وأعتقد أن معادلة الفن والسياسة تحضر كثيراً في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، سواء في فكرته الأولى ومضمونه ومقولته حول البقاء والهوية وتطورها الإنساني، وكذلك فيما يقدمه من شبابيك إلى قصص الناس والأماكن، تلك التي في فلسطين والمنطقة العربية وكذلك في العالم، وإحضارها إلى الجمهور الفلسطيني في حيفا،
بعد سبعبن عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تحوّلت مدينة حيفا في الأيام القليلة الماضية إلى "عاصمة للثقافة الفلسطينية" كما كانت عليه قبل عام النكبة، بفضل مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام بنسخته الثالثة، الذي نظم في المدينة ما بين 22 و27 آذار/ مارس الفائت، والذي شمل عرض أربعين فيلماً فلسطينياً وعربياً وعالمياً، إلى جانب العديد من الندوات والورشات الفنية والحفلات الموسيقية.
ستة أيام حوّلت حيفا المحتلة إلى كرنفال فني شبابي فلسطيني بمبادرة تصدى لها مجموعة من الشباب والشابات من المشتغلين بالحقلين الفني والثقافي الفلسطيني، من المؤمنين بأهمية بناء مراكز مستقلّة أصلانيّة للثقافة الوطنية الفلسطينية بعيدة عن تدخلات أو إملاءات إسرائيلية أو أجنبية.
"رمان" التقت بعدد من منظمي المهرجان سائلة إياهم: ما هو تقييمهم للفعاليات والمشاركة الجماهيرية، وما الذي أنجزه المهرجان برأيهم في نسخته الثالثة، وماذا عن العراقيل والصعوبات التي عايشوها أثناء رحلة التحضير وخلال أيام المهرجان، وأخيراً ما هي طموحاتهم المستقبلية؟ فكان هذا التحقيق..
البداية كانت مع الناشطة الثقافية رنا عسلي (مستشارة ومنسقة التسويق للمهرجان)، التي قالت: افتتحنا المهرجان بحفل استقبال كبير في الثاني والعشرين من آذار/مارس بعد أربعة أشهر من التحضيرات، وقد صبت هذه الجهود في أسبوع واحد عرض فيه أربعين فيلماً في ستة مواقع، العروض الرئيسية الكبيرة كانت في سينما مسرح الميدان، وتم عرض الأفلام المميزة وأفلام "النيش" والأفلام القصيرة والورشات والمحاضرات في مقاهي مختارة ومراكز ثقافية فلسطينية في المدينة، وهي مسرح خشبة، ومنجم - مختبر حيفا للثقافة، وكباريت، وسين، ومساحة، مما صبغ حيفا كلها خلال أسبوع المهرجان باللون البرتقالي الفاقع، لون المهرجان هذا العام، لدرجة أن الجو العام في عموم حيفا كان احتفالياً، مما دعم جهودنا في التسويق، وقد ركزنا هذا العام على التسويق الإلكتروني، من خلال موقع المهرجان الذي تم تحديثه، ومن خلال التركيز على منابر التواصل الاجتماعي، وتم تطبيق طرق تسويقية حديثة خلال العمل.
نحمل رايتنا ورسالة شعبنا
لقد عمل في المهرجان هذا العام طاقم كبير من المتطوعين والمهنيين، خلال أشهر التحضيرات كنا حوالي العشرين، وتألف طاقم المهرجان خلال أسبوع المهرجان من أكثر من خمسين شابة وشاب غالبيتهم من المتطوعين، وكان التلاحم بين أفراد الطاقم ممتاز والأجواء جداً جميلة، وهذا الشيء انعكس على الجمهور، الذي شعرنا أنه فخور جداً بالحدث الفلسطيني المستقلّ وبالأفلام المعروضة، القريبة من قلبه ومن قضيته،.
برأيي كان اختيار الأفلام ممتازاً، وتجاوب الجمهور معه بطريقة حسنة، هذا الجمهور المتعطش إلى التواصل مع امتداده الطبيعي في العالم العربي، وسعيد لخلق مساحات وأجواء بعيدة عن الواقع الذي فرض عليه وإنما هي من قلبه ومن ثقافته.
طبعاً، خلال تنظيم حدث كهذا، تلقى الكثير من التحديات، بشكل يومي، وقد واجهها الطاقم بسرور، فقد كان تقسيم الأدوار واضحاً، وتعاملنا بمهنية في غالبية المواقف. المعلومات التي جمعناها في هذه الدورة، من خلال استطلاعات وتحليل بيانات، ستساعدنا كثيراً في تحقيق غايتنا للعام القادم، والتي بدأنا بالتحرك نحوها، وهي: وضع مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام على قائمة مهرجانات الأفلام العالمية، ولكن باختلاف واحد: وهو أننا سنحمل رايتنا ونحمل رسالة شعبنا وجميع الشعوب التي تسعى للحرية والعدالة لندخل فيها بصوت عال إلى الحيز الثقافي المحلي والعربي والعالمي.
انتظرونا في الدورة الرابعة لمهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2019، وشاركونا احتفالية حيفا وصناعة الأفلام وحب السينما.
فلسطين على خارطة المهرجانات العالمية
بدورها تقول الفنانة سماء واكيم (منسقة المتطوعين بالمهرجان): هذه هي السنة الأولى التي أشارك فيها بتنظيم المهرجان وليس التطوع فقط.
برأيي كانت هنالك الكثير من النواقص في التنظيم ولكن بالنظر إلى الوراء لقد قمنا بالكثير من تنظيم وتواصل مع دول عربية وأجنبية وتغطية المهرجان محلياً وعالمياً ووضع فلسطين على خارطة المهرجانات العالمية للسينما.
في السنة القادمة سأشارك في التنظيم بكل تأكيد وسأعمل على إشراك شريحة أكبر من المجتمع في التجهيز والتنظيم للمهرجان، والعمل على برنامج للأطفال يكون مدروساً، ويعرف الأطفال أكثر على عالم السينما نظرياً وعملياً.
هنالك أفلام لاقت استحسان الجمهور ومنها ما كان بمستوى أقل، مما أعطانا فكرة عما يبحث عنه المشاهد، وما الذي يشد جمهورنا.
كان من الرائع ان تعج حيفا بالجمهور في أكثر من مكان بنفس الوقت لخلق حالة جديدة ونادرة، وتعيد المدينة إلى سالف عهدها كمركز للثقافة في البلاد ليس فقط لفلسطيني ال ٤٨ وإنما أيضاً لكل الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية وغزة وخارج البلاد (في الشتات والمنافي البعيدة)، ودعوة كل السينمائيين الفلسطينيين أينما وجدوا للمشاركة معنا، ليكون المهرجان مستقبلاً منصة يلتقي بها صناع السينما الفلسطينيين وكل المهتمين في هذا المجال.
بحسب رأيي الفريق العامل على تنظيم المهرجان يكتسب خبرة من سنة لأخرى ويتعلم من الأخطاء وعمل على تطوير منظومة تطمح إلى المثالية.
طاقات إيجابية خلقت بيئة رائعة
من جهته قال الناشط السينمائي صايل جرار (المدير التقني بالمهرجان): تجربتي في الإسهام بتنظيم هذا المهرجان، جاءت من خلال عملي كمدير تقني لمهرجان أفلام أيام سينمائية في رام الله في دورته الرابعة، حيث أتيحت لي الفرصة بلقاء روجيه خليف و(مدير مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام)، الذي عرض علي أن أكون ضمن طاقم المهرجان في دورته الثالثة، فأحببت الفكرة ووافقت من دون تفكير.
وقد اتضح لي من أول لقاء مع المنظمين بحيفا للتحضير للمهرجان، أنهم أشخاص رائعين وخلاقين، ويعملون على أسس وإيمان لتكون أجندة المهرجان متميزة، وأنهم دائماً حريصين على الأفضل لمهرجانهم.
ورغم ما تحقق من نجاح في هذه الدورة إلا أنه لا يمكننا أن نغفل عن ذكر بعض المنغصات، من ذلك أن القاعات المستخدمة لعروض الأفلام في حيفا هي صغيرة أو متوسطة الحجم نسبياً، وفي الأغلب هي ليست قاعات سينما، وهنا وجب الأخذ بعين الاعتبار أن المهرجان مستقلّ وإمكانياته محدودة أيضاً لكن الأجواء التي كانت سائدة والطاقات الإيجابية للجميع خلقت بيئة رائعة وفريدة يستطيع أي شخص أن يتلمسها ويشعر بها.
ختاماً أقول: إن المهرجان كان ناجحاً وفريداً من نوعه، وله هوية خاصة، وأنا فخور جداً كوني كنت جزءاً من هذا الجسم. وآمل أن نجد في الدورة القادمة قاعات أكبر ومجهزة تقنياً بشكل أفضل.
بناء جسر بين حيفا ومحيطها الطبيعي..
وأخيراً، تقول الكاتبة والصحافية الثقافية رشا حلوة (المنسقة الإعلامية للمهرجان): أعمل مع المهرجان كمنسقة إعلامية منذ دورته الأولى قبل ثلاث سنوات، ومنذ البداية، كان بالنسبة لي المهرجان كمشروع ذو أهميّة كبرى، على المستوى الثقافي والفني الفلسطيني، وكانت حاجته لأن يصبح منصة دائمة للمشهد السينمائي الفلسطيني، والدعم الذي حظي به منذ عامه الأول، وإيمان طاقمه بضرورته، خير بوصلة لاستدامته حتى الآن وفي المستقبل. مع مرور السنوات، ومع أن عمر المهرجان قصيراً، إلا أن منذ الإعلان عن دورته الأولى، حظي المهرجان ومضمونه باهتمام إعلامي كبير، على المستوى الفلسطيني، العربي والعالمي أيضاً، وأعتقد أن هذا الاهتمام ينبع من الفكرة التي تأسس عليها المهرجان ورؤيته المستقبلية، بإنشاء منصة سينمائية فلسطينية، تحتضن الأفلام الفلسطينية، صناع السينما المحترفين كما الشباب، لتكون مساحة لاستقبال وعرض أفلامهم، كما إعادة بناء الجسر بين حيفا وفلسطين الحقيقية ومحيطها العربي الطبيعي الذي نُزعت عنه حيفا والداخل الفلسطيني أبان النكبة عام 1948
وأعتقد أن معادلة الفن والسياسة تحضر كثيراً في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، سواء في فكرته الأولى ومضمونه ومقولته حول البقاء والهوية وتطورها الإنساني، وكذلك فيما يقدمه من شبابيك إلى قصص الناس والأماكن، تلك التي في فلسطين والمنطقة العربية وكذلك في العالم، وإحضارها إلى الجمهور الفلسطيني في حيفا، كما أنه يخلق من حيفا صالة سينمائيّة كبيرة، يتوافد الناس إلى عروض أفلامها وتمتلئ الفضاءات العامة بأحاديث ونقاشات حول السينما وعوالمها، وهذا كله تأكيد على الوجود والحاضر الحي لأهل البلد.
إن أهم ما يصبو إليه المهرجان في المستقبل، أن يستديم ويتطور، وأن يحافظ على ثقة الناس به كمنصة تؤمن بأن التغيير قابل للتحقيق، وأن خلق منصات مستقلّة تشبه المكان وناسه، ليس حلماً مستحيلاً، إنما حلماً يكبر ويتوسّع ويستقبل الأفكار والناس وكل منهم يرى دوره بتنفيذ تفصيلة منه، حتى لو كانت صغيرة. بالإضافة إلى الأمل لأن يتحوّل لمنصة أكثر دعماً لصناعة السينما الفلسطينيّة المستقلّة، متجسدة بالإنتاج والدعم المعنوي والمادي، وكما أرى اليوم، وبالانتماء الذي يشعر به طاقمه والجمهور من حوله، فكل شيء قابل للتحقيق.