marwen farhat ©
من هنا جاءت مفارقة سليمان الكبرى: فهو يبدو بعيداً عن القضية (الوطنية والاجتماعية والسياسية) وأقرب من مسقط رأسه ومنشأه (مدينته وبيته وطفولته وأبيه وأمه)، غريباً ذا أفكار ثابتة، كأنما لم يبق له من بلده سوى هذا الجزء من حياته، لم يبق له إلا ذكريات طفولته، وبيته وحارته، لا أمتعة له سواها، يحملها في حله وترحاله، تيمات ما انفك يتناولها في هذا الاتجاه أو في ذاك، في ضرب من العلاج النفسي الجامح، توجب عليه القيام به بوعي أو بدون وعي.
ولد إيليا سليمان في الناصرة ونشأ فيها كميشال خلايفي وهاني أبو أسعد. ومثله مثل خلايفي وأبو أسعد، تلقى تكوينه السينمائي خارج وطنه وبالتحديد في أمريكا، ولكنه لم يكن مثلهما يروي حكايات.
هذا أول ما يلفت الانتباه في أفلامه، خلافاً لما يمكن أن ننتظر من مخرج فلسطيني. فالقضية "تفرض" السرد مبدئياً، وذلك ما فعله ميشال خلايفي وهاني أبو أسعد، وإن كان حكيهما بعيداً كل البعد عن التغني القومي الساذج، إذ انتهج كل منهما منهج السرد وقصّا روايات أدرجاها في سياقات تاريخ فلسطين المتقلب.
أما إيليا سليمان فكان اختياره مغايراً تماماً، إذ جاء السرد في أعماله متقطعاً متشظياً، باستثناء الجزء الأول في الزمن الباقي الذي سنتناوله لاحقاً. أما الخاصية الكبرى الثانية في أعمال إيليا سليمان، فهي أسلوبه الهزلي الساخرالذي جعل النقاد يقارنونه بباستر كيتن وجاك تاتي وحتى ناني موريتي، مقارنة كسولة في تقديرنا، قد يراد منها تيسير بيداغوجي للتعريف بأسلوب المخرج وتقريبه من ذهن المشاهد الغربي، ولكن المقارنة تحمل ضمنياً مزيجاً من الإعجاب والتعاطف المتعالي. وأما الخاصية الكبرى الثالثة فهي السيرة الذاتية ومشاركة المخرج في التمثيل للقيام بدوره هو كإيليا سليمان.
إن هذه الخاصيات الثلاث التي نجدها مجتمعة في كل أعماله من ناحية، ولكن في تركيبة تختلف من فيلم إلى فيلم من ناحية أخرى، جعلت منه سينمائياً متفرداً لا مثيل له في العالم العربي. صحيح، يمكن ملاحظتها في أعمال بعض المخرجين الذين ينتمون إلى جيله، ولكنها وردت متفرقة أو في أشكال مختلفة، فيجدر هنا ذكر عبد الرحمن سييساكو (ولعلنا نتذكر ظهور إيليا سليمان في فيلم «باماكو» في دور راعي بقر في مشهد طريف إلى جانب داني غلوفر والمخرج الكنغولي زيكا لابلين وعبد الرحمان سيساكو نفسه) والجيلاني السعدي (تونس) أو حتى فوزي بن سعيدي (المغرب)، وإن كان هذان الأخيران أصغر منه ببعض سنوات. إذ تجاوزوا كلهم، وإن بدرجات متفاوتة، الخطية في السرد ومارسوا السخرية بشكل ما، كما تقمصوا أحياناً بعض الأدوار في أفلامهم، مما جعلهم يبتعدون عن سابقيهم مثل ميشال خلايفي ويسري نصرالله والنوري بوزيد ومرزاق علواش وجيلالي فرحاتي الذين ما انفكوا يمارسون القصّ السردي، وإن جاء ذلك في أشكال جديدة، والذين لم يظهروا إلا نادراً في أعمالهم، بالرغم مما يتّسمون به من ذاتية في مقارباتهم والتي تميزهم بدورهم عن سابقيهم.
طبعاً، هناك بعض من التعميم في تحليلنا، فلا يمكن وجود الميزات الثلاث المذكورة سابقاً مجتمعة لدى هؤلاء، ومن المتأكد أن سليمان، مقارنة بأنداده، كان أكثرهم قسوة في السخرية وجموحاً تجاه الخطية السردية وراديكالية في السيرة الذاتية.
لنضف إلى ذلك كله أن إيليا سليمان توقف عن الدراسة باكراً، في السابعة عشر من عمره، ورغم محاولاته اللاحقة خارج فلسطين، فلم يثابر حتى النهاية في مسار بذاته. لا بد كذلك من التأكيد على أن علاقته بمسقط رأسه كانت أليمة، فضلاً على مأساة شعبه الجماعية، فكان أكثرهم غربة بمعنيها الخارجي والداخلي، كما كان أكثرهم تشبثاً بعالمه الداخلي وهواجسه الشخصية. أما الميزة الأخرى التي لا بد من ذكرها فهي نزعته التأملية في الصورة، الميتاسينماتغرافية بالتحديد، والتي قد ترجع، كما ذكر في لقاءات صحفية عديدة، إلى أن قراءاته عن السينما سبقت ارتياده لها.
من هنا جاءت مفارقة سليمان الكبرى: فهو يبدو بعيداً عن القضية (الوطنية والاجتماعية والسياسية) وأقرب من مسقط رأسه ومنشأه (مدينته وبيته وطفولته وأبيه وأمه)، غريباً ذا أفكار ثابتة، كأنما لم يبق له من بلده سوى هذا الجزء من حياته، لم يبق له إلا ذكريات طفولته، وبيته وحارته، لا أمتعة له سواها، يحملها في حله وترحاله، تيمات ما انفك يتناولها في هذا الاتجاه أو في ذاك، في ضرب من العلاج النفسي الجامح، توجب عليه القيام به بوعي أو بدون وعي.
في شريطه الأول «سجل اختفاء»، يسجل المخرج كل يوم انطباعات عودته لبلده بغية إخراج فيلم (وتجدر الإشارة إلى أن هذه العودة تشبه عودة عبد الرحمان سيسا كو لسوكولو في «الحياة على الأرض»، 1997، ومحمد صالح هارون لندجامينا في «باي باي إفريقيا»، 1998)، يلتقط صوراً وحكايات قصيرة، يفتكها من الزمن المار (لا يخفي سليمان إعجابه بأفلام فيم فنديرس وتأثيرها عليه)، منطلقاً من واقع جامد حيث لا يحدث شيء، فينتظر المرء (أما الإشارة إلى الكاتب المسرحي سامويل بيكيت فهي جلية من خلال لافتة معلقة على حائط)، ينتظر المرء في المنزل وفي شرفات المقاهي. نشاهد سليمان نفسه جالسا إلى جانب صديق له كأنما ينتظر حفلاً أو مشهداً مستحيلاً.
يبدأ الفيلم بلقطة كبيرة على وجه الأب. من هنا يبدأ كل شيء. من بشرة وجه الأب النائم. تصل إلى مسامعنا هجهجة أنفاسه ولكن يصعب تشخيصه بصرياً من فرط قربه لنا. صورة مجرّدة تتشكل شيئاً فشيئاً بفعل حركة للكامرا دائرية بطيئة. بعد وجه الأب يأتي جسم الأم وهي جالسة على أريكة تماماً أمام الكامرا، تنتظر أختها للخروج لتقديم التعازي. تتحدث طويلاً، في سيل لا متناهي من الكلمات، في بقبقة مضحكة حول عيوب الجارة، في تناقض مع صمت الأب في اللقطة السابقة، موسيقى عائلية عابرة لطيفة.
مشهدان في لقطتين يفتتحان إيقاع الفيلم. كل شيء ينطلق من البيت ثم تتوالى المشاهد، مشاهد هزلية، في زمن راكد مستقطع ضائع، أحداث منقوصة لا بداية لها ولا نهاية، تتكرر مع اختلافات ضئيلة لا يكاد المرء يدركها، سيارة تتوقف فجأة أمام محل تجاري، يخرج السائق وصاحبه كل من جهته، في حالة من الخصام، كل منهما على استعداد لضرب الآخر، صديقان حامل كل منهما قضيباً حديدياً، كادا يقترفان ما لا يحمد عقباه لولا تدخل أشخاص من أهل الخير، خرجوا مسرعين من المحل لوقف النزاع. يعود الصديقان إلى السيارة كطفلين متصالحين كأن شيئاً لم يكن؛ سيارة أخرى تتوقف في نفس المكان وبنفس الطريقة، تحمل هذه المرة إبناً وأباه، أباً في حالة من الغضب لا مثيل لها، مصمم على معاقبة نجله لسبب نجهله، ولكن لا شيء يحدث، وذلك بفضل وسطائنا الأبرار؛ في المرة الثالثة، وفي وقت لاحق في الفيلم، يخرج شخصان أيضاً من السيارة، ولكن ليأخذ كل منهما مكان الآخر، مخيبين أمال الوسطاء والمشاهدين.
وضعيات يمتزج فيها العنف المبطن بالانتظار اليائس والتكرار العبثي، تحت أنظار مخرج يصعب تبين العطف من المرارة فيها. مخرج نراه يعيد رؤية كل هذه المشاهد من خلال الصور التي التقطها، كليشيهات تملأ الفيلم.
نحن في الناصرة مع إيليا سليمان وهو جالس في غالب الأحيان أمام محل بيع الذكريات، هولي لاند، حيث نرى صديقه صاحب المتجر منهمكاً في حركة ميكانيكية، يملأ قارورات صغيرة من الماء المقدّسة، واضعاً صليباً مصغراً على كل سدادة. أو منغمساً في إعادة ترتيب جَمل فقد توازنه على الرف بجانب عشرات من الجمال الأخرى، وكلما أوقفه على ساقيه سقط من جديد… ثم نرى ثانية الأب يداعب كلبه أو ينشغل بشؤون عصفوره والأم في المطبخ أو رفقة صديقاتها. لا سرد مسترسل إذن، حتى في القدس.
كل ما في الأمر هو أن الأحداث تأخذ هنا مجرى أكثر درامية لأن لها علاقة بالسياسة والصراع. فينقلب الهزل إلى السخرية، كمشهد الجنود الذين ينزلون من سيارة حربية بسرعة فائقة كأنهم في تدخل سريع، يهرولون الواحد تلوى الآخر فيصطفون أمام جدار للتبول... (أما التبول فكان موضوع نقاش جدي في بداية الفيلم بين الأصدقاء حول أطروحة أكاديمية تناولت بالبحث علاقة الإنسان بالقرد من خلال كيفية تحريكه لمؤخرته أثناء إخراج الماء من مثانته)... وتنطلق الأحداث ثانية. هكذا رسم سليمان أسلوبه
لن تتغير جوهرياً مقاربته في «يد الهية». هنا أيضاً يكون فؤاد سليمان سبباً في رجوع ابنه إيليا وذلك إثر توعك صحي مفاجئ. فتحتل صورة الأب مكانة أكبر، أكثر درامية وأكثر رمزية. يبدأ الفيلم بسانتا كلوز وهو يجري لاهثاً مرهقاً، تلاحقه مجموعة من الأطفال، يقذف وراءه كل اللعب التي كان يحملها آملاً أن يعدلوا عن ملاحقته، ولما يدرك قمة الربوة ويتوقف أمام الكنيسة الصغيرة، نكتشف في ذهول، والكامرا اقتربت منه، سكيناً مطعوناً في صدره.
الناصرة، يُـكتب إسم المدينة على الشاشة كعنوان. ثم تأتي القدس حيث تتغير الأجواء وتصبح أكثر تسيّساً، فتكتسي الصورة صبغة فرجوية، تكثر الأحداث ولكن دون خطية في السرد. لأن الأمر لا يتعلق بيوميات وإنما بعمليات، عمليات سيسجلها بلا ريب تاريخ السينما: إيليا سليمان ينفخ في بالونة تحمل صورة ياسر عرفات وهو في سيارته، أمام نقطة مراقبة، وعشيقته الجالسة بجانبه تنظر إليه كلها إعجاب وعطف. يفتح سقف السيارة ويترك البالونة تحلق في السماء، يندهش الجنود أمام المشهد الغريب فلا يدرون ما يفعلون أمام البالونة وهي تخترق شامخة الحاجز العسكري، يعبر ياسر عرفات سماء القدس كأيقونة طائرة، يمسح قمة الكنيسة، ولما يصل فوق المسجد الأقصى يدور حول قبته ويمكث هناك.
حينها يستغل العاشقان دهشة الجنود فيعبران بدورهما الحاجز مسرعين. هكذا يزخر الفيلم بعديد الوضعيات الغريبة التي لا تخلو من الاستفزاز الخفيف مثل مشهد إيليا سليمان وهو يقود سيارته، يأكل مشمشاً ولما ينتهي من أكلها، يرمي بالنواة عبر النافذة. تسقط النواة على دبابة إسرائيلية فتفجرها في لقطة كلها نار ودخان، ثم يواصل السائق-السينمائي طريقه في هدوء تام.
أو مشهد النينجا المقاتلة وهو أكثرها إثارة وسخرية وطرافة: تواجه المرأة فريقاً من الكومندوس الإسرائيلي، لافة وجهها بكوفية، تطير محلقة في السماء وتدور على ذاتها في سرعة مذهلة. حتى رصاص الكومندوس المتهاطل صوبها عجز عن إدراكها، تتوقف الرصاصة تلو الأخرى بالقرب منها دون المساس بها، فتدور حول رأسها في شكل هالة ملائكية، تستخدم السوبر وومن كوفيتها لافتكاك بندقية قائد الكومندوس، كما تحتمي بخارطة فلسطين الحديدية وتصوبها أمامها تجاه عدوها، تدور الخارطة حوله ثم تعود أدراجها فتصيب طائرة مروحية وتفجرها وهي تحلق في السماء.
مشهد في غاية من السخرية يمتزج فيه المقدس بالدنيوي والأيقونة بالعلامة والصورة بالبصري، مشهد يكرر مشاهد أخرى عديدة تتعلق بالمرأة. كنا شاهدناها مارّة وحدها حيناً ودافعة أمامها عربة طفل حيناً آخر، متحدية، في هدوء وشموخ، عساكر جمدوا في أماكنهم بمجرد مرورها. كل هذه المشاهد ليست إلا حكايات مصغرة، أغلبها بسيطة تذكرنا بـ «سجل اختفاء» حيث نرى الأب أو الأم وأحيانا الاثنين معاً في البيت، أو شاباً واقفاً في محطة نقل ينتظر فتاة لن تأتي أبداً، أو صاحب منزل في نزاع مستمر مع عمال الأشغال العمومية يجمع قارورات فارغة ويرصفها الواحدة جنب الأخرى كذخيرة حربية، يقذفها صوب أعوان البلدية كلما جاؤوا ينبهونه من مغبة معارضته لأشغال الطريق العام، أو ذلك الجار عديم التحضر الذي يرمي بمهملاته في حديقة جارته إلى أن جاء يوم ردت فيه الفعل فرمت بمهملاته أمام منزله، فعاب عليها تصرفها المنافي لحسن الجوار في انعدام تام لأي تجانس مع نفسه إلخ…
ثم نرى من جديد إيليا سليمان، وهو في حالة رجوع دائم، عاشقاً هذه المرة، وهادئاً كعادته، مشاهداً. ولكن يشاهد ماذا ؟ وكيف يمكن معرفة ذلك؟ فينتابنا انطباع بأن المشاهد هو الذي يولد الحدث وليس الحدث هو الذي يولد المشاهد
أما «الزمن الباقي»، فيبدأ هو أيضاً برجوع المخرج. ولكن البداية تأخذ شكل رحلة متقلبة مضطربة: أمام المطار، تستقبل سيارة تاكسي مسافراً في ليلة مظلمة، سائق السيارة إسرائيل، والمسافر ليس إلا إيليا سليمان، يجلس على المقعد الخلفي في الركن المظلم، نكاد لا نراه كأنما هو طيف.
في مقدمة اللقطة يتحدث السائق عبر الهاتف مع مصلحة شركة التاكسي ليطلب منها ألا تتصل به مجدداً لأنه متجه، حسب تعبيرة، "بعيداً، بعيداً جداً". ولكن فجأة ينقلب المناخ، وتسود الطريق ظلمة دامسة، ثم يأتي الرعد والمطر، يكتئب السائق فلم يعد يتبين الطريق ولا في أي اتجاه يسير، يحاول إعادة الاتصال بمصالح شركة التاكسي بدون جدوى، غموض يخيم على المشهد في حالة تقترب من التراجيديا. أما المسافر الراكن في مؤخرة السيارة، فلا ينبس ببنت شفة ولا يجيب حتى على أسئلة السائق الذي يغرق في تكرار السؤال "أين نحن؟"، ونغوص في العتمة... لقطة سوداء ثم يأتي التاريخ، لأول مرة، ومعه بداية حكاية.
تتتابع الأحداث في خطية غير معهودة. كان لا بد من الرجوع 60 سنة إلى الوراء حتى تبرز رغبة حقيقية في السرد. أمر مفهوم، فأصبح ممكناً بل ضرورياً كتابة هذا التاريخ. قبل 1948 كانت الخطية السردية ممكنة، ولكن منذ ذلك الحين تعطل التاريخ فكُـتبت التأتأة ُعلى أي قراءة، وكيف للقراءة ألا تكون متأتئة متلكئة؟ ناهيك عن سجل (اختفاء).
من هنا جاءت محاولة الخطية في تناول ما حدث قبل 48 وإن لم تخل هي الأخرى من التلعثم المضحك أحياناً: جندي عراقي يتقدم ثابت الخطى، ولكنه يجهل إلى أين هو متجه، يترك الآخرين ينيرون سبيله، فيمشي تارة في اتجاه وطوراً في الاتجاه المعاكس، متبعاً نصائح مجموعة من الشباب المناضلين الجالسين على شرفة مقهى من سكان البلد، مسلحين ولكنهم مطلعين على مجرى الأحداث النهائية.
نحن عدنا بعيداً إلى التاريخ، ولكننا لا نزال في عالم إيليا سليمان، بل في قلب عالمه. فمكوناته الأساسية باقية وثابتة: مقهى، شباب جالسون في شرفته، ينتظرون في صمت لا ندري ماذا، ولا ندري إلى ماذا ينظرون، مندهشين، مشاهدين بالقوة، في استعداد تقبل حدث لن يأتي، لا يمكن أن نراه في كل الحالات، فهم أمامنا ولكن المشهد في اتجاهنا نحن المشاهدين الحقيقيين كما لو كنا ممثلي المشهد المنتظر، صانعي الحدث المنشود.
هذه البنية ستطغى على البقية وتستعيد سيطرتها (لنلاحظ أن بقية عنوان الفيلم «الغائب الحاضر» انقلبت في الفرنسية). فبعد هذا الاستطراد الضروري يرجع سليمان إلى الحاضر، يرجع بعد قرابة ساعة، أي في منتصف الطريق، وتبقى آخر لقطة في هذا الرجوع إلى الوراء عالقة في الأذهان، أساسية وحاملة لكل دلالات الفيلم: أمام الصيدلية يشاهد الابن أباه يغالبه النوم ورأسه متدل على صدره. لقطة ننظر فيها طويلاً إلى إيليا وهو بصدد النظر طويلاً إلى أبيه.
ما الذي يحدث في ثنايا هذا الصمت؟ ثم نرجع إلى الحاضر، يدخل الابن البيت فيواصل مشاهدته الصامتة الهادئة للعالم وهو لا يتحرك، في انعدام للحركة مفارقي جداً، فما شاهدنا أبداً ممثلاً يشبه الكامرا مثل إيليا سليمان. دعنا نمعن النظر فيه: إنه لا يمشي مشياً عادياً مسترسلاً، فلا يكاد يخطو خطوات حتى يتوقف ثم يواصل سيره من جديد ليتوقف ثانية وهكذا دواليك، كما لو كان روبوتاً، آلة مسيرة، مجنداً عينيه فقط إلى حد الانتفاخ من كثرة الاستعمال، يدير رأسه شمالاً ويميناً في حركات بانورامية خاضعة لأحداث محكوم عليها بالتكرار.
ثم المقهى من جديد وشرفته والأصدقاء رفاق القهوة والسيجارة (التدخين نشاط مستمر في أفلام سليمان)، نجدهم في نفس المكان الذي مر به سنة 48 الجندي العراقي القادم لمناصرة فلسطين المهددة، في نفس هذا المكان نرى الآن شاباً يتقدم بخطى متدحرجة خالياً من السلاح، هذا كل ما يمكن لإيليا سليمان أن يشاهده وهو جالس مكان أبيه بمعية رفاقه، كل ذلك على نغمات انيو موريكوني في فيلم «العراب» لفرنسيس فورد كوبولا. نستالجيا وتأمُّل.
إذا كان «سجل اختفاء» فيلم الرجوع فـ «الزمن الباقي» هو فيلم عن الرجوع. كنا ذكرنا أن سليمان قرأ عن الأفلام قبل مشاهدتها؛ إن هذه الثقافة الميتاسينماتوغرافية تتجلى بوضوح في «الزمن الباقي». في الجزء التاريخي من الفيلم نشاهد مقطعاً من شريط «سبارتاكوس» في المدرسة خلال عرض تحت إشراف أولغا (وقد تجاوزتها الأحداث أثناء قبلة). فيلم سردي وتاريخي بامتياز يروي قصة ثورة فشلت، ولكنها بطولية وغير ميؤوس منها. كان يجب فقط الانتظار، انتظار مرور الزمن. أما الآن، فلا نزال في الزمن الباقي.
هذا أول ما يلفت الانتباه في أفلامه، خلافاً لما يمكن أن ننتظر من مخرج فلسطيني. فالقضية "تفرض" السرد مبدئياً، وذلك ما فعله ميشال خلايفي وهاني أبو أسعد، وإن كان حكيهما بعيداً كل البعد عن التغني القومي الساذج، إذ انتهج كل منهما منهج السرد وقصّا روايات أدرجاها في سياقات تاريخ فلسطين المتقلب.
أما إيليا سليمان فكان اختياره مغايراً تماماً، إذ جاء السرد في أعماله متقطعاً متشظياً، باستثناء الجزء الأول في الزمن الباقي الذي سنتناوله لاحقاً. أما الخاصية الكبرى الثانية في أعمال إيليا سليمان، فهي أسلوبه الهزلي الساخرالذي جعل النقاد يقارنونه بباستر كيتن وجاك تاتي وحتى ناني موريتي، مقارنة كسولة في تقديرنا، قد يراد منها تيسير بيداغوجي للتعريف بأسلوب المخرج وتقريبه من ذهن المشاهد الغربي، ولكن المقارنة تحمل ضمنياً مزيجاً من الإعجاب والتعاطف المتعالي. وأما الخاصية الكبرى الثالثة فهي السيرة الذاتية ومشاركة المخرج في التمثيل للقيام بدوره هو كإيليا سليمان.
إن هذه الخاصيات الثلاث التي نجدها مجتمعة في كل أعماله من ناحية، ولكن في تركيبة تختلف من فيلم إلى فيلم من ناحية أخرى، جعلت منه سينمائياً متفرداً لا مثيل له في العالم العربي. صحيح، يمكن ملاحظتها في أعمال بعض المخرجين الذين ينتمون إلى جيله، ولكنها وردت متفرقة أو في أشكال مختلفة، فيجدر هنا ذكر عبد الرحمن سييساكو (ولعلنا نتذكر ظهور إيليا سليمان في فيلم «باماكو» في دور راعي بقر في مشهد طريف إلى جانب داني غلوفر والمخرج الكنغولي زيكا لابلين وعبد الرحمان سيساكو نفسه) والجيلاني السعدي (تونس) أو حتى فوزي بن سعيدي (المغرب)، وإن كان هذان الأخيران أصغر منه ببعض سنوات. إذ تجاوزوا كلهم، وإن بدرجات متفاوتة، الخطية في السرد ومارسوا السخرية بشكل ما، كما تقمصوا أحياناً بعض الأدوار في أفلامهم، مما جعلهم يبتعدون عن سابقيهم مثل ميشال خلايفي ويسري نصرالله والنوري بوزيد ومرزاق علواش وجيلالي فرحاتي الذين ما انفكوا يمارسون القصّ السردي، وإن جاء ذلك في أشكال جديدة، والذين لم يظهروا إلا نادراً في أعمالهم، بالرغم مما يتّسمون به من ذاتية في مقارباتهم والتي تميزهم بدورهم عن سابقيهم.
طبعاً، هناك بعض من التعميم في تحليلنا، فلا يمكن وجود الميزات الثلاث المذكورة سابقاً مجتمعة لدى هؤلاء، ومن المتأكد أن سليمان، مقارنة بأنداده، كان أكثرهم قسوة في السخرية وجموحاً تجاه الخطية السردية وراديكالية في السيرة الذاتية.
لنضف إلى ذلك كله أن إيليا سليمان توقف عن الدراسة باكراً، في السابعة عشر من عمره، ورغم محاولاته اللاحقة خارج فلسطين، فلم يثابر حتى النهاية في مسار بذاته. لا بد كذلك من التأكيد على أن علاقته بمسقط رأسه كانت أليمة، فضلاً على مأساة شعبه الجماعية، فكان أكثرهم غربة بمعنيها الخارجي والداخلي، كما كان أكثرهم تشبثاً بعالمه الداخلي وهواجسه الشخصية. أما الميزة الأخرى التي لا بد من ذكرها فهي نزعته التأملية في الصورة، الميتاسينماتغرافية بالتحديد، والتي قد ترجع، كما ذكر في لقاءات صحفية عديدة، إلى أن قراءاته عن السينما سبقت ارتياده لها.
من هنا جاءت مفارقة سليمان الكبرى: فهو يبدو بعيداً عن القضية (الوطنية والاجتماعية والسياسية) وأقرب من مسقط رأسه ومنشأه (مدينته وبيته وطفولته وأبيه وأمه)، غريباً ذا أفكار ثابتة، كأنما لم يبق له من بلده سوى هذا الجزء من حياته، لم يبق له إلا ذكريات طفولته، وبيته وحارته، لا أمتعة له سواها، يحملها في حله وترحاله، تيمات ما انفك يتناولها في هذا الاتجاه أو في ذاك، في ضرب من العلاج النفسي الجامح، توجب عليه القيام به بوعي أو بدون وعي.
«سجل اختفاء»
في شريطه الأول «سجل اختفاء»، يسجل المخرج كل يوم انطباعات عودته لبلده بغية إخراج فيلم (وتجدر الإشارة إلى أن هذه العودة تشبه عودة عبد الرحمان سيسا كو لسوكولو في «الحياة على الأرض»، 1997، ومحمد صالح هارون لندجامينا في «باي باي إفريقيا»، 1998)، يلتقط صوراً وحكايات قصيرة، يفتكها من الزمن المار (لا يخفي سليمان إعجابه بأفلام فيم فنديرس وتأثيرها عليه)، منطلقاً من واقع جامد حيث لا يحدث شيء، فينتظر المرء (أما الإشارة إلى الكاتب المسرحي سامويل بيكيت فهي جلية من خلال لافتة معلقة على حائط)، ينتظر المرء في المنزل وفي شرفات المقاهي. نشاهد سليمان نفسه جالسا إلى جانب صديق له كأنما ينتظر حفلاً أو مشهداً مستحيلاً.
يبدأ الفيلم بلقطة كبيرة على وجه الأب. من هنا يبدأ كل شيء. من بشرة وجه الأب النائم. تصل إلى مسامعنا هجهجة أنفاسه ولكن يصعب تشخيصه بصرياً من فرط قربه لنا. صورة مجرّدة تتشكل شيئاً فشيئاً بفعل حركة للكامرا دائرية بطيئة. بعد وجه الأب يأتي جسم الأم وهي جالسة على أريكة تماماً أمام الكامرا، تنتظر أختها للخروج لتقديم التعازي. تتحدث طويلاً، في سيل لا متناهي من الكلمات، في بقبقة مضحكة حول عيوب الجارة، في تناقض مع صمت الأب في اللقطة السابقة، موسيقى عائلية عابرة لطيفة.
مشهدان في لقطتين يفتتحان إيقاع الفيلم. كل شيء ينطلق من البيت ثم تتوالى المشاهد، مشاهد هزلية، في زمن راكد مستقطع ضائع، أحداث منقوصة لا بداية لها ولا نهاية، تتكرر مع اختلافات ضئيلة لا يكاد المرء يدركها، سيارة تتوقف فجأة أمام محل تجاري، يخرج السائق وصاحبه كل من جهته، في حالة من الخصام، كل منهما على استعداد لضرب الآخر، صديقان حامل كل منهما قضيباً حديدياً، كادا يقترفان ما لا يحمد عقباه لولا تدخل أشخاص من أهل الخير، خرجوا مسرعين من المحل لوقف النزاع. يعود الصديقان إلى السيارة كطفلين متصالحين كأن شيئاً لم يكن؛ سيارة أخرى تتوقف في نفس المكان وبنفس الطريقة، تحمل هذه المرة إبناً وأباه، أباً في حالة من الغضب لا مثيل لها، مصمم على معاقبة نجله لسبب نجهله، ولكن لا شيء يحدث، وذلك بفضل وسطائنا الأبرار؛ في المرة الثالثة، وفي وقت لاحق في الفيلم، يخرج شخصان أيضاً من السيارة، ولكن ليأخذ كل منهما مكان الآخر، مخيبين أمال الوسطاء والمشاهدين.
وضعيات يمتزج فيها العنف المبطن بالانتظار اليائس والتكرار العبثي، تحت أنظار مخرج يصعب تبين العطف من المرارة فيها. مخرج نراه يعيد رؤية كل هذه المشاهد من خلال الصور التي التقطها، كليشيهات تملأ الفيلم.
نحن في الناصرة مع إيليا سليمان وهو جالس في غالب الأحيان أمام محل بيع الذكريات، هولي لاند، حيث نرى صديقه صاحب المتجر منهمكاً في حركة ميكانيكية، يملأ قارورات صغيرة من الماء المقدّسة، واضعاً صليباً مصغراً على كل سدادة. أو منغمساً في إعادة ترتيب جَمل فقد توازنه على الرف بجانب عشرات من الجمال الأخرى، وكلما أوقفه على ساقيه سقط من جديد… ثم نرى ثانية الأب يداعب كلبه أو ينشغل بشؤون عصفوره والأم في المطبخ أو رفقة صديقاتها. لا سرد مسترسل إذن، حتى في القدس.
كل ما في الأمر هو أن الأحداث تأخذ هنا مجرى أكثر درامية لأن لها علاقة بالسياسة والصراع. فينقلب الهزل إلى السخرية، كمشهد الجنود الذين ينزلون من سيارة حربية بسرعة فائقة كأنهم في تدخل سريع، يهرولون الواحد تلوى الآخر فيصطفون أمام جدار للتبول... (أما التبول فكان موضوع نقاش جدي في بداية الفيلم بين الأصدقاء حول أطروحة أكاديمية تناولت بالبحث علاقة الإنسان بالقرد من خلال كيفية تحريكه لمؤخرته أثناء إخراج الماء من مثانته)... وتنطلق الأحداث ثانية. هكذا رسم سليمان أسلوبه
«يد الهية»
لن تتغير جوهرياً مقاربته في «يد الهية». هنا أيضاً يكون فؤاد سليمان سبباً في رجوع ابنه إيليا وذلك إثر توعك صحي مفاجئ. فتحتل صورة الأب مكانة أكبر، أكثر درامية وأكثر رمزية. يبدأ الفيلم بسانتا كلوز وهو يجري لاهثاً مرهقاً، تلاحقه مجموعة من الأطفال، يقذف وراءه كل اللعب التي كان يحملها آملاً أن يعدلوا عن ملاحقته، ولما يدرك قمة الربوة ويتوقف أمام الكنيسة الصغيرة، نكتشف في ذهول، والكامرا اقتربت منه، سكيناً مطعوناً في صدره.
الناصرة، يُـكتب إسم المدينة على الشاشة كعنوان. ثم تأتي القدس حيث تتغير الأجواء وتصبح أكثر تسيّساً، فتكتسي الصورة صبغة فرجوية، تكثر الأحداث ولكن دون خطية في السرد. لأن الأمر لا يتعلق بيوميات وإنما بعمليات، عمليات سيسجلها بلا ريب تاريخ السينما: إيليا سليمان ينفخ في بالونة تحمل صورة ياسر عرفات وهو في سيارته، أمام نقطة مراقبة، وعشيقته الجالسة بجانبه تنظر إليه كلها إعجاب وعطف. يفتح سقف السيارة ويترك البالونة تحلق في السماء، يندهش الجنود أمام المشهد الغريب فلا يدرون ما يفعلون أمام البالونة وهي تخترق شامخة الحاجز العسكري، يعبر ياسر عرفات سماء القدس كأيقونة طائرة، يمسح قمة الكنيسة، ولما يصل فوق المسجد الأقصى يدور حول قبته ويمكث هناك.
حينها يستغل العاشقان دهشة الجنود فيعبران بدورهما الحاجز مسرعين. هكذا يزخر الفيلم بعديد الوضعيات الغريبة التي لا تخلو من الاستفزاز الخفيف مثل مشهد إيليا سليمان وهو يقود سيارته، يأكل مشمشاً ولما ينتهي من أكلها، يرمي بالنواة عبر النافذة. تسقط النواة على دبابة إسرائيلية فتفجرها في لقطة كلها نار ودخان، ثم يواصل السائق-السينمائي طريقه في هدوء تام.
أو مشهد النينجا المقاتلة وهو أكثرها إثارة وسخرية وطرافة: تواجه المرأة فريقاً من الكومندوس الإسرائيلي، لافة وجهها بكوفية، تطير محلقة في السماء وتدور على ذاتها في سرعة مذهلة. حتى رصاص الكومندوس المتهاطل صوبها عجز عن إدراكها، تتوقف الرصاصة تلو الأخرى بالقرب منها دون المساس بها، فتدور حول رأسها في شكل هالة ملائكية، تستخدم السوبر وومن كوفيتها لافتكاك بندقية قائد الكومندوس، كما تحتمي بخارطة فلسطين الحديدية وتصوبها أمامها تجاه عدوها، تدور الخارطة حوله ثم تعود أدراجها فتصيب طائرة مروحية وتفجرها وهي تحلق في السماء.
مشهد في غاية من السخرية يمتزج فيه المقدس بالدنيوي والأيقونة بالعلامة والصورة بالبصري، مشهد يكرر مشاهد أخرى عديدة تتعلق بالمرأة. كنا شاهدناها مارّة وحدها حيناً ودافعة أمامها عربة طفل حيناً آخر، متحدية، في هدوء وشموخ، عساكر جمدوا في أماكنهم بمجرد مرورها. كل هذه المشاهد ليست إلا حكايات مصغرة، أغلبها بسيطة تذكرنا بـ «سجل اختفاء» حيث نرى الأب أو الأم وأحيانا الاثنين معاً في البيت، أو شاباً واقفاً في محطة نقل ينتظر فتاة لن تأتي أبداً، أو صاحب منزل في نزاع مستمر مع عمال الأشغال العمومية يجمع قارورات فارغة ويرصفها الواحدة جنب الأخرى كذخيرة حربية، يقذفها صوب أعوان البلدية كلما جاؤوا ينبهونه من مغبة معارضته لأشغال الطريق العام، أو ذلك الجار عديم التحضر الذي يرمي بمهملاته في حديقة جارته إلى أن جاء يوم ردت فيه الفعل فرمت بمهملاته أمام منزله، فعاب عليها تصرفها المنافي لحسن الجوار في انعدام تام لأي تجانس مع نفسه إلخ…
ثم نرى من جديد إيليا سليمان، وهو في حالة رجوع دائم، عاشقاً هذه المرة، وهادئاً كعادته، مشاهداً. ولكن يشاهد ماذا ؟ وكيف يمكن معرفة ذلك؟ فينتابنا انطباع بأن المشاهد هو الذي يولد الحدث وليس الحدث هو الذي يولد المشاهد
«الزمن الباقي»
أما «الزمن الباقي»، فيبدأ هو أيضاً برجوع المخرج. ولكن البداية تأخذ شكل رحلة متقلبة مضطربة: أمام المطار، تستقبل سيارة تاكسي مسافراً في ليلة مظلمة، سائق السيارة إسرائيل، والمسافر ليس إلا إيليا سليمان، يجلس على المقعد الخلفي في الركن المظلم، نكاد لا نراه كأنما هو طيف.
في مقدمة اللقطة يتحدث السائق عبر الهاتف مع مصلحة شركة التاكسي ليطلب منها ألا تتصل به مجدداً لأنه متجه، حسب تعبيرة، "بعيداً، بعيداً جداً". ولكن فجأة ينقلب المناخ، وتسود الطريق ظلمة دامسة، ثم يأتي الرعد والمطر، يكتئب السائق فلم يعد يتبين الطريق ولا في أي اتجاه يسير، يحاول إعادة الاتصال بمصالح شركة التاكسي بدون جدوى، غموض يخيم على المشهد في حالة تقترب من التراجيديا. أما المسافر الراكن في مؤخرة السيارة، فلا ينبس ببنت شفة ولا يجيب حتى على أسئلة السائق الذي يغرق في تكرار السؤال "أين نحن؟"، ونغوص في العتمة... لقطة سوداء ثم يأتي التاريخ، لأول مرة، ومعه بداية حكاية.
تتتابع الأحداث في خطية غير معهودة. كان لا بد من الرجوع 60 سنة إلى الوراء حتى تبرز رغبة حقيقية في السرد. أمر مفهوم، فأصبح ممكناً بل ضرورياً كتابة هذا التاريخ. قبل 1948 كانت الخطية السردية ممكنة، ولكن منذ ذلك الحين تعطل التاريخ فكُـتبت التأتأة ُعلى أي قراءة، وكيف للقراءة ألا تكون متأتئة متلكئة؟ ناهيك عن سجل (اختفاء).
من هنا جاءت محاولة الخطية في تناول ما حدث قبل 48 وإن لم تخل هي الأخرى من التلعثم المضحك أحياناً: جندي عراقي يتقدم ثابت الخطى، ولكنه يجهل إلى أين هو متجه، يترك الآخرين ينيرون سبيله، فيمشي تارة في اتجاه وطوراً في الاتجاه المعاكس، متبعاً نصائح مجموعة من الشباب المناضلين الجالسين على شرفة مقهى من سكان البلد، مسلحين ولكنهم مطلعين على مجرى الأحداث النهائية.
نحن عدنا بعيداً إلى التاريخ، ولكننا لا نزال في عالم إيليا سليمان، بل في قلب عالمه. فمكوناته الأساسية باقية وثابتة: مقهى، شباب جالسون في شرفته، ينتظرون في صمت لا ندري ماذا، ولا ندري إلى ماذا ينظرون، مندهشين، مشاهدين بالقوة، في استعداد تقبل حدث لن يأتي، لا يمكن أن نراه في كل الحالات، فهم أمامنا ولكن المشهد في اتجاهنا نحن المشاهدين الحقيقيين كما لو كنا ممثلي المشهد المنتظر، صانعي الحدث المنشود.
هذه البنية ستطغى على البقية وتستعيد سيطرتها (لنلاحظ أن بقية عنوان الفيلم «الغائب الحاضر» انقلبت في الفرنسية). فبعد هذا الاستطراد الضروري يرجع سليمان إلى الحاضر، يرجع بعد قرابة ساعة، أي في منتصف الطريق، وتبقى آخر لقطة في هذا الرجوع إلى الوراء عالقة في الأذهان، أساسية وحاملة لكل دلالات الفيلم: أمام الصيدلية يشاهد الابن أباه يغالبه النوم ورأسه متدل على صدره. لقطة ننظر فيها طويلاً إلى إيليا وهو بصدد النظر طويلاً إلى أبيه.
ما الذي يحدث في ثنايا هذا الصمت؟ ثم نرجع إلى الحاضر، يدخل الابن البيت فيواصل مشاهدته الصامتة الهادئة للعالم وهو لا يتحرك، في انعدام للحركة مفارقي جداً، فما شاهدنا أبداً ممثلاً يشبه الكامرا مثل إيليا سليمان. دعنا نمعن النظر فيه: إنه لا يمشي مشياً عادياً مسترسلاً، فلا يكاد يخطو خطوات حتى يتوقف ثم يواصل سيره من جديد ليتوقف ثانية وهكذا دواليك، كما لو كان روبوتاً، آلة مسيرة، مجنداً عينيه فقط إلى حد الانتفاخ من كثرة الاستعمال، يدير رأسه شمالاً ويميناً في حركات بانورامية خاضعة لأحداث محكوم عليها بالتكرار.
ثم المقهى من جديد وشرفته والأصدقاء رفاق القهوة والسيجارة (التدخين نشاط مستمر في أفلام سليمان)، نجدهم في نفس المكان الذي مر به سنة 48 الجندي العراقي القادم لمناصرة فلسطين المهددة، في نفس هذا المكان نرى الآن شاباً يتقدم بخطى متدحرجة خالياً من السلاح، هذا كل ما يمكن لإيليا سليمان أن يشاهده وهو جالس مكان أبيه بمعية رفاقه، كل ذلك على نغمات انيو موريكوني في فيلم «العراب» لفرنسيس فورد كوبولا. نستالجيا وتأمُّل.
إذا كان «سجل اختفاء» فيلم الرجوع فـ «الزمن الباقي» هو فيلم عن الرجوع. كنا ذكرنا أن سليمان قرأ عن الأفلام قبل مشاهدتها؛ إن هذه الثقافة الميتاسينماتوغرافية تتجلى بوضوح في «الزمن الباقي». في الجزء التاريخي من الفيلم نشاهد مقطعاً من شريط «سبارتاكوس» في المدرسة خلال عرض تحت إشراف أولغا (وقد تجاوزتها الأحداث أثناء قبلة). فيلم سردي وتاريخي بامتياز يروي قصة ثورة فشلت، ولكنها بطولية وغير ميؤوس منها. كان يجب فقط الانتظار، انتظار مرور الزمن. أما الآن، فلا نزال في الزمن الباقي.