ما أردناه من الفيلم هو الربط بين النساء وفلسطين، أو سرد قصة فلسطين والاحتلال الصهيوني من خلال الرواية النسائية. أما التطريز فهو يمثل الثقافة واستمرار نقلها عبر الأجيال، فكما أن النساء هنّ عادة من يطرز فهنّ أيضاً من يحمل القصص والروايات من جيل إلى جيل رابطين بذلك الحاضر بالماضي.
عند اتصالنا بالمخرجة كارول منصور لإجراء حوار معها حول فيلمها الأخير «خيوط السرد»، رأت أن يكون حواراً مشتركاً بينها وبين شريكتها الرئيسية في تحقيقه، الباحثة والمنتجة الفلسطينية الجذور منى خالدي التي قامت بإنجاز البحوث للعمل، الذي كتبت نصه الصحفية اللبنانية سحر مندور، فكان لها ما أرادت. هنا نص حوارنا مع منصور وخالدي حول منجزهما المشترك، الذي يحكي بعد سبعين سنة من عمر النكبة، قصة اثنتي عشرة سيدة فلسطينية من أجيال متعددة، الرابط المشترك بينهم، هو حرفة التطريز، الذي يعتبر في التاريخ الفلسطيني المعاصر أحد عناصر مقاومة الاحتلال الصهيوني..
كارول، كيف تفضّلين التعريف بنفسك؟
يصعب عليّ التعريف عادة عن نفسي... أنا أعمل كمخرجة وكاتبة لأفلام وثائقية منذ أكثر من عشرين عاماً، ومعظم أفلامي تتعلق بالمواضيع الإنسانية الصعبة.
ومنى؟
أنا في الأصل متخصصة بالصحة العامة والتنمية الصحية والإنسانية، أعمل مع كارول منذ خمس سنوات ككاتبة وباحثة في المواضيع التي تتعلق بالعدالة الاجتماعية. أعتقد أنني وكارول نتكامل ونعمل كفريق واحد.
فيلمك الأخير يحمل عنوان «خيوط السرد»، كيف ولدت فكرته لديك؟ وكيف يُمكنك وصف هذا العمل؟
في الحقيقة ولدت فكرة هذا الوثائقي بعد أن عملنا على عمل أصغر بكثير يتعلق بمشروع معرض متجول للتطريز الفلسطيني "12 نافذة" وعند انتهاء ذلك المشروع وجدت أنه لدينا كمية من المواد الثمينة، فأردت أن أطورها بسرده " قصة فلسطين" والشتات وحتى قصة عائلتي مع النزوح من فلسطين. بالنسبة لي هذا الفيلم هو عمل شخصي بامتياز ينبعث من القلب.
ما الجديد الذي يمكن أن يقدّمه هذا الوثائقي؟
نحن نعتبر أن فيلم «خيوط السرد» هو طريقنا لتوصيل القصة الفلسطينية ضمن إطار متجدد، لقد سُردت القصة مراراً ولكنها عادة ما تكون عبر أفلام وثائقية ذات قالب جامد نوعاً ما يغلب عليه السرد التاريخي أو السياسي. وهذا الفيلم هو محاولتنا لإعادة الاعتبار إلى القصة الشخصية وإن كانت تطال مجتمعاً بحاله، وذلك للتذكير بأن وراء التاريخ والتواريخ أناس فقدوا كل ما هو غالٍ عليهم وعليهنّ.
ماذا عن تفاصيل اشتغالك على هذا الفيلم؟ وكيف تم اختيار السيدات الاثنتا عشرة المشاركات بالعمل، هل كانت هناك معايير محددة؟
لقد استغرق العمل على الفيلم 4 سنوات كنا خلالها نعمل في أوقات الفراغ، حيث لم يكن لدينا دعم مالي لتحقيقه. وقد عملت على المونتاج وإعادة التركيب عدة مرات حتى اقتنعت بالصيغة النهائية. وكان العمل على مراحل وبالتالي كانت هناك إضافات وتغيرات مستمرة.
أما بالنسبة لاختبار السيدات فقد أردنا أن نظهر مجموعة نساء من خلفيات مختلفة، وذلك من خلال سيدات من أعمار مختلفة، وأوضاع اجتماعية واقتصادية متباينة ومن خلفيات تعليمة متنوعة. كما أردنا إظهار آراء نساء يعشن في فلسطين وأخريات في الشتات، وكان من المهم لنا إيجاد نساء خارج النمطية السائدة، بالطبع اختيارنا أيضاً اعتمد على إيجاد نساء لديهن قصص ذاتية قوية، وبنفس الوقت لديهن القدرة على سرد تلك القصص بطريقة مشوقة. إن مجموع هذه العناصر كونت معايير الاختبار.
هل واجهتم صعوبات ما في مرحلة إنجاز الفيلم؟ وكيف تم التواصل مع السيدات، وما هو بالمشترك بينهنّ وهنّ من مختلف الطبقات الاجتماعية، ومن مختلف المناطق الفلسطينية، ومن خلفيات ثقافية متنوعة؟
الصعوبة الأساسية كانت كوننا لا نستطيع الذهاب إلى فلسطين بأنفسنا، وهذا هو وضع جميع الفلسطينيين في الشتات. بالحقيقة تواصلنا مع السيدات بسهولة فائقة، وأعتقد أن ذلك هو نتيجة الحاجة لدى الأشخاص للتعبير عن معاناتهم وعن تجاربهم لأشخاص مستعدين للسماع بدون أحكام. ومن الملفت أن هؤلاء النساء مع اختلاف طبقاتهنّ الاجتماعية وخلفياتهنّ المهنية والمعيشية يتشاركن في الأمور الأساسية والقناعات الأساسية، وهي إحساسهنّ باللجوء والنزوح عن أرض الوطن.. أرض الأجداد. وكذلك انتماؤهنّ الوثيق إلى فلسطين، فهنّ جميعهنّ يعرفنّ عن أنفسهنّ بهويتهنّ الفلسطينية حتى لو كنّ يحملنّ جنسيات أو جوازات سفر أخرى. كما أنهنّ يتمسكنّ بالحق والحلم بالعودة إلى فلسطين إن كنّ في الشتات، ويتمسكنّ بالحق في العيش على أرض فلسطين إن كنّ على أرضها.
فالإحساس بالخسارة واللجوء والهوية والانتماء والحلم بالعودة ليس محصوراً بالفئات المهمشة اقتصادياً فقط. هذا أمر يطال جميع الفلسطينيين حتى لو كانوا يعيشون براحة.
ماذا أضاف هذا الفيلم لمسيرتك الفنية؟ وما المختلف فيه عن أفلامك السابقة؟
أعتقد أن «خيوط السرد» هو الفيلم الوحيد بين أفلامي الذي يحكي ويحاكي قصتي الشخصية. لذا أعتبره الأقرب إليّ. كما أن العمل على هذه الفيلم كان بالشراكة الوثيقة مع منى خالدي، التي هي أيضاً تعتبره معبراً عن قصتها وقصة عائلتها الشخصية. وأعتقد أن الحب الذي وصفناه سوياً هو مكمل للحب الذي تعبر عنه النساء الــ 12 اللواتي ظهرن بالفيلم، وهذه يظهر في عملنا.
لماذا هذا الربط بين القضية الفلسطينية وفن التطريز؟
ما أردناه من الفيلم هو الربط بين النساء وفلسطين، أو سرد قصة فلسطين والاحتلال الصهيوني من خلال الرواية النسائية. أما التطريز فهو يمثل الثقافة واستمرار نقلها عبر الأجيال، فكما أن النساء هنّ عادة من يطرز فهنّ أيضاً من يحمل القصص والروايات من جيل إلى جيل رابطين بذلك الحاضر بالماضي.
حدثينا عن أجواء تصوير هذا العمل الذي كتبت نصه الصحفية سحر مندور.
بالنسبة إلى أجواء التصوير قد خططنا لها أن تكون حميمية.. وهذا أسلوب أعتمده في جميع أعمالي. فقد كنا نمضي الساعات الطويلة مع كل سيدة في جو مريح بعيد على نمط السؤال والجواب، وأنا دائماً أفضل أسلوب "الدردشة" بدون أوراق واستمارات. كما أنني أفضل البساطة في التصوير، بحيث يكون بين شخصين أو ثلاثة فقط بدون كثرة معدات وتقنين وذلك حفاظاً على الحميمية.
لقد ولدت لدينا بعد مرحلة التصوير صداقات متينة مع كل من النساء في الفيلم، وهي مستمرة حتى الآن. أما سحر فأنا أعرفها كصديقة منذ سنوات عدة، وكنت أيضاً أتابع كتاباتها الصحفية والروائية بانتظام، وأنا معجبة بكتاباتها وتحاليلها وأسلوبها، وهذه ليست المرة الأولى التي نتعاون فيها سوياً.
ما هي الرسالة التي أردتم كصنّاع للفيلم أن تصل إلى الناس؟
الرسالة الأساسية هي أن الفلسطينيين على تنوعهم وحتى الميسورين مادياً ومعيشياً لم ولن يتوقفوا عن الحنين والمطالبة بفلسطين وبالعودة إلى ديارهم، وإن الخسارة ليست فقط مادية بل هي متعلقة بالهوية والانتماء والحق الأساسي والعدالة. كما أننا أردنا أن نظهر صورة المرأة الفلسطينية غير تلك المستهلكة التي يظهرها الإعلام الغربي: البؤس والفقر وقلة التعليم أو ما يناسبهم أن يطلقوا عليه صفة "التخلف".
برأيك، إلى أي مدى يهتم الجيل الجديد بمثل هذه الأفلام الوثائقية التي تهتم بالقضايا الإنسانية كالهوية، والتراث، واللجوء، وغير ذلك؟
هذا سؤال واسع ولكن ما استطيع أن أقوله هو أننا نلاحظ أن الجيل الجديد يكوّن على الأقل 40/50% من الجمهور في كل عروضنا للفيلم إن كان في العالم العربي أو في أوروبا أو أمريكا، مما يدل على اهتمام لدى أبناء هذا الجيل لفهم القضية وللتعمق فيها، خاصة لفهم النواحي الإنسانية والشخصية. وبين الشباب العرب أو الفلسطينيين نجد شغفاً لمعرفة المزيد عن تاريخهم الشخصي والعائلي، فهم برأيي في رحلة بحث عن الجذور والتاريخ والهوية والانتماء.
هل ترين أن هذا هو الوقت المناسب لأنسنة قضيتنا الفلسطينية عالمياً من خلال السينما؟
قضيتنا هي بالأساس قضية إنسانية فهي قضية سلب شعب من أرضه ووطنه من قبل قوى استعمارية واحتلالية لهذا الوطن. نحن نتكلم عن خسارة هائلة معنوياً ومادياً يتعرض لها الشعب الفلسطيني يومياً. بالطبع علينا مسؤولية أن نضع قضيتنا أمام العالم، كلٌّ بالأسلوب والأدوات التي يملكها. نحن نعمل على إنتاج الأفلام الوثائقية، وهذا الفيلم هو إحدى الطرق لعرض القضية عالمياً، والإنتاج السينمائي الهائل الذي نشهده مؤخراً هو طريقة أخرى فاعلة جداً.
سؤالي الأخير لكارول: ما الذي تعملين عليه الآن؟
أعمل الآن على مشروعين أساسيين، الأول يتعلق بعلاقة الجيل الجديد مع العمالة الأجنبية، تحديداً مع العاملات الأجنبيات في البيوت. والثاني يبحث في أثر اللجوء على الرجال السوريين في لبنان، خاصة ما يتعلق بخسارة العديد منهم قدرته على إعالة الأسرة والأثر الذي يتبع ذلك.
أخيراً، سؤالي لمنى: هل في الأفق مشرع تعاون فني آخر مع المخرجة كارول منصور؟
أكيد، فأنا وكارول نتعاون ونعمل معاً منذ سنوات، وأعتقد أننا نستطيع دمج خبراتنا المختلفة لإنتاج شيء جديد ومختلف، يستمر بتسليط الضوء على الأمور الصعبة في مجتمعاتنا.
يُشار إلى أن كارول منصور، مخرجة، ومنتجة لبنانية من أصل فلسطيني. عملت في كتابة السيناريو والإخراج والإنتاج بين 1992 و 1999 في تلفزيون المستقبل. عملت على تحقيق عدة أفلام وثائقية تناولت الصراعات، ومعاناة الشعوب والهوية الفلسطينية، منها: «لا سبيل إلى العودة الآن، يا صديقي» عام 2014، و«نحنا مو هيك»، و«بدنا نعرف» عام 2012، و«كيف حالك» و«كلنا للوطن» عام 2011، و«أصوات من اليمن» عام 2009، و«صيف لا ينتسى» عام 2007.
نالت كارول منصور عن أفلامها العديد من الجوائز السينمائية في مهرجانات دولية، منها جائزة "أفضل فيلم وثائقي" عن فيلم «نحنا مو هيك»، في مهرجان Rated SR في نيويورك، عام 2014، والذي نال في نفس العام جائزة "لجنة التحكيم"، في مهرجان FIFOG في جنيف، سويسرا. ويعد فيلمها الوثائقي «خيوط السرد» (بحث منى خالدي، إنتاج «فوروود فيلم بروداكشن» مع مؤسسة «التعاون ــ لبنان»، ومؤسسة «إنعاش» 2017)، آخر أفلامها الوثائقية.