحيح، للاحتلال تأثيره الواضح على الصعيد الثقافي وكل حياتنا. أما بالنسبة لتأثيره على المسرح والسينما فهو تأثير بالنهاية يخدم المبدعين المسرحيين والسينمائيين لأنهم خارج السرب، والأمثلة على ذلك عديدة ولا تقتصر عليّ، ولكن دعوني أحدثكم عن تجربتي الخاصة مع سلطات الاحتلال، فأنا منذ أنجزت فيلم «جنين جنين» أصبحت (العدو الأول لـ"إسرائيل" ثقافياً)، بحسب ما ذكرت جريدة "معاريف" العبرية، التي قامت باستفتاء موضوعه: (من هو العدو الأول لـ"إسرائيل" ثقافياً)، وهذا يشرفني. كما أذكر لكم تجربة مسرح "الميدان" الذي حين أنتج مسرحية عن أسير فلسطيني حجبت وزارة الثقافة "الإسرائيلية" ميزانيته، وهو مغلق منذ أكثر من سنة بسبب هذا الإجراء التعسفي.

هل ترى بأنه آن الأوان لأنسنة قضيتنا عالمياً من خلال السينما وباقي الفنون؟

طبعاً دائماً وأبداً. أنا شخصياً أعمل على هذا منذ نعومة أظفاري، وأنا لست الوحيد في هذا وأعتقد أن هذا شرط من شروط الفن على شتى أنواعه، فالإنسان هو المركز وليس الشعار وليس الخطاب السياسي المباشر، فكلما أوغلنا في إنسانيتنا كلما وصلنا إلى العالمية.

يجب البحث في التفاصيل الإنسانية والحياتية لنا كفلسطينيين، ونبذ الشعار والخطاب السياسي المباشر والابتعاد عن المغالاة والمبالغة بكل ما يتعلق بالآخر "العدو"، حتى إذا كلّف الأمر أن تؤنسن "العدو" لا خسارة في ذلك بل مكسب لنا وبرهان أننا بشر نتحلى بكل الصفات الإنسانية، التي تخولنا أن نكون معلّمين في الإنسانية، والتي يجب أن تحاكي حتى أعداءنا ومن هم "مضحوك على لحاهم"، أو مغسولة أدمغتهم من قبل المؤسسة الصهيونية التي وبفضل غبائنا العربي صارت كالأخطبوط ممتدة أذرعها في كل أصقاع الأرض.

أخيراً، ما هي الرسالة التي توجهها للسينمائيين الفلسطينيين الشبان؟

أقول للشباب السينمائيين: كونوا أنتم وليس ما يراد لكم أن تكونوا، واحكوا قصتكم بلا تلعثم ولا فذلكة، احكوها ببساطة وبفنية عالية دون أن تقلدوا أحداً، وحافظوا على خصوصيتكم ورائحة التبغ في عباءة جدكم.

يُشار إلى أن الفنان محمد بكري مبدعٌ فلسطيني ممن اختاروا البقاء في أرضهم ووطنهم وعاشوا ويعيشون المواجهة اليومية مع دولة الاحتلال. وهو من مواليد عام 1953 في قرية "البعنة"، قرب عكا في الجليل شمال فلسطين المحتلة. 

درس المرحلة الثانوية في مدينة عكا، وتابع دراسته الجامعية في مجال المسرح والأدب العربي بجامعة "تل أبيب" حيث التحق بها عام 1973. وهو يعدّ من أعمدة المسرح الفلسطيني في الداخل المحتل، حيث بدأ مشواره الفني بالمشاركة في العديد من الأعمال المسرحية المحلية. وقد أورث أربعة من أبنائه (صالح، زياد، آدم، ويافا) الفن وهمومه.

شارك محمد بكري بالتمثيل والتأليف والإخراج والإنتاج في أكثر من 45 عمل فني. وحاز عام 2004 على "جائزة الفهد الفضي لأفضل ممثل" في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي، عن دوره في فيلم «خصوصي» للمخرج الإيطالي سافيريو كوستانزو. كما حاز عن فيلمه «جنين جنين» على "التانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي" في مهرجان أيام قرطاج السينمائية عام 2002. كذلك حاز فيلمه «من يوم ما رحت» في نفس المهرجان عام 2006 على "التانيت الذهبي"، وأيضاً في نفس المهرجان نال "جائزة أفضل ممثل" عن دوره في فيلم «عيد ميلاد ليلى» للمخرج رشيد مشهراوي في 2008. ومنح "جائزة الدب الفضي لحرية التعبير" من مهرجان برلين السينمائي العالمي للعام 2010. ونال في 2017 مناصفة مع نجله البكر الممثل صالح بكري "جائزة المهر الطويل لأفضل ممثل" عن دورهما في فيلم «واجب»، الذي نال بدوره "جائزة أفضل فيلم روائي" في دورته الـ14. 

وكان أن شارك الفنان الفلسطيني في عدد من المسلسلات التلفزيونية منها: مسلسل «عرب لندن» من إخراج السوري أنور قوادري، والمسلسل الأمريكي «جريمة» من إنتاج أضخم التلفزيونات الأمريكية (HBO)، سيناريو وإخراج ستيفن زيليان. وفي 2016 لعب الدور الرئيسي (النبي صموئيل) في المسلسل الأمريكي التاريخي «ملوك وأنبياء»، سيناريو طآدم كوبر، ومن إخراج جيفري نحمنوف، ومن إنتاج تلفزيون (abc).

ويتعرّض محمد بكري لملاحقة من قبل سلطات الاحتلال منذ سنوات تفاقمت بعد إنتاج فيلمه «جنين جنين». وقد دعت مؤخراً وزيرة الثقافة في حكومة الاحتلال، ميري ريغف، لمحاكمته بعد عودته من لبنان حيث قام بجولة عروض فنية بدعوة من جمعية "أساس للثقافة والفنون" و"دار النمر للفن والثقافة".