المهرّج يحذّر الجمهور

2018-03-19 13:00:00

المهرّج يحذّر الجمهور
Stanisław Ignacy Witkiewicz, Tworzenie świata, 1921 - 1922, Muzeum Sztuki w Łodzi

لن يستغرب أحدٌ على الأرجح وجود صلة تربط بين نخبة المعارضة السياسية وأدب الخيال العلمي. حين أعلن نظام بشار الأسد تأسيس وكالة الفضاء السوريّة في آذار 2014، اقترح معارض سوري في المنفى تحويل قسم الأقمار الصناعية في الوكالة إلى الشعبة الخاصة بإطلاق البراميل، وكان محقاً. بهذه المناسبة، هنا عودة إلى رواية "النهم" للكاتب البولوني ستانيسلاف إيغناتسي فيتكيفيتش، الصادرة، في جزأين، في وارسو سنة 1932.

(ثمة هاملت في كل شارع من شوارع العالم)

للصحافة الدانمركية تاريخ يحفل برسوم الكاريكاتير فادحة النتائج. 

بسبب عمامة الرسول محمد المفخخة في كاريكاتير كيرت ويسترجارد، أحرق متظاهرون سفارة مملكة الدانمرك في دمشق شتاء 2006، لكنهم لم يتّجهوا إلى معهد ثربانتس في السبكي لاستكمال الحرائق، لأنهم لم يعلموا إن مؤلف "دون كيخوته" قد استعاد، في مطلع روايته، قصة التمثال الذهبي لمحمّد في الأندلس، وكيف يسرقه فارس معروف في روايات الفروسية. كما لم يكملوا صعودهم باتجاه قاسيون، إلى حي الروضة الدمشقي، ليهاجموا المركز الثقافي الإيطالي المتواري خلف السفارة الأمريكية، لأن أحداً لم يخبرهم بأن دانتي قد وضع الرسول وصحابته في الجحيم، وأعفى من العذاب صلاح الدين الأيوبي وابن رشد وابن سينا. تخلو الترجمات العربية للكوميديا الإلهية من الأبيات التي يصور دانتي فيها النبي محمد وأحشاؤه مندلقة بين ساقيه، وبكاء الإمام علي بن أبي طالب وهو مشقوق الرأس من أعلى هامته حتى ذقنه.

على أية حال، في ربيع 2006، باتت ملصقات "قاطعوا المنتجات الدانمركية"، ورمزها زبدة لورباك، مألوفة في الأسواق العربية، مرفقة في بعض الأحيان بصياغات مختلفة لقول شكسبيري معروف، تراوحت ترجمته من "ثمة ما يتعفن في مملكة الدانمرك" إلى "كل شيء متعفن في مملكة الدانمرك“.

قبل هذا التاريخ بوقت طويل، تحديداً سنة 1855، طبعت إحدى الصحف المحلية في كوبنهاغن كاريكاتيراً يسخر من سورين كيركجور، فقال الأخير إن طباعة مثل هذا الرسم قد أتت بالنهاية الحقيقية لحياته، وفي العام نفسه توفي شاباً في الثانية والأربعين من العمر. حياته الغامضة، المنعزلة والهادئة، ظللتها كنيته التي تعني حرفياً "المقبرة". أمضه شعور دائم بالذنب لم يجد له أحياناً أي موضوع أو سبب، وكان أحد دوافعه الأساسية في غزارة التأليف واختراع الأنداد وانتحال أسماء مؤلفين خياليين.

تراجع الاهتمام بكيركجور في اللغة العربية بعد موجة الترجمات التي خصصتها دار الآداب البيروتية لكتّاب الوجودية التي يعتبر كيركجور أحد روادها الأوائل، وإن لم يحفل ولم يحظَ بشهرة "أتباعه" الفرنسيين أو الألمان أو حتى الرومانيين. أحياناً يعود إليه طلبة كليات الفلسفة لإنجاز حلقات بحث دراسية يطعم بها الأساتذة والمشرفون غبارَ الأرفف في مستودعات الأرشيف الجامعية، فيستهدون في بحوثهم بترجمات عبد الرحمن بدوي، وقد تواتيهم الصدفة ليجدوا ترجمة فؤاد كامل لـ "خوف ورعدة". في هذا الكتاب الأخير تتعدد احتمالات تضحية النبي إبراهيم بابنه إسماعيل (أو إسحاق في الرواية التوراتية)، وقد استحوذت هذه التضحية على كيركجور ولم يجد لها أي تفسير واضح أو نهائي، فافترض مرويات مختلفة ليفهم هذا المفارقة النبوية العصية على الفهم، وهو المتمكّن من فنّ المفارقات والبارع في الجدل الذي اعتبره، في جميع الأحوال، تغييرات في مواضع الكلمات لا غير. اقترح كيركجور لكل فرد إيماناً يخصه وحده. شغف بباسكال، شبيهه في الشك والإيمان، وكتب: "في يوم القيامة، إن لم يبقَ في الجحيم غير مذنب واحد، وتصادف أن كنت أنا ذلك المذنب، فسوف أحمد في تلك الهاوية عدالة الله“.

رافقت يوميات كيركجور الشاعر العراقي محمود البريكان، وهي عمل ضخم غني بالتأملات والصلوات وهجاء هيجل وتحتوي القليل من الأحداث الخارجية. يقول في إحدى الصفحات: "أبانا الذي في السموات! لا ترفعْ عنا خطايانا، بل ارفعنا عن خطايانا، فإذا ما استفاقت في أرواحنا فكرتُك، وفي كل استفاقة لها، فلا تذكّرنا بما اقترفناه بل بما غفرته، لا تذكّرنا بضلالنا بل بأنك أنقذتنا!" وكتب أيضاً: "اندلع حريق في كواليس المسرح، فخرج المهرّج ليحذّر الجمهور. حسبوه يمازحهم فصفّقوا له، وحين كرّر تحذيره اشتدّ تصفيقهم أكثر. باعتقادي، والحال هذه، سيبلغ العالم نهايته وسط تصفيق المتفرّجين الذين يحسبون ما يجري مجرد مزحة".
 
Kierkegaard attacks Berlingske Tidende


المعارضون السياسيون والخيال العلمي

لن يستغرب أحدٌ على الأرجح وجود صلة تربط بين نخبة المعارضة السياسية وأدب الخيال العلمي. حين أعلن نظام بشار الأسد تأسيس وكالة الفضاء السوريّة في آذار 2014، اقترح معارض سوري في المنفى تحويل قسم الأقمار الصناعية في الوكالة إلى الشعبة الخاصة بإطلاق البراميل، وكان محقاً. بهذه المناسبة، هنا عودة إلى رواية "النهم" للكاتب البولوني ستانيسلاف إيغناتسي فيتكيفيتش، الصادرة، في جزأين، في وارسو سنة 1932.

تدور أحداث الكتاب في بولندا في حاضر الكاتب آنذاك، أي مطلع أربعينيات القرن العشرين. شخوصه موسيقيون ورسامون وفلاسفة وأرستقراطيون وضباط جيش رتبهم عالية. ربما لم يكن الكتاب إلا دراسةً في الانحطاط: الموسيقى النشاز المجنونة؛ الميول الإيروتيكية الغريبة؛ رواج المخدرات الواسع؛ الحرمان من حرية التعبير؛ اعتناق الكاثوليكية الزائف؛ والعديد من الشخصيات السيكوباتية. ساد هذا الانحطاط إبان شيوع الأقاويل إن الحضارة الغربية عرضة لتهديد جيش قادم من الشرق: جيش صيني-منغولي هيمن على كل الأراضي من المحيط الهادي إلى بحر البلطيق.

أبطال فيتكيفيتش لا يؤمنون بشيء، وتخلو أعمالهم من أي إحساس بالمعنى أو الجدوى. هذا المناخ من الانحطاط يعمّ أرجاء البلاد كافة. أثناء تلك الفترة يظهر في المدن عدد كبير من الباعة الجوّالين الذين يبيعون حبوب مورتي-بينغ. و"مورتي بينغ" هذا فيلسوف مغولي أفلح في إنتاج وسائل عضوية لنقل "فلسفة الحياة". هذه الفلسفة المسؤولة عن قوة الجيش الصيني-المغولي معبأة على شكل حبوب مكثفة التركيز تغيّرُ كلّ من يتعاطاها تغييراً تاماً، فيغدو الشخص صافي الذهن سعيداً، وتبدو له فجأة كلُّ المشاكل التي كافح ضدها سطحية عديمة الأهمية، ويبتسم وسط أولئك الذين ظلت تلك المشاكل نفسها تؤرّقهم. فمن ابتلع حبوب مورتي-بينغ فقَدَ كل اهتمام بالمسائل الميتافيزيقية، والأسئلة المتعلقة بالمآزق الوجودية مستحيلة الحل، والمبالغات التي كان الفنّ متورطاً فيها من دون طائل. كل تلك الأشياء تحولت لدى متعاطي الحبوب إلى حماقات تخطاها الزمن، وما عاد يرى في اقتراب الجيش الصيني-المنغولي مأساة تهدد حضارته. عاش وسط أبناء بلده كالمعافى الوحيد وسط مجانين؛ ثم ازداد عدد من يتعاطون حبوب مورتي-بينغ، وكان هدوؤهم متعارضاً تماماً مع القلق العارم في محيطهم.

ختاماً: أفضى اندلاع الحرب إلى التلاقي بين جيوش الشرق وجيوش الغرب. وفي اللحظة الحاسمة، قبيل المعركة الكبرى بالضبط، استسلم قائد الجيش الغربي للعدو؛ وكان جزاؤه، مشفوعاً بفخامة التشريفات، هو قطع رأسه. احتلّ الجيش الشرقي البلاد وبدأت الحياة الجديدة، حياة مورتي-بينغ: أبطال الرواية الذين تعذّبوا في الماضي وأمضّهم نهمهم الفلسفي انخرطوا الآن في خدمة المجتمع الجديد. فعوضاً عن تأليف الموسيقى الناشزة للأيام الغابرة كتبوا الأناشيد والأغاني العسكرية؛ وعوضاً عن لوحات الماضي التجريدية رسموا صوراً تنفع عموم الناس؛ ولأنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا تماماً من شخصياتهم السابقة فقد انتهى بهم المطاف إلى الفصام.

تحدث فيتكيفيتش مراراً عن قناعاته بأن الدين والفلسفة والفن تعيش أيامها الأخيرة، وإن كان يرى الحياة من دونها عديمةَ القيمة. في 17 أيلول 1939، حين تناهى إليه أن الجيش الأحمر قد اجتاز حدود بولندا الشرقية خدّر نفسه بتناول الفيرونال ثم مزّق شرايين معصميه.


عرض رواية "النهم" معدٌّ عن الفصل الأول من كتاب "العقل الأسير" لتشيسواف ميووش، الطبعة الإنكليزية الصادرة عام 1990 لدى دار فينتج.