ألوان ونقوش "غزل العروق" في «المتحف الفلسطيني»

2018-04-24 13:00:00

ألوان ونقوش
تصوير علاء بدارنة. لـ المتحف الفلسطيني⁩

قد لوحت لونه الشمس، لا بد من أنه كان مِلكاً لفلّاحة، لا بد من أن هذا الثوب قد قضى أوقاتاً صعبة وطويلة في الحقول، تحت الشمس، وربما، أيضاً تحت سوط الإقطاعي (يا ترى ما الذي كانت تغنيه نساؤنا في الحقول؟) وذاك الثوب، ذو اللون الأبيض المائل للاصفرار، والخصر المرقع، لا بد أن له قصه ما، تقترب منه، فتجد بقايا حروف مدموغة على القماش، كما دمغت على أدمة اللجوء.

للحزن لون واحد

الزمان: السابع عشر من فبراير عام 1901، المكان: باريس، فرنسا، يقوم كارلوس كاساغيماس، الشاعر الشاب وطالب الفنون باخراج مسدس من جيبه، يطلق النار على نفسه منتحراً. الزمان 1901، يدخل بابلو بيكاسو، صديق كاساغيماس في فترة من الاكتئاب الحاد، حزناً على كاساغيماس، تستمر هذه الفترة الاكتئابية إلى عام 1904، ويسميها مؤرخو الفن بالفترة الزرقاء. خلال فترة اكتئاب بيكاسو، لم يستخدم سوى اللون الأزرق بدرجات متعددة، رسم بها لوحات تصور الفقراء، البغايا، الموت، والانكسار. بعد مرور 4 سنوات، يبدأ بيكاسو باستخدام الوردي والبرتقالي، إيذاناً بخروجه من الفترة الاكتئابية، إلى فترة أكثر سلاماً وراحة.                                                       

    بابلو بيكاسو: امرأة في حزن، 1902، زيت على قماش. امرأة تجلس عارية، 1905، زيت على قماش


الزمان: في فترة ما في الأربعينيات، المكان: بئر السبع، فلسطين. يتوفى زوج امرأة ما، ربما قتله استعمار ما، وربما قتله الحر، وربما قتل لثأر، وربما موته طبيعي جداً، كالموت الذي يحدث في كل مكان. يقتل الحزن هذه الأرملة، فتفرغ مكنونات قلبها بالغرز، فتحيك ثوباً نصفه السفلي يملؤه اللون الأزرق بدرجاته، يبوح اللون بسرها وينشر حزنها على القماش، كما ينتشر الحبر الأزرق في الماء، تضيف تمائم وحجائب أعلاها، متضرعةً لها لتنتشلها من كربها. الحزن يشدها للأسفل ويثقلها، يتمركز اللون الأزرق أسفل ثوبها، بينما، الدرجات المعتادة، الأكثر زهواً كالوردي والأحمر، في أعلاه. ربما قد حاكته امرأة تشبه امرأة بيكاسو.

مقاطع مقرّبة لثوب الأرامل من بئر السبع، الأربعينيات، مجموعة متحف جامعة بيرزيت. © المتحف الفلسطيني



الزمان:190 3 المكان: الميسيسيبي، الولايات المتحدة. الشمس حارقة، والتعب يخرّ بعظام المزارعين السود، اللذين تم استعبادهم واستقدامهم من إفريقيا. في خضم هذا التعب، يبدأ المزارعون العبيد بالغناء الجماعي، فهم لا يملكون سوى حناجرهم ليصدحوا بها تحت الشمس الحارقة وسوط السيد، فكلاهما لا يرحم. يرددون معاً قصائد وأغان شجية، يذوب لها القلب، ملحنة بصوت ضربة الفأس والمعول، تسمى هذه الأغاني ”البلوز". أخذت اسمها، من اللون الأزرق، الذي يعبر عن التعاسة، الكابة، والحزن الشديد خاصةً في الثقافة الغربية. يصيحون مع معاولهم "سأكون شاكراً، عندما تغرب الشمس، سأكون شاكراً، عندما تغرب الشمس، لست نعساً، لكني أريد الاستلقاء، لست نعساً، لكنني أريد الاستلقاء."



فساتين وأحداث: التاريخ يترك بقعاً على الأجساد، أو، كيف نقرأ التاريخ من المادة؟

عندما تتجول بين غابة الفساتين هذه، في المعرض، وبلا أن تقرأ البطاقات الوصفية، أو تستمع لمحاضرات الشرح، فقط بالسماح لعيون واسعة وقلب مفتوح بالتنقل بين الخيوط والغرز، فإنك بعد جولة أو اثنتين، ستبدأ بجمع الأدلة الدامغة، من كل قطعة، فهذا الثوب المتسخ، المتشح ببقايا دقيق أبيض وقش، المهترئ المرقع، قد لوحت لونه الشمس، لا بد من أنه كان مِلكاً لفلّاحة، لا بد من أن هذا الثوب قد قضى أوقاتاً صعبة وطويلة في الحقول، تحت الشمس، وربما، أيضاً تحت سوط الإقطاعي (يا ترى ما الذي كانت تغنيه نساؤنا في الحقول؟) وذاك الثوب، ذو اللون الأبيض المائل للاصفرار، والخصر المرقع، لا بد أن له قصه ما، تقترب منه، فتجد بقايا حروف مدموغة على القماش، كما دمغت على أدمة اللجوء.

قماش من بقايا أكياس طحين الـ UN، طرزت بالأحمر على عجل واستحياء، كي لا تشعر صاحبته اللاجئة بأنها منقوصة عن غيرها من النساء. مجموعة من الأثواب ليس عليها نقوش أو زخارف تشبه الأشكال الهندسية المعتادة، بل أشكال تمثل العلم الفلسطيني، بنادق، وألوان العلم، تقول لنفسك، لا بد أن هذا الجسد الذي ارتداه، كان محتجاً على شيء ما، في مظاهرة ما، في وقت ما، فتلك بعض من الأثواب التي ارتدتها النساء في الانتفاضة الأولى، احتجاجاً، حينما كان كل ما يمثله العلم ممنوعاً، تجد أيضاً الفساتين الحريرية، اللامعة، النظيفة، المهدلة، بنقوش ذهبية، فتعلم بكل يقين، أن جسداً بفستان كهذا، لم يحصد يوماً في الحقول، ولم تخشوشن بشرته تحت سياط الشمس، هكذا، تتنقل من قماشة لأخرى، ومن لون إلى آخر، ومن غرزة إلى غيرها، تجمع دليلاً من هنا، ودليلاً من هناك، إشارة من هنا، وإشارة من هناك، كمحقق دؤوب، فتكون صورة ما، وجزءاً من حقيقة ما، وفهماً ما، هذا ما يميز هذا المعرض بحق، الحرية بجمع الأدلة. فالفساتين لا يفصلها عن الزائر سنتيمرات، وبعض الاقمشة متاحة للمس، ولا يحيط بها الزجاج، تستطيع الاقتراب منها كما تشاء، وربما يصلك بعض من بقايا رائحتها، أو تتخيل ذلك. ربما تظن أنك استنشقت طحيناً بجانب ذاك الفستان، ربما الطحين غير موجود ولا أثر له الآن، لكنك ستستنشقه لا محالة.

أحاديث: مع رايتشل ديدمان قيمة المعرض البريطانية الشابة، مع "انجيس" وأصدقائها الزوار من النرويج، ومع "س" اليابانية المتزوجة من فلسطيني، ومع صوفيا الألمانية، وأيضاً، مع أحد الحراس.

اسأل رايتشل ديدمان، لا بد أنك تواجهين صعوبة، كونك بريطانية شابة، وقيمة لمعرض يخص إنتاجاً فلسطينياً، ما الطريقة التي اتبعتها في بحثك القيمي، كي لا يظهر أنك تمسّين الموضوع من بعيد ومن السطح؟ وكيف ابتعدتِ عن فخ متحفة إنتاج "المستعمَر" ؟ تقول لقد سكنت في بيروت لفترة لا بأس بها، ولازلت أقيم وأعمل هناك، وعملت على عدة مشاريع مشابهة، كما أن هناك العديد من الجنود المجهولين، الذين ساهموا في البحث والتصنيف من الفلسطينيين فهو ليس one man show. تقول أيضاً أنها حاولت بقدر ما تستطيع عدم متحفة القطع، مع أنها لا تستطيع التخلص من ذلك بشكل تام، كون القطع قد عرضت في فراغ متحف، لكنها بنفس الوقت، لم تعرضها مفرودة (كما تعرض عادة عند عرضها بسياق "اثنوغرافي") ولكن عرضتها مهدلة، وبلا حواجز زجاجية.

أفتعل حديثاً مع "س" اليابانية، التي رفضت أن يظهر اسمها لمشاكل في الإقامة، هي المتزوجة من فلسطيني، أسألها إن كان شيء من المعروض يذكرها باليابان، وإنتاجها، فتخبرني أن فستاناً معروضاً، بلونه النبيذي وقصته العصرية، قد ذكرها كثيراً بالكيمونو. تعمدت هذا السؤال لأكثر من شخص، كوني قبل فترة وجيزة، قد رأيت خلال تصفحي للإنترنت، صورة لتطريز تقليدي إيرلندي، يشبه كثيراً أنماط التطريز الفلسطينية. صدمت وقتها، فكنت لجهلي، أعتقد أن التطريز بهذه الأنماط يخصنا نحن الفلسطينيين فقط.

أنضم لـ"صوفيا"، الشابة الألمانية طويلة القامة، أسالها ان كانت قد شاهدت في تراث المانيا ما يشبه ما تراه الآن، تخبرني أن المنطقة التي جاءت منها، لا ينتشر فيها العمل اليدوي، ولكنها قد رأت إنتاجاً مشابهاً في التراث المكسيكي. أسجل ذلك على دفتري لأبحث عنه لاحقاً. أنضم لمجموعة من المعلمين النروجيين، يتخصص معظمهم في تعليم الدين والتاريخ في المدارس العامة، أسألهم نفس السؤال. يبدؤون بالتذكر، ثم تريني "أنجيس" النرويجية بكل تحبب صوراً لها ولابنتها ترتدي الزي النرويجي التقليدي وقد أصابتها الدهشة لكون النقوش فعلاً متشابهة. تخبرني أيضاً ان جيلها لم يعِر الزي التقليدي اهتماماً حين كان في سن الشباب، وأنها لاحظت أن هناك اهتماماً متزايداً به من قبل ابنتها وحفيدتها وجيلهم الآن.

أسأل أحد الحراس عن رأيه في ما يرى، فللحراس علاقة مغايرة مع المعرض، عن غيرهم من الزوار العاديين، فهم من حضَروا، وساعدوا في النقل، ويقومون بالحماية، وغيرها من اللوجستيات التي لا يكون الزائر العادي على علم منها بشيء. يخبرني بأن المعرض قد أبهره في يوم الافتتاح الأول، وأنه أحس بشيء قريب منه، يذكره بجدته، لم يشعر بسطوة هذا الشعور من قبل، عند رؤيته لمعارض أخرى. يقول أنه فعلاً يشعر بأهمية تراثنا وغناه، عندما رأى ما رأى.

أتفهم رأيه فعلاً. وأفكر الآن، أن تنظر لقطعة كانت يوماً لشخص ما، وقد عاشت حياة ما، لا يشبه نظرك لقطعة أو عمل ما، قد ولد حالاً، ووضع خلف الزجاج، كما في قسم الخدج. وهذا ليس انتقاصاً من أيَهما، لكنه فعلاً اختلاف الشعور المتولد، وهو شعور فردي طبعاً، عند رؤية الأشياء، بغض النظر عن ماهيتها.

لن أطيل أكثر، معرض «غزل العروق»، بتقييم من رايتشل ديدمان، يعرض في «المتحف الفلسطيني»، ولن أقدم على ذكر التفاصيل المملة، وشرح ما يحتويه كل فصل، فالتاريخ كما يُقرأ منفصلاً وبخط زمني، يُقرأ أيضاً مرة واحدة، وبعشوائية، وسأدع حرية هذه القراءة للزائر.
 

⁨ تصوير علاء بدارنة. لـ المتحف الفلسطيني⁩
 
⁨تصوير علاء بدارنة. لـ المتحف الفلسطيني