«الخروج من البلاعة»: أن تحكي حكايتك، أن تكون مرئيًا

2018-06-08 11:00:00

«الخروج من البلاعة»: أن تحكي حكايتك، أن تكون مرئيًا
أمام الشجرة العملاقة , By:Karim Hanafy

كما أن هناك اشتغال على مزج آخر، وهو مزج اللغة الفصحى باللغة العامية، لم تستخدم اللغة العامية بشكل عبثي داخل الرواية، إنما خدمت روح العمل، من جهة اللغة التي تتحدث فيها الشخصيات، كما أن تداخلها مع الفصحى يكشف عن حسّ تجريبي في اللغة داخل العمل.

في مصر. وبعد ثورة 25 يناير 2011، ظهرت أعمال أدبية تناولت هذا الحدث، وتداعياته على المكان. لم يستطع كتّابها إدارة ظهرهم  للتغيّرات التي حدثت أمامهم، وعايشوها. مع مرور الوقت كانت المسافة الزمنية تتسع، بالتزامن مع المصائر التي رسمها الحدث للجماعات والأفراد. لتتكشّف معالم المشهد بتفاصيله وتأثيراته شيئًا فشيئًا بشكل أوضح.

في هذا السياق تأتي رواية «الخروج من البلاعة» للروائي المصري نائل الطوخي، الصادرة عن ”دار الكرمة“ في القاهرة، 2018.

كان الحل هو إطفاء نيران الحدث، شرط أن لا يصبح جمرة رمادًا، وهكذا يصبح بالإمكان تأمل تداعياته، والذهاب لأبعد من ذلك؛ تأمل الهامش - الخامل- داخل مجريات وأحداث الثورة.

حورية إسماعيل عبد المولى، البطلة التي يتمحور العمل حول حياتها، الفتاة التي تنتمي للطبقة المتوسطة في القاهرة، وبجانب شخصيات أخرى داخل العمل، تتأرجح حياتهم ما بين الماضي الذي يحاولون جاهدين الخروج من قيوده. وحاضر ليس له ملامح، دائم التخبط، وجزءٌ منه الصراعات السياسية التي تلت الثورة، وجزء آخر شخصي.

التغيّرات التي حدثت بعد الثورة، نراها في الرواية، كتفاصيل موازية للتفاصيل الشخصية الغارقة فيها شخصيات العمل، وفي نفس الوقت كان من الصعب تجاهل ثقلها على حياتهم اليومية، أو عدم التأثر بها.

بينما كانت الثورة على وشك القيام، كان كمال، الزوج الثاني لحورية، قد قَتَلَ ابنها محمود من زوجها الأول الذي مات منتحرًا، ومن بعدها سينتحر هو الآخر. هذه الصدمة ستدفع حورية لقضاء أسبوعين من حياتها أثناء الثورة، تقضي النهار في الشارع، وتنام في الليل على الأرصفة، تراقب ما يحدث عن قرب، لكن بذهنٍ بعيد عن اللحظة الراهنة، معطل إثر المأساة الشخصية.

وعندما تفكر في قول صديقتها الثورية هند بأن الثورة أجمل شيء حدث في حياتها، تتساءل حورية .. لماذا؟

ونتيجة للصدمات الشخصية التي تعرضت لها، فإنها تضع الحدث ضمن سياق حياتها الشخصية وتجيب على تساؤلها: ”الثورة ساعدتني بشكل أساسي. كل شيء كان يمشي في اتجاه جديد، كان الناس يتكلمون  كلامًا جديدًا. باختصار، أخذتني السياسة من حزني الصغير ورمتني إلى حزن كبير، هذا التكنيك نفع معي. أنا نمت أسبوعين في الشارع (…) قولوا في الثورة أي شيء، ولكن الأكيد أنها دوامة، وهذه الدوامة هي ما كنت أحتاجه بشدة. باختصار، هذه استفادتي الوحيدة من الثورة“.

في هذه الرواية أخذ نائل الطوخي الاتجاه المعاكس لسرد الأحداث الكبرى، فبينما المغري عند البعض تناول حدث كبير من خلال شخصيات سواءً كانت مثقفة، أو واعية لما يجري، أو عادية، فهي دائمًا يتم تطويع حياتها الشخصية للتماس مع الحدث لا العكس. في «الخروج البلاعة»، الحياة الشخصية والأسئلة الأكثر حميمية والأكثر خصوصية هي التي تطغى على الحدث، فحورية، سيدة مصرية تقليدية، أزماتها النفسية وصراعاتها الداخلية هي أساس وجوهر الموضوع في الرواية. قد يذهب البعض ليقول أن حورية هي رمز لمصر-قد تحدث بعض التقاطعات- لكن ما يلمسه القارئ هو صراع داخلي أصيل لامرأة مصرية، بعيدًا عن زجها داخل كليشهات وأفكار نسوية جاهزة أكبر من أن تتحمله طبيعة شخصيتها.

محرك الفعل وردّ الفعل في شخصية حورية هو الخوف؛ نجده بإحساسها بعدم الأمان، عدم ثقتها في نفسها، رغباتها المكبوتة. كل هذا نجد له انعكاسًا على تعامل الشخصيات التي تدور حولها. حتى خوفها من المجتمع والناس في الشارع، فحورية عندما تمشي بالشارع وتتعثر قدماها فجأة، تنظر إلى للناس حولها وتقول ”أنا آسفة“ رغم أنها هي التي تعثرت وكادت أن تقع على الأرض.
 


لم يكن هناك تركيز على استخدام تقنيات كثيرة في البناء السردي للعمل. اشتغل الروائي على المزج ما بين صوت الراوي العليم، وصوت ضمير المتكلم/حورية. يظل الزمن متحركًا داخل النص، ما بين الماضي طفولة حورية ومراهقتها، وأحيانًا أخرى داخل ماضي شخصيات أخرى في الرواية، كوالد حورية، والحاضر بلحظته الآنية، والماضي القريب.

تنقّل حورية وعيشها بأكثر من شقة في القاهرة، يتيح للقارئ التحرك داخل أحياء القاهرة، من حيّ السيدة زينب، إلى المنيل، وبعدها الدقي، ميدان التحرير، وصولًا لآخر شقة تسكن فيها حورية، وهي المقطم، أعلى منطقة في المدينة، والتي يرى المرء من خلالها المدينة كلها من فوق.

كما أن هناك اشتغال على مزج آخر، وهو مزج اللغة الفصحى باللغة العامية، لم تستخدم اللغة العامية بشكل عبثي داخل الرواية، إنما خدمت روح العمل، من جهة اللغة التي تتحدث فيها الشخصيات، كما أن تداخلها مع الفصحى يكشف عن حسّ تجريبي في اللغة داخل العمل.

أحد التفاصيل المهمة التي قدمتها الرواية من خلال شخصية حورية، هو تلك الرغبة التي كانت تمثّل النقيض التام، لتفجّر الثورة، فبينما امتلك الكثير القدرة والجرأة على الكلام. كانت أزمة، وطموح حورية هو أن تستطيع تحكي حكايتها، أن تتحدث عن حياتها، وعن المآسي التي مرّت بها، أن تكون مرئية. هذا ما جعلها في النهاية تسحب المسدس من يد عاطف، شقيق كمال زوجها الثاني، أثناء محاولته هو الآخر بالانتحار، وأطلقت رصاصة برأسه. عند هذه اللحظة شعرت أنها باتت مرئية، وفي السجن حكت لكل السجينات الأخريات حكايتها.

”كانت الثورة مدخلها إلى الحكاية. في البدء كانت تحكي بدون أسماء، كأنها تحكي  عن أحداث عامة مر بها البلد، بعد قليل بدأ خيط الحكايات ينتظم حول نفسها. بدأت تُكثر من قول كلمة «أنا»، حتى انطلقت الحكاية على لسانها بهدوء وثقة.“