تتأسّس الفكرة الرئيسة للفيلم إنطلاقاً من صورةٍ فوتوغرافيّة التُقطتْ قبل خمسةٍ وعشرين سنة في مدرسة "إبن خلدون"، تجمع عدد من أبناء هذه المدينة من زملاء الدراسة، من بينهم المخرج حيدو نفسه، حيثُ ينتمي كلّ واحد منهم لمكوّن ما من مكونات سري كانيه، وما أكثرها، ليبدأ المخرج، فيما بعد، بالبحث عنهم واحداً تلو الآخر، كمادةٍ لفيلمهِ.
يبدو أنّ موضوعة "الحرب" السوريّة، وتحديداً بعد تحوّل الثورة من الحالة "السلميّة" إلى الظاهرة "المسلحة"، تُشغل مُعظم السوريين العاملين في المجالات الإبداعيّة كافّة؛ في مُحاولةٍ منهم، تكاد أن تكون خجولة في أغلب الأحيان، لتقديم صورة عن مُعاناةِ شَعبٍ تكالبت عليه كل قوى الشرّ في العالم. ولعلّ الاشتغال على هذا الجانب في هذا الوقت بالذات، حيثُ "الحدث" المأسويّ لا يزال في أوجه، ساعد المنتجين على اعتماد المادة الخام الحقيقيّة، دون الحاجة إلى من ينوب عن تلك الشخصيّات الواقعيّة، ممّن يعملون على أرض الواقع.
يأتي في هذا الاتجاه؛ الفيلم الوثائقي "My Paradise"، الحاصل على منحة من برنامج "آفاق" للأفلام الوثائقيّة، سنة 2015، للمخرج الكُردي السوري أكرم حيدو، والذي يُسلّط الضوء على جوانب من حياة سوريّين عاشوا مع بعضهم البعض، قبل أن تُفرّقهم "الحرب"، من خلال التطرّق إلى تفاصيل ما آلتْ إليها الأوضاع أواخر العام 2012، في مدينة سوريّة تقع على الحدود الشماليّة المتاخمة لتركيا، هي سري كانيه (رأس العين)، مسقط رأس المخرج، وذلك بدءاً من دخول كتائب مُسلّحة إليها، وما تلاه من عمليّات تهجير مُمنهجة لأبنائها، وليتم ضرب النسيج الاجتماعي لمدينةٍ تُشكّل نموذجاً مُصغّراً، لا عن سورية الأم فحسب، بل وعن غالبية المُدن والقرى والتجمعات السكانيّة في الشرق الأسط برمّته، حيثُ يعيشُ فيها مُكوّنات من جُلّ الأعراق والإثنيّات والطوائف الدينيّة، من كُردٍ وعرب وسريان وإيزيديين وأرمن وشيشان.
تتأسّس الفكرة الرئيسة للفيلم إنطلاقاً من صورةٍ فوتوغرافيّة التُقطتْ قبل خمسةٍ وعشرين عاماً في مدرسة "إبن خلدون"، تجمع عدد من أبناء هذه المدينة من زملاء الدراسة، من بينهم المخرج حيدو نفسه، حيثُ ينتمي كلّ واحد منهم لمكوّن ما من مكونات سري كانيه، وما أكثرها، ليبدأ المخرج، فيما بعد، بالبحث عنهم واحداً تلو الآخر، كمادةٍ لفيلمهِ.
شخصيّات الصورة/ الفيلم، بما فيها شخصيّة "آرا" الأرمني، شبه أسطوريّة ومرتبكة في آنٍ واحد، بحيثُ تبدو وكأنها غير مهيّأة للظهور أمام الكاميرا، نلحظ عند جميعها تقريباً علامات الفوبيا من آلة التصوير، هؤلاء عبارة عن شخصيّات عاديّة حقيقيّة من الواقع، فيما السيناريو يأتي كسردٍ تلقائيّ، أليف ومألوفٍ معاً، كلّ واحدٍ منهم يسردُ بحميميّةٍ وهدوء ما يربطه بالمكان/ الأرض/ الموطن.
"آرا"، أوّل من جلب آلة التصوير إلى مدينة سري كانيه، والذي يظهر في أولى مشاهد الفيلم، من مكانِ إقامته الجديدة بكرياغ الأرمينية، يؤكّد، بلكنةٍ كُرديّة مُحبّبة ومُتعثّرة في الآن معاً، بأنّه تم إخراجه من الجنّة، في إشارة إلى ما تعرض له من تهديد لترك مزرعته وما فيها من كائنات حميمةٍ. فيما يتوالى ظهور باقي الشخصيّات من أماكن جغرافيّة مختلفة، هي: "كرياغ" في أرمينيّا، و"أورفا" في تركيا، بالإضافة إلى "سري كانيه" السوريّة والمحور الرئيس للفيلم.
يتفق مُعظم شخصيات "My paradise"، على اختلافها الإثني والعرقي وتنوّعها الطائفي، على أنّ الجنّة الحقيقيّة هو الفردوس الأرضي، حيثُ كان يعيش الجميع معاً في حالة من الأُلفة والوئام وصولاً إلى لحظة الانفجار في أواخر العام 2012، حيثُ التحوّل المفاجئ في مسار الثورة من المظاهرات والاحتجاجات السلميّة إلى سيطرة السلاح وظهور المظاهر المسلّحة والاقتتال العلني والمُضمر، ما أدّى لنزوح غالبية السكان المدنيين من سري كانيه نحو مناطق أخرى ما بين قريبةٍ وأخرى بعيدة، خوفاً على أرواحهم.
إذاً؛ الخروج أو النزوح، بل الطرد/ التهجير أيضاً، هو العنوان العريض لمادّة "My Paradise"، والتي تعني "جنّتي". حيثُ يقولُ "آرا"، في سياقِ سردهِ لذكرياته في سري كانيه، بأنّه وبحسب المثل الشعبيّ الشائع "جنّة من دون ناس ما تنداس"، كيف لمدينةٍ كانتْ تضج بالحياة ألا تذبل في ظل غياب جُل قاطنيها. يتابع: "لقد تم إخراجنا من الجنّة.."، في إشارةٍ إلى تهديده بمغادرة سري كانيه، مدينته وجنّته، من طرف أشخاص مسلحين، يبدو أنّهم كانوا ينتمون للتيار السلفي الأصولي المتشدّد، وضعوا مزرعة وممتلكات "آرا" المسيحي وعائلته هدفاً مشروعاً لهم.
يعتمد أكرم حيدو تقنيات تصويريّة بسيطة، بعضها تأتي وكأنها مجرّد لقطات لمصوّر هاوٍ، وأخرى تكون غايةً في الاحترافيّة، ثمّة مزجٌ مُذهل بين جوانب حياتيّة عديدةٍ ومتناقضة أحياناً، فعلى الرغم من موضوعة "الحرب" وأثرها الواضح على معالم المدينة، نجدُ التركيز على المشاهد الرومانسيّة، سواءٌ تلك المشاهد الحيّة من المدينة نفسها وبشكلٍ مباشر، أو بالنسبة لتلك المقتطفات المأخوذة من ذاكرة كاميرا آرا المنزليّة.
جديرٌ بالذكر أنّ المخرج أكرم حيدو، من مواليد مدينة سري كانيه- سنة 1973، بالإضافة إلى فيلمه "My Paradise"، له عدد آخر من الأفلام، أبرزها فيلم "حلبجة- الأطفال المفقودين" (2010)، يقيم في ألمانيا منذ أكثر من عقدين من الزمن، حيثُ درس هناك في أكاديمية روهر للفنون والإخراج السينمائي في دورتموند وتخرج سنة 2010.
حصل فيلمه "حلبجة- الأطفال المفقودين" على جائزة لجنة التحكيم الخاصّة من مهرجان دبي السينمائي في الإمارات، وجائزتي أفضل فيلم طويل وأفضل إخراج في مهرجان الخليج السينمائي، بالإضافة إلى جائزة أفضل فيلم من مهرجان يلماز غوني السينمائي بمدينة باتمان في تركيا. فيما حصل فيلمه الثاني "My Paradise" على جائزة السلام للسينما في مهرجان دهوك السينمائي بكردستان العراق.