ورشة عمل

2018-04-02 15:00:00

ورشة عمل
City Encountering the Sea I, Monther Jawabreh, Palestine, MediumDigital: Print, 2015

فدى جريس

كاتبة وقاصة فلسطينية

’عن شو المحاضرة؟‘ جلست منال بجانب أميمة وسط حشد النساء المجتمعات في القاعة الصغيرة، تعمّها الضوضاء وهن يثرثرن بانتظار بدء ورشة العمل التي أعلنت عنها المؤسسة الأجنبية.

’شو بيعرّفني... طبختي اليوم؟‘

’ملوخية...‘ أجابت بتعب، ’بس بلا لحمة. الله وكيلك يا دوب كان عندي شوية رز عملتهم معها.‘

هزت أميمة رأسها بأسف. ’واللي سامعتك. أنا قليت خُضرا... عفيف جاب شوية كوسا وباذنجان امبارح لما سكّر السوق...‘ على الرغم من استيقاظ الفقراء باكرًا فإنهم آخر من يذهب إلى السوق. لا خشية من أن يفوت الطازج. طعامهم عورة يجب سترها، محرج أليم الحكي إذا انسكب خارجًا. ’كلنا في الهوا سوا...‘ يتشابه الظرف ويتكرر العوز، وفي القرية الصغيرة ليس من سبل لتفاديه.

’عفيف بعده قاعد،‘ أكملت أميمة بانكسار. ’المصلحة سكّرت وما لقى شغل تاني. كل يوم بيطلع يدوّر وبيرجع خاطره مكسور.‘

تنهدت منال وهي تفرك عينيها. ’الله بيعين... عماد التاني مش ملحّق، بيطلع من الفجر لليل، ما بيشوف الاولاد. وكله ع مية شيكل، اذا كفّوا خبز ما بيكفوا طبيخ.‘

’هاي الدار جهزت!‘ أخبرها ذات صباح صيفي، و’الدار‘ غرفتان ومطبخ لا يحوي إلا ثلاجة مستعملة وبوتاجازاً قديماً. ’منتجوز، ومنخلّصها عمهلنا...‘ أردف برجاء. كان الأمل أكبر، وجد عملًا في بناء مستوطنة قريبة، ’بيشتغل في إسرائيل، يوميّته ميتين شيكل!‘ قالت أمه بفرح، لكن الجوع أبداً بالمرصاد. مع هبوب الانتفاضة وجد نفسه مطرودًا من عمله قابعًا في البيت، وهما ينتظران قدوم طفلهما الأول. تبعه ثلاثة آخرون، والسنوات تمر ما بين عمل متقطع وقلق مستشر أرهق الروح والجسد. أين وجهكِ الذابل مما كنت عليه؟ استطاعت إقناعه تحت ضغط الحاجة بالسماح لها بالعمل في تنظيف المنازل؛ وافق على مضض، وبدأت رحلتها المعذبة عند ’الست‘. في ذاك البيت الجميل بالمدينة، تكشّف فقر منال أمامها بوجع أكبر، فالفضلات التي ترميها سيدة المنزل لا تستطيع منال التفكير في شرائها، وتقبل الهدايا الصغيرة، من كعكة أو صفيحة جبن أو ثياب قديمة ينوون التخلص منها، فقط كي ترى فرحة عابرة في عيون أطفالها لا تستطيع توفيرها لهم.

’شو صار مع وائل؟‘ تساءلت أميمة بقلق.

غلى الدم في عروقها مجددًا. ’الله ينتقم منهم! نايمين في نص الليل فاتوا علينا طعمونا رعبة وأخذوه! قال كاين في مظاهرة. صار عماد رايح أربع مرات ومش كاينين يفلّتوه ولا يعيّنوا له محكمة. بدنا نوقّف له محامي...‘ أوقفتها غصة خوف وألم.

’الله يفك أسره ويفرج همكم!‘

’تسلمي. والله مطفيّة يا أميمة... وشفقانة عالولاد، من يوم هالقصة وكل ليلة بيناموا جنبي. إذا أنا ما نسيت الرعبة، كيف هم!‘ ارتجفت وهي تستعيد مشهد اقتحامهم البيت، معيثين الخراب في أرجائه. كانت وعماد ذاهلين وسط الهجوم المفاجئ، ارتفع بكاء الصغار يملأ فضاء الليل الموحش. ’شو في؟‘ تساءل عبثًا؛ انقضوا على الصبي كالوحوش الكاسرة، لم يسعفه صراخه ولا محاولات أبيه المستميتة في أن يفهم. ’شو في؟‘ صاح بإلحاح وهو يحاول التصدي لهم، لكنهم أوسعوه ضربًا وأمسكوا بالطفل وسحبوه إلى الخارج بعنف، ومع جري العائلة وراءهم أطلق أحدهم طلقة في الهواء فجفل الجميع صائحين. دفعه الجنود إلى داخل ’الجيب‘ وانطلقوا بعيداً ومنال تنهار باكية، ’شو في؟‘ صرخت وهي تلطم وجهها، ’هاي تاني مرة بيوخذوه! الولد ما كمّل أربعتعشر سنة!‘

فرت دمعتان على خديها الآن؛ لم تنشف مقلتيها منذ ذاك اليوم. تفكر بابنها مرميًا هناك فيطفو ألمها وعذابها إلى السطح، مخلفًا لوعة تكاد أن تخنقها. من صبر ظفر، لكن صبر النسوة هنا حنظل، لم يجنين منه سوى المر. ’طوّلي بالك، منال...‘ ربتت أميمة على يدها بإشفاق. ’بكرا بيطلع!‘ ثم أضافت بصوت ساهم: ’عالقليلة إبنك عايش...‘

فطنت منال وشدت على يدها بألم. ’تآخذينيش أميمة، الواحد من اللي هو فيه... الله يرحمه...‘ لأميمة أيضًا وجع دفين. عشر سنوات وصورة ابنها لا تفارقها، شاب في السابعة عشرة خطفه الموت العبثي المتربص بهم جميعًا. ’راح في شربة ميّ... رصاصة من جندي، لا بتقدري تلحقيه ولا تجيبي حقك منه، حدا بيجيب حق من إسرائيل؟ وفي النهاية عشان شو؟‘ قالت بمرارة وهي تتلفت حولها، خوفًا من أن يسمعها أحد. لكن منال فهمت، وشدت على يدها ثانية. ’وجع الأمهات ما بيفهمه حدا.‘

دخلت سعاد القاعة تتأرجح في مشيتها الاستعراضية، وتتبعها سيدة أجنبية تنقل نظراتها في المكان بهيبة. تقدمتا حتى وقفت سعاد وأمسكت بالمايكروفون. ’مسا الخير. أهلا وسهلا بالجميع!‘

’مسا النور...‘ قالوا جميعًا.

’باحب اقدم لكم "جنيفر"، جاية من أميركا ورح تعطينا ورشة العمل اليوم. وبنحب نشكر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية على دعمها للورشة وتمكيننا من استضافتها.‘

صفقت النسوة وهن يعاينّ السيدة الشقراء على المنصة، وشعرت منال وأميمة بقليل من الراحة لتغيير الجو، فحاولتا الخروج من سحابة الهمّ، ولو قليلًا. مالت أميمة على منال غامزة: ’يا أرض اشتدّي... ما حدا قدّي!‘ كانت سعاد محظوظة في إكمالها دورات عدة للغة الإنجليزية، وحصلت على وظيفة جزئية كمنسقة برامج في المؤسسة الأجنبية، لتدر عليها راتبًا أعلى من أي دخل لنساء القرية وكثير من رجالها، فاعتبرت نفسها في مقام مديرة أو أعلى، وتغيرت مشيتها وثيابها وأسلوب حديثها، وسط ضحك وتهكم النسوة.

تابعت الآن، وهي تشد قامتها كي تداري قصرها: ’جنيفر رح تحكي عن مواضيع بتهمّنا إحنا النساء، وأنا رح أترجم لها، وفي الآخر بنفتح المجال للأسئلة. اتفضلي جنيفر،‘ وابتسمت لها ابتسامة عريضة.

’فكرك بيحكوا لنا شي نستفيد زي هديك المرة؟‘ همست أميمة بخبث. ندت عن منال ضحكة صغيرة رغمًا عنها. في المرة السابقة أتت مدربة بريطانية واجتمع النسوة في القاعة دون أن يعلمن أن الورشة ستكون عن ’الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة‘، وبدأت المدربة في شرح مفصل وعرض للصور وهن يزددن احمرارًا، ولم يخل الأمر من تعليقات وضحكات خافتة، ومنهن من شعرن بحرج شديد وغادرن القاعة. أما منال وأميمة فكانتا مسمّرتين مع من تبقّوا تستمعان باستغراق، خاصة أميمة، التي لازمتها الصدمة أيامًا بعد ذلك. ’يا عيب الشوم!‘

تنحنحت جنيفر الآن وقالت: مرهبا...‘ بعربية ركيكة، مبتسمة للحضور. رمقتها منال بفضول ساخر. تلك هي عادة ’الخواجات‘؛ هكذا تكون خطوة الاقتراب الأولى، وأول عدة النصب!

ابتسمت النسوة ناظرات إليها بترقب. ’إنهم يعرفوا يحكوا هالـ"ح"... أبدًا...‘ مالت أميمة على منال وهي تضحك.

’هُس... شو استفدنا من الـ"ح" دخْلِك!‘ قالت امرأة من الخلف. ’إسمعي!‘

تنحنحت جنيفر وقدمت نفسها وسعاد تترجم وتتعثر في المصطلحات. ’إسمي جنيفر ثومبسون وأنا من أميركا، أعمل في مجال تطوير قدرات الفرد، واليوم أريد أن أحدثكم عن النضوج الفردي النفسي وأساليب الحل السلمية للصراع.‘

’شو حَكَت؟‘ تساءلت أميمة.

’أظن بدها تحكي عن الخناقات مع الزلام.‘

’تيجي تشوف عندي!‘

أكملت المدربة قائلة: ’طبعًا كلنا نعرف أننا نعاني من كثير من الضغوط في حياتنا اليومية... مشاكل مادية، مشاكل مع من نحب، ضغط الحياة ومتاعبها، مشاكل العائلة والأولاد... وكل ذلك يُنتج العديد من الصراعات بيننا والآخرين، خاصة من هم قريبون منا.‘

هزت النسوة رؤوسهن موافقات. لوت منال شفتيها. مشاكل مع من نحب؟ إن الضغط الذي تعيش فيه مع عماد يكفي ليهد جبلًا. أما المشاكل المادية، فلا أظنك أيتها السيدة الشقراء قد خبرتيها بهذا الحضيض يومًا. ’قال صراعات... قولي تكسير روس!‘ قالت أميمة.

’هُس! تبهدليناش مع الأجنبية!‘ قالت السيدة من الخلف. تبادلت منال وأميمة نظرة خاطفة وخبأتا وجهيهما ضاحكتين. فتلك المرأة الضخمة، قوية البنية، معروفة بأنها ’ترقع‘ زوجها ’قتلِة‘ بين الحين والآخر، في انقلاب صارخ للموازين والأعراف في القرية، والمسكين شديد القصر والنحافة يحتمل بصمت، مكفرًا عن ذنوب أبناء جنسه!

’وكنقطة بداية لتعاملنا مع هذه المشاكل،‘ أكملت جنيفر بابتسامة حكيمة، ’يحب أن نعود إلى ذاتنا النقية الخالية من أي شوائب.‘ نعم، قالوا الكلام نفسه في الورشة السابقة. يجب التحضير للأمر بأن يهدأ الإنسان ويسترخي ويعود إلى ذاته. حين شاركت عماد بالنصيحة ذاك المساء كاد أن يقتلها: ’شو! رايحة تسمعي هيك حكي؟‘ وبعد أن أكدت له أنها لم تكن تعلم شيئًا عن موضوع الورشة قبل ذهابها إليها: ’يا غافل إلك الله!‘ هدأت ثورته، ورويدًا ندت عنه ابتسامة، ثم سألها: ’ما قالوا لكم تضووا شمع كمان؟‘ وانفجر كلاهما بالضحك وهو يهز رأسه.

’في البداية، يجب أن نجد مكانًا نحس فيه بسعادة وراحة، ربما أحضرنا بعض الزهور أو الشمع لإعطائه طابعًا هادئاً يبعث على السكينة والاسترخاء...‘ كان عماد على حق! ستخبره بصواب رأيه فور عودتها إلى البيت. بعد أن يجدا خبزًا ليأكلاه ويطعما أطفالهما.

’يجب أن تكون في هذا المكان خصوصية لنا... أن نحس فيه بأمان،‘ قالت جنيفر وابتسامتها تتسع بحنوّ.

خصوصية؟ افترضت المدربة في المرة السابقة توفر هذا العنصر أيضًا. ولم تشأ منال إزعاجها بواقعها الذي يحتم عليها مشاركة غرفتها وعماد مع اثنين من أطفالهما لضيق البيت، والانتظار حتى يناموا. ربما اعتبرت المدربة ذلك الفعل مشينًا خارقًا لحقوق الإنسان، حقوق الأهل والأطفال معًا، من يدري؟ ربما تبرعت لهما بثمن توسيع الدار.

’مالك منال؟ ليش بتضحكي؟‘

’أبدًا... سلامتك...‘ التفتت إلى أميمة. ’عندك محل تسترخي فيه؟‘

’بس تموت حماتي بآخذ أوضتها وباسترخي...‘ هذه المرة فلتت منهما ضحكة عالية واحمرت وجنتاهما والمدربة تنظر إليهما، فيما قطبت سعاد قائلة: ’معلش نسمع!‘

أكملت جنيفر، وهي تبتسم ابتسامة المعلم الطيب ثانية: ’في هذا المكان، يجب أن نؤدي بعض التمارين الجسدية والنفسية حتى نسترخي ونفكر بعقل سليم وهادئ. واليوم أريد أن أريكن بعض هذه التمارين.‘ بدأت بالحديث عن وحدة الجسد والروح، ومنسوب الطاقة، والجاذبية الكونية، ثم باشرت بعمل حركات خفيفة وشرح كل منها للحضور، اللواتي فتحن عيونهن اتساعًا ولم تفهمن شيئًا. وكان واضحًا أن سعاد لم تفهم أيضًا.

كان كل ما في جنيفر مختلفًا: ثيابها وشعرها ولون بشرتها، حتى ابتسامتها الواثقة. ترى ما شكل بيتها في بلادها؟ وأي ضغوط تعاني منها؟ هل لديها طفل في السجن؟ شردت منال وهي تتبعها بنظراتها. تزعجها سكينتهم الظاهرة وهدوؤهم المهذب. كل شيء في حياتهم مرتب، منظم، منغصاتهم تثير الضحك والشفقة في آن، الشفقة على نفسها أكثر من أي شيء، هي التي لا تمت حياتها لحياة هذه السيدة بأي صلة.

’هذا اللي بيعملوه في أميركا؟‘ همست إحداهن أخيراً من الخلف.

’فش عندهم احتلال هذول... هداة بال، طول النهار يربّوا كلاب!‘

’مالها هاي، شكلها هَبلة؟‘ تمتمت أميمة. كانت المدربة تقوم بحركات غريبة وتتحدث عن الـ’يِن‘ والـ’يانغ‘ وممرات الطاقة في الجسد، وسعاد تزداد تلعثماً وتشرح أمام الحشد الصامت. ثم اصطدمت بمنطقة وعرة، فقد توغل الشرح إلى تأثير ’اليوغا‘ على الجسد والرغبة الجنسية، وامتقع لون سعاد التي لم تتزوج بعد، ووجدت نفسها في هذا المطب للمرة الثانية. علت همهمة طارئة بين النسوة: ’كمان مرة!‘ ’هلق بييجي المختار! خلّونا مستورين!‘ ’سعاد!‘

كادت ورشة العمل السابقة أن تنتهي بكارثة: تسرب خبر موضوعها في القرية من النساء اللواتي انسحبن، وسُمع صراخ المختار فجأة خارج القاعة فهبت النساء المتبقيات مذعورات، وهرعت المدربة وسعاد إليه لينالهما توبيخ حاد كادت معه المدربة أن تنهار باكية. هربت النساء إلى بيوتهن، لكن المصيبة لم تنته، فقد تجمع الرجال خارج القاعة متوعدين بضرب سعاد والمدربة، ولم يسعفهما إلا تدخل المختار الذي خرج إليهم مهدئًا، وغادرت المدربة القرية بصعوبة بعد أن اكتفوا بشتمها وإلقاء الحجارة على سيارتها! أما سعاد فهرولت إلى بيتها واعتكفت فيه قرابة الأسبوع.

بقيت الواقعة حديث القرية الشاغل، ومنع المختار أي ورش عمل أو تدريب حتى إشعار آخر، ’يا حسرتي، راحت الوظيفة، يا حظك المعثّر يا سعاد!‘ وراح معها الأمل في عريس أيضًا، بعد انتشار سمعتها بأنها تعمل في ورشات ’قلة الأدب‘! لكنها انتظرت إلى أن مر قرابة الشهرين وهدأت النفوس، ثم طلبت مقابلة المختار وأوصالها ترتعد، وألقت كمية لا بأس بها من المجاملة والاستعطاف حتى استطاعت إقناعه بإكمال برنامج الورش، مع تأكيد مكرَّر ومستفيض بأنها لن تتطرق إلى أي مواضيع حرجة. ’الزنّ بيليّن الحجر...‘ لَانَ المختار أمام الإطراء وهو يفتل شاربيه، وعادت سعاد تختال كالطاووس بعدما نسيت ’البهدلة‘ الأولى، فالمال الذي تجنيه كفيل بجلب العريس المنتظر، والمسامح كريم، والقرية تنسى وتجد أمورًا أخرى ’تَلِتّ وتعجن‘ فيها.

راودها الخوف الآن مجددًا؛ لن تضحي بوظيفتها وسمعتها مقابل هذا الهراء. الوظيفة ليست غاية، كل ما تفعله الفتاة يبقى ناقصًا دون الحصول على ’ختم القبول‘ في المجتمع: الزواج، وبعده فلتذهب الوظيفة دون رجعة. سعاد تخاف لقب ’عانس‘ ولا تطلب من الدنيا إلا زوجًا، ولا تعلم أنها بعدما يصبح بين يديها ستطلب كل شيء.

توقفت بحزم وهمست لجنيفر ببضع كلمات، وتنفست الصعداء حين ابتسمت تلك قائلة: ’نو بروبليم!‘ وأنهت الورشة. صفقت منال ببرود مع الأخريات. نعم، تتعاملون مع الأمور ببساطة، ولم لا؟ أنتم لا تقبعون تحت كم المصائب الجاثمة فوق رؤوسنا. ابتسمت جنيفر طويلًا والتقطت عددًا من الصور التذكارية مع النساء، ثم وزعت سعاد عليهن سجاجيد صغيرة زرقاء لممارسة اليوغا وبلوزات قطنية كتب عليها: ’USAID‘. ’منيحة هاي باحطها قدّام المَجلى... بتنغسل هاي مش هيك؟‘ قالت أميمة وهي تقلّب السجادة بفرح.

’مجلى؟ هاي للرياضة يا هبلة، شو ما فهمتي شي؟‘ قالت سعاد وهي تتنقل بينهن وقد عادت إليها نبرتها المتعالية.

’لا، الله وكيلِك ما فهمت!‘ قالت أميمة، والنسوة يضحكن من حولها.

’عالفاضي...‘ هزت سعاد رأسها كمن تحدث نفسها.

’خلّي عماد يوخذ البلوزة لوائل في الزيارة الجاي، حرام بينبسط... هاي إذا خلّوه يفوّتها،‘ تمتمت منال.

عادت إلى البيت لتجد زوجها مقطبًا. ’شو، ما بطّلناش روحة عاجتماعات الأجانب؟‘

’هذا ما كان فيه شي... شوية تمارين.‘

’تمارين شو؟‘

’تمارين عشان نرجع لذاتنا النقية،‘ قالت وهي ترفع ذراعيها إلى أعلى وتشوح بهما.

’شو؟‘

’شو بيفهّمك إنت؟‘ قالت مبتسمة، وأردفت: ’تعشّيت؟‘

زفر حانقًا: ’يلعن أبوهم! طلّعونا اليوم من الورشة. قال ممنوع نشتغل بدون تصريح، ومش قابلين يعطونا تصاريح!‘

انقبض قلبها. هذا يعني أنه أصبح دون عمل ثانية. وهي تعلم أنه سيعود إلى دخول إسرائيل تهريبًا حتى يستطيع العمل، في مخاطرة كبيرة، فلا تأمين ولا تغطية صحية إن حدث له شيء، ومهدد بالاعتقال أو السجن لدخوله بشكل غير قانوني، فضلًا عن الإهانات التي يحتملها بصمت، والفرق الصارخ بين أجره وأجور العمال الإسرائيليين. لكن، ما باليد حيلة، فتلك القروش تبقى أعلى من أجور الضفة، التي لا يجد فيها عملًا بأي حال.

طالما تمنّت لو أنها نالت حظها من التعليم، فلربما استطاعت أن تساعده. كان أكثر ما يحز في نفسها إحساسها بالعجز. لكن التاريخ يعيد نفسه، فقد كان أهلها يحاولون تربيتها هي وأخوتها في ظروف صعبة؛ كان والدها عاملًا بسيطًا هو الآخر. ثم استشهد أخوها في مواجهة مع جيش الاحتلال، وهدم الجيش بيتهم على إثر ذلك، مصيبتان لم تستطع العائلة النهوض منهما. كانت منال متفوقة في دراستها، إلا أن أباها سعى لزواجها المبكر لعدم قدرته على تحمل مصاريفها. وهكذا حشرت في المكان ذاته، ترعى أربعة أطفال، يقبع أحدهم في السجن، وهو يعيد سيرة خاله الشهيد...

كيف السبيل لتدبير محام للولد؟ ’شو رأيك أرجع أحكي مع الستّ؟‘ قالت بصوت خفيض. اقترحت عليه في اليوم السابق أن يستدينا المبلغ، لكنه رفض.

’هذا الموضوع سكّرناه وما بدّي أحكي فيه!‘ صاح الآن بملء صوته وهو يصب غضبه عليها.

’طيب! طوّل بالك! شو حكينا؟‘ موجة غضب طارئ غلبتها أيضًا. هل يملكان حق المكابرة والولد قابع في السجن؟

’هذا الموضوع قلت لِك ما تفتحيه معي!‘ استمر صائحًا، فيما ظهر صغارهما الثلاثة بوجوه يعلوها الخوف.

’خلص، عماد!‘ قالت برجاء. ’يمّه، إرجعوا جوّه...‘ طمأنت الأطفال، ثم استدارت إليه لتهدئه، فهي تخاف عليه من الضغط المزمن الذي يعيشان فيه. فجأة تذكرت المدرّبة الأميركية، والترف الذي أحضرته معها، فنصيحتها لها في هذا الموقف ستكون أن تقترب من عماد وتحضنه لتفريغ شحنة غضبه. هذه المرة قد يقتلها فعلًا. ’انجنّيتي؟ إحنا بشو ولا شو!‘ أما الاقتراح الآخر، فهو التربع على سجادة اليوغا وإجلاسه بجانبها ليمدا ذراعيهما ويعلقا أعينهما بالسقف، بحثًا عن حل. هنا سيرميها بالجنون المؤكد. وجدت نفسها تصارع رغبة غريبة في أن تضحك وتبكي في آن.

لكنها عادت وارتطمت بالواقع. ’ترتاح؟ أحضّر لك لقمة؟‘

’ماليش نفس. الولاد أكلوا؟‘

’آه.‘

’بدّي أقعد برّه شوي.‘ خرج إلى الفناء الصغير وتمدد على الأريكة القديمة صامتًا. تبعه الصغار فأجلسهم بقربه، يستمع إلى حوارهم ولعبهم بذهن شارد. ثم حثهم على الدخول إلى البيت وبقي وحيدًا، ينظر إلى العتمة المتكاثفة حوله. فجأة أحس بغياب زوجته. ’منال؟‘

’منال؟‘ كرر مناديًا.

دخل البيت باحثًا عنها. وفجأة توقف مشدوهًا. ’شو هذا! شو بتعملي؟‘

كانت تمسك مقصًا بعنف وتمزق سجادة صغيرة زرقاء، وتبكي.