الحب الأوليّ ودفق الحواس ومايكل بالينت

2018-03-19 14:00:00

الحب الأوليّ ودفق الحواس ومايكل بالينت
The Fountain of Love, Jean-Honoré Fragonard, 1785

مسار الحب الحسيّ، بديهيٌّ التفكير به كمسار آخر ممكن، يوصل لحالة الانسجام الأوليّ المبتغاة. على طول العلاقة، يختبر الإنسان دفق حواسه جميعها، تختلط الحواس من الجهتين، وفق إيقاع تصاعدي يصل الذروة عند لحظة الانصهار بالجسد المقابل. يأخذ الشعور بالواقع هدنةً. يترك الجسد والفكر لسكونهما ولإحساسهما العميق بالامتلاء. كأنّما كل علاقة حب حسيّة، محاولة وتكرار للحب الأوليّ.

وجود الإنسان في العالم يحدّه ثقل وتترتب عليه مسؤولية. يفضيان به في أحيان عدّة إلى التفتيش عن وسائط لتهربٍ خاطفٍ يحيد به عن خطّ الحياة الموجز بالمعنى الزمانيّ، في محاولةٍ منه لاستعادة شكل من أشكال الحيوات التي اختبرها قبلاً.
 
يدخل عمل مايكل بالينت (michael balint 1896-1970) عالم نفس إنكليزي من أصل هنغاري، في سياق وصف الحالة التي يسعى الفرد لاستعادتها والانطلاق منها نحو تجربة يريدها مغايرة لما يعيشه. 

قبل الدخول إلى نظريته، موضوع النص، هذه إشارة سريعة تعريفية إلى هذا المحلّل النفسي وإن كان يستأهل منا إضاءة أشمل وأوسع على أبحاثه التي ثابر عليها بتصميم وبكثير من الدقة العلميّة طيلة أربعين عاماً. انتمى بالينت إلى ما عرف في وقته بالـ middle group  لرابطة التحليل النفسي البريطاني. 

ما يميّزه أنّه على الرغم من تأثره واتّباعه للمدرسة الفرويدية، ظلّ وفياً لمعلمه ومواطنه Sandor Ferenczi وعمل على إعادة أعمال هذا الأخير وتسويقها متحدياً  "استبليشمنت" التحليل النفسي القائم في حينه.

صحيح أن بالينت لم تعد لديه اليوم الشهرة التي حظي بها في حياته، وهو ما نعتبره أمراً مؤسفاً، دفعت بزميله الطبيب والمحلّل النفسي الفرنسي الشهير Jacques Lacan إلى تقديره واحترام أعماله، إلا أنه يبقى صاحب فكر شديد الشمول والفرادة. 

أكثر ما يميّز نظريات بالينت هو أنها بُنيت عضوياً، كاشفة عن وحدة متراصّة، نجد صعوبة في تجزئتها إلى قطع منفصلة وانتقاء ما نحتاج منها. لذلك لا بد من العودة إلى نقطة الصفر في سيستيم أفكاره والتي تشكّل، بحسب نظرياته، نقطة البداية في التطوّر البشريّ، وهي نظرية الحب الأوليّ the primary love التي يوردها في كتابه thrills and regressions . 

يقول مايكل بالينت أن خبرته العياديّة كمحلّل نفسي أتاحت له اعتماد هذه الصورة لابتداء حياة الإنسان في هذا العالم حيث يكون الانسجام كليّاً بينه وبين ما يحيط به. من دلائل هذا الانسجام، عدم اهتمام الفرد أو بالأحرى عدم قدرته على معرفة أين ينتهي هو ككيان وأين يبدأ العالم الذي يحيط به. هي تلك المرحلة التي تسبق ظهور الأجسام ذات الأطر المحدّدة بالنسبة له، هو الوافد حديثاً إلى الحياة، يطفو خلالها وسط دفق من المواد، substance، كالماء، الحليب، التراب، الضوء، الضباب، الرائحة، المذاق، رنة الصوت، الدفء، الرطوبة... خلاصة الوصف أنهما، الفرد والمواد، متداخلان، يعيشان في حالة من الاختلاط المتناغم.

من هنا يشدد بالينت على أهمية تلك المواد بالنسبة للطفل حينها، وللإنسان البالغ لاحقاً، كمرتكزٍ يساعده على تحقيق رغبته بالتسلّل خارج معاشه والعودة إلى الحالة التي اختبرها قبلاً.

إذاً، نظرياً يرغب الإنسان بالعودة إلى "الحب الأوليّ"، لكن عملياً لا بد للتسلّل من نقطة انعطاف عبر العبور بتجارب حسيّة تسعى إلى محاكاة التآلف الكامل للفرد مع محيطه. 

إحدى التجارب الحسيّة مثال الذي يستأذن ضغوطاً يوميّة، منساقاً برغبةٍ ملحة لاستنشاق دخان سيجارته. يقطع الدخان المسافة الفاصلة بين الخارج والداخل، محققاً الالتباس في ما بينهما، فتنتفي الحاجة إلى التمييز بين دخان الخارج الممزوج بالهواء وذاك العابر في الرئتين. الصلة لم تعد مقطوعة بين داخل الإنسان وخارجه من أشياء ومواد. الدخان (المادة) أعاد وصلها، إن كان عبر الدخنة المتصاعدة أو السخونة في منطقة الشفتين والحلق أو الضبابية الذي تلفّه و تذكّره بالظلّ الذي أحاط به في الأيام الأولى من ولادته للحياة. 

مهمّ القول أن مقاربة تجربة التدخين هنا لا تتمّ من الناحية المرَضية للإدمان، هي تأتي لتوصيف الأحاسيس واللّذات المترافقة لهذا الفعل.

مسار الحب الحسيّ، بديهيٌّ التفكير به كمسار آخر ممكن، يوصل لحالة الانسجام الأوليّ المبتغاة. على طول العلاقة، يختبر الإنسان دفق حواسه جميعها، تختلط الحواس من الجهتين، وفق إيقاع تصاعدي يصل الذروة عند لحظة الانصهار بالجسد المقابل. يأخذ الشعور بالواقع هدنةً. يترك الجسد والفكر لسكونهما ولإحساسهما العميق بالامتلاء. كأنّما كل علاقة حب حسيّة، محاولة وتكرار للحب الأوليّ.

في مقطع لا يتعدّى بضعة أسطر بعنوان Sensation، يحتفي الشاعر الفرنسي Arthur Rimbaud بحالة النشوة التي تصيبه عند احتكاكه بالطبيعة وبعناصرها. "يسير عبر الدروب، موخوزاً بالقمح، واطئاً العشب الرقيق. حالماً، سيشعرُ بالنداوة على قدميه وبالهواء يغمر رأسه العاري. لن يتكلم أو يفكر تاركاً لنفسه الاستغراق في التأمّل، والحبّ اللامتناهي يتصاعد في روحه. سيذهب بعيداً عبر الطبيعة، مثل بوهيميّ، سعيداً كما لو أنه مع امرأة." 

معبّرةٌ المعادلة التي يعتمدها Rimbaud ومفيدة للمقاربة التي على أساسها بُنيَ هذا النص، عبر تشبيهه السعادة المتأتية من تأمله للطبيعة وملامسة عناصرها بتلك، أي السعادة، التي يدركها عند التقائه بامرأة.

لا يهمّ إن كانت حقيقة أو يوتوبيا مفترضة، حالة الاختلاط والتناغم وفقاً لنظرية الحب الأوليّ، بقدر ما نراها مهمة تلك الحركة بالانحراف جانباً عن السائد وثقله، بحثاً عن لحظةٍ فيها خفة، علّها تصبح الحياة من بعدها أكثر احتمالاً.