من أرض الشعر إلى اللامكان (قراءة في لامكان الشاعر سهراب سبهري)

2018-03-30 11:00:00

من أرض الشعر إلى اللامكان (قراءة في لامكان الشاعر سهراب سبهري)

تجتاز قصيدة سهراب عن لامكانه تقليد الجزالة الشعريّة، كما تجتاز واقع القصيدة بوصفها فعلاً يوميّاً، بل حتى أنّها تجتاز العرفان الصوفيّ، لتشكّل عوالمها الخاصّة لكن بصوفيّة مانويّة أو بوذية أو زرادشتية، وكأنّها آيات من نفخ روح المعنى من تلك العوالم التي تجتاز الأرضيّ إلى ما خلف لامكان أرضيّ آخر، حيث ما يمكن أن يمثّل جنة فردوسيّة لزوجين كآدم وحوّاء إلى جنة أرضية لا تسع سوى الشاعر متأبطاً وحدته التي تغدو من شدة وحدتها حركة نسيميّة رقيقة كالمعنى وحادة تجرح الخيال.

للشاعر الإيراني سهراب سبهري (1928-1980) تجربة شعرية ألهمت جيلاً كاملاً في إيران، ذا طابع حداثويّ متصل بالجذور والأصول للمدوّنة الضخمة من الشعر الفارسيّ بمختلف مراحله. حمل سهراب في تجربته الشعريّة قيم الحداثة والتحرّر الشعريّ، فكان رائداً في تحرير الشعر في الجيل الذي تلا نيما يوشج والحركة الحداثية للشعر الفارسيّ الحديث، لكن ما ميّز سهراب عن أقرانه هو أنّه حمل الصور مركّبة بما يشبه تجريدات وسُريالية بيكاسو وسلفادور دالي.

قدّم سهراب في شعره صوراً وتركيبات شعرية غاية في الرقّة والاحتراف، بحيث تبدو بسيطة كالماء ومعقّدة بالنسبة لمن ينظر إليها من خلف ستار، وأنّه بنى فضاء وأرضاً خاصة به وبالقصيدة الشعريّة، فنجح في أن يكون شاعراً وفناناً تشكيلياً وخطاطاً بآن، يحمل صوره الشعريّة ويودعها في لوحاته ويخطّها عبر نفث إحساسه في الكلمات.

هيجستان/ من اللامكان إلى ما خلفه

من خلال ملامح اللامكان في قصيدة سهراب تبرز ملامح أرض موعودة، مليئة بالحبّ، لكنّها ليست مكاناً سماويّاً حتماً لما لها من علاقة بالأرضيّ، فهي تفيض بتويجات تحمل أخبار تفتّح الزهر في أقصى الأرض، وهي تحملُ آثار فرسان أرقّاء يعتلون ربوة من شقائق النعمان، وفي هذه الأرض تدقّ أجراس المطر حيث تظمأ أوراق الشجر، إنّها ملامح "هيجستان/ لامكان" سهراب الأرضيّة، وفيها يبدو الجمال والحياة في أبهى صورها، لكن وراء هذا الجمال تبدو الوحدة الصامتة والرقيقة، لدرجة أنّه يجرحها حضور أيّ قدم غريبة، إنّها تذكرنا هنا بجنة آدم وحوّاء حيث كانا وحيدين في لامكان سماويّ بالضدّ من لامكان سهراب، حيث كان كلّ شيء كما يشتهي المرء، لكنّ الإنسان الذي جُبل على العيش مع المجموعة مهما كان الأذى الذي سيطاله حتى وإن كان ثمنه ترك الجنان، فكان الخروج من الجنة، ليكون امتحان الرغبة في حياة شقاء، لكن مع الجماعة البشرية التي ستتوالد من رغباتهما اللانهائية في أرض الرغبات، بعيداً عن المكان السماويّ ذي الرغبات المتحقّقة دون أن تشتهي عدم وجودها وتوافرها.

إذن لامكان سهراب أرضيّ، لكنّه فيها وحيد، وفي وحدته الرقيقة التي يستلذّ بها يخشى تفطّرها الذي يبدو مشتهى بذات اللحظة، فسهراب، يطلب ضمناً من الآخرين أن يقتحموا عليه وحدته وعزلته، وإلا فما معنى أن يكرّر ”إن جئتم في طلبي“، فهذا اللامكان الذي تأتيه الأشياء دون لذة غيابها غير مشتهاة، فالأرض التي يغطّيها العطش واليباس وحوافر خيل بغية الحرب، على الرغم من تناقضاتها تضمّ أيضاً الحبّ والزهر وشقائق النعمان حتى وإن كانت تحمل المتاعب، إلا أنّها تحمل الشيء ونقيضه، تحمل الرغبة والاشتهاء، وتحمل التحقّق والتعثّر أحياناً، وبذلك تشيع لذة تفوق ما في اللامكان السماويّ أو الأرضيّ.
 
من لامكان الشعر إلى لامكان اللون

تجدر الإشارة إلى تجربة سهراب سبهري الفنيّة، حيث أنّه عرف كفنان لا تقلّ لوحاته أثرا وتأثيرا عن أشعاره، فهي رقيقة مثلها وتسافر كما قصائده خلف حدود اللامكان، حيث الطبيعة والأشجار، والحيوانات، إلى جانب وحدة الشاعر الغارقة في السكون، ومع "موت اللون" وهو من دواوينه الأثيرة التي حفلت بتجربة مضرّجة باللون فاقدا حيوية الحضور، تجده يقول حياله: 

لقد نسيتُ الرؤيا على وجه الأرض،
أسطورة تفتّق أزهار اللون.
يجب العبور من منحنى هذا الدرب للمضيّ بدون كلام :
ثمة لون جنب هذا الليل اللانهائي قد مات.

تمتزج لاأمكنة الشاعر ولاأمكنة الفنان تدريجا باللون والكلمة والصور، وعوض أن تكوّن مزيجا متينا وصلبا، يسوّي ويدحي الوحدة حتى ترقّ كضوء أو كجناحي فراشة رقيقة، يحرقها وقع الخطى، أو آنية خزفية تتفطّر لشدّة رقتها.

هيجستان/ أرض اللامكان، قصيدة (واحة في لحظة)

تجتاز قصيدة سهراب عن لامكانه تقليد الجزالة الشعريّة، كما تجتاز واقع القصيدة بوصفها فعلاً يوميّاً، بل حتى أنّها تجتاز العرفان الصوفيّ، لتشكّل عوالمها الخاصّة لكن بصوفيّة مانويّة أو بوذية أو زرادشتية، وكأنّها آيات من نفخ روح المعنى من تلك العوالم التي تجتاز الأرضيّ إلى ما خلف لامكان أرضيّ آخر، حيث ما يمكن أن يمثّل جنة فردوسيّة لزوجين كآدم وحوّاء إلى جنة أرضية لا تسع سوى الشاعر متأبطاً وحدته التي تغدو من شدة وحدتها حركة نسيميّة رقيقة كالمعنى وحادة تجرح الخيال.

يقول في قصيدة ”واحة في لحظة“:
إن جئتم في طلبي فأنا خلف اللامكان
وهو مكان ما  فخلف اللامكان تفيضُ عروق الهواء بتويجاتٍ
تحملُ أخباراً عن زهرة تفتّحت في أقصى أيكة في الأرض
وعلى الرمال آثار حوافر خيلِ فرسان أرقاء
اعتلوا صباحاً ربوةَ معراج شقائق النعمان
وخلف اللامكان مظلّة الرغبة مفتوحةٌ
فما أن تهبّ نسمةٌ للظمأ في صميم ورقة شجر
حتى تدقّ أجراس المطر
والمرء ها هنا وحيد
وفي وحدته هذه، يجري ظلُّ دردارٍ إلى الأبد
إن جئتم في طلبي مهلاً تعالوا، لئلّا تتفطّر
آنية وحدتي الخزفيةِ الرقيقةِ.

ومن اللامكان ينتقل سهراب إلى صرّة الكون وتحديد قبلة لامرئية، حيث أنّه يلجأ إلى الجوريّ الأحمر، حين يتوضّا لصلاة بنبض قلب النوافذ:

مسلمٌ أنا 
قبلتي، جوريٌّ أحمر
عين الماء موضع صلاتي
أسجد على النور
السهل سجادتي
أتوضأ بنبضات قلب النوافذ

ويلتئم اللامرئيّ مع النور والماء والجوريّ الأحمر ليجبل كينونة الشاعر، فيحمل العالم كشطحة صوفية فيصير "أنا اللامكان" "أنا الهيجستان" و"أنا اللاشيئستان"، ويدور ما بقيّ من مجرّات وأكوان حوله وهو مضرّج بالألوان والكلمات والنور.