أحزان حارس المرمى

2018-07-12 11:00:00

أحزان حارس المرمى
Fabien BARTHEZ / Gianluigi BUFFON - France / Italie - Finale Coupe du Monde 2006 - Berlin - Allemagne, July 09, 2006

مع دخولي الوسط الثقافي، اختلفت الأمور: لا أحد يهتم بالسيارات، ولكن قضية كرة القدم ظلّت معقدة: ينقسم المثقفون بين أعداء للطابة، وهم عموماً مملون تقليديون زائفون مدعون، وبين أنصار الطابة، وهم متعصبون حماسيون مغرورون مهووسون وقحون.

إلى رنا عيسى

 

(1)

كانت إسبارطة، النموذج الأولي لجمهورية أفلاطون التوتاليتارية، حكومة عسكرية بامتياز: اشتهرت برشاقة كل أبنائها، وبمواظبتهم جميعاً على ممارسة الرياضة بدقة منهجية صارمة.

أثينا، بالمقابل، كانت أقل تشدداً في متطلباتها الجسدية، وأكثر انفتاحاً على فكرة الاختلاف بين الناس.

أنجبت أثينا سقراط، القصير الدميم، المتسائل المتردد الشكاك، الساعي إلى الحقيقة بهدوء وتروٍ وثبات، أبو الفلسفة، الذي (وهنا تحضرنا الكليشيه المملة المناسبة تماماً لحالتنا هذه: "ويا لسخرية القدر") قتلته الديمقراطية بإجباره على تجرع السم.

اشتهر سقراط بمقولة "اعرف نفسك"، وهي النقيض الموضوعي الكامل للقمع الذي تمارسه السلطة والمجتمع والدين على الناس، أي لجمهورية أفلاطون الهمجية الشريرة الشهيرة.

(2)

في الحارة، كان فريقنا يهجم دفعة واحدة إن استحوذ أحد لاعبي فريقنا على الكرة، ثم يعود إلى الدفاع كرجل واحد، إن استحوذ فريق الخصم على الكرة: هذه هي الخطة التي انتهجها فريقنا في كل مبارياته، وكذلك اتّبعتها كل فرق الحارات الأخرى، بلا استثناء.

في هذه الخطة الثابتة، سيكون للمهاجم السريع الدور الحقيقي الوحيد في المباراة: ما أن يلتقط الكرة ويهجم حتى يتبعه جميع الأولاد صارخين غاضبين راكضين بسرعة محمومة خلفه. عادةً ما ينتهي الامر بمواجهة بين المهاجم السريع وحارس مرمى الفريق الخصم: مبارزة بين طفلين، غالباً ما تنتهي لمصلحة المهاجم.

والحارس كان أنا: كنت ضعيف البنية، نحيلاً، مهذباً، "دلوع الماما"، مجتهداً جداً، مطيعاً، الأول على صفي دوماً. تقتضي أعراف كرة قدم الحارات أن يصبح الطفل الأضعف والأكثر إثارة للشفقة والاشمئزاز (أي الأقرب إلى الصفات "الأنثوية") حارس المرمى، وكنت أنا الأضعف بلا جدال في مقاييس الذكورة تلك.

بحارس "أفكح"، وسبعة مهاجمين، دخلنا بطولة الحارات بثقة كبيرة، وبملابس جديدة، وبرأس مرفوع.

خصمنا الأول كان فريقاً متماسكاً، بمهاجم لعين: مارادونا صغير "مقطّع موصّل": قصير القامة، سريع، "حربوق"، متحدّث بديع، لسانه طويل، محبوب من الفتيات. فراس المهاجم هذا سجّل ما يقارب الخمسة عشر هدفاً في المباراة القصيرة التي تستمر نصف الساعة. آخرون سجلوا ثمانية أهداف. النتيجة النهائية كانت 23 هدفاً مقابل ثلاثة.

عشية ذلك اليوم التاريخي تعرضت لتعنيف لفظي لا مثيل له من فريقي الذي حمّلني بغلّ المسؤولية الكاملة عن الخسارة، ولسخرية جارحة لا حدود لها من لاعبي الفريق الخصم، بالإضافة إلى أشهر من التعذيب النفسي الذي جلبته علي سخرية أطفال الحارات القريبة والبعيدة الذين سمعوا جميعهم بالمجزرة التي ارتكبها فراس في مرمى حارتنا.

كانت الخسارة الأكبر في سجل البطولة، البطولة التي انسحبت منها مساء الهزيمة نفسه.

انتهت حياتي الكروية مبكراً جداً، واعتزلت اللعب على الإسفلت، إلى الأبد.

(3)

في مراهقتي، كنت أشعر بالقلق الشديد على صورتي كرجل بالغ: لا أفقه شيئاً في السيارات أو في الرياضة، وقد حاولت كثيراً أن أتعلّم كيف أركن السيارة، أو أن أختار نادياً أوروبياً لأشجعه. وبسبب الذكرى الأليمة من الطفولة، لم أفكر بلمس الكرة، ولكنني حاولت أن أشجع نادياً ما، أختار لا على التعيين واحداً أسمع باسمه كثيراً: ريال مدريد أو مانشتر يونايتد أو بايرن ميونيخ. لم أحب الألمان، ولا فكرة الماكينات البشرية، التي يميل إليها مشجعو الكرة بشكل يوحي بغياب إنسانيتهم. حسمت أمري بالسلب: لن أشجع الماكينات المتوحشة، ولكنني لم أتخذ موقفاً إيجابياً من بقية الفرق الأكثر إنسانية.

فشلت في إجبار نفسي على الدخول في عوالم السيارات أو الكرة الصغيرة المملة، واتجهت إلى التدخين، والكحول، والشغب: هذا كله كان تعويضاً عن فشلي الآخر: فشلي في الحفاظ على المركز الأول في الصف، وهو ما شكل صفعة هائلة لغروري، الغرور الذي كان يحميني من عنف مستمر هائل غير مرئي يمارسه الناس بحق بعضهم البعض في المدرسة والأسرة والشارع. وحده التفوق الدراسي كان يحميني. مع تراجع هذا التفوق، جُرحت أناي التي كانت ترى في التفوق الدراسي السبيل الوحيد إلى إرضاء الذات والأهل والغرباء. تخلخلت أناي الخاصة، تلك التي كانت تتقاذفها عادات الناس وسخريتهم وحزمهم، وقلقهم وضعفهم ومخاوفهم.

بقيت عارياً أمام نفسي: من أنا، إن لم أكن الأول في الدراسة؟

(4)

تدريجياً، طوّرت أساليب دفاعية لتقيني من عنف الناس: تعلمت السخرية المُرة اللئيمة: السيارات هواية تافهة لناس فاشلين، فقط محدودو العقل والرؤية مهووسون بماكينات تافهة لا معنى لها. كذا الأمر مع الغوغاء التي تعشق كرة قماشية (قماشية أم بلاستيكية أم ماذا؟) صغيرة يأخذها الحظ باتجاهات مختلفة كل مرة، كالأعزب المتأرجح دوماً بين استقرار سجّان وحرية فارغة.

(5)

لاحقاً، اكتشفت أن الجهل بالسيارات وكرة القدم يسري في العائلة، من جدي إلى أعمامي وأبي وأخي. طمأنني هذا الاكتشاف كثيراً، ولكن أيضاً أثار خوفاً من لعنة الجينات: لطالما كنت أؤمن بفردانية الإنسان، وبسخف الوراثة الجينية التي تحدد خياراتنا وهويتنا ومستقبلنا.

ربما كنت مخطئاً، ربما هذا الفرع من عائلة الزعبي يتفرّد بجهل أصيل في قضايا السيارات وكرة القدم، كقدر بيولوجي لا فكاك منه!

(6)

مع دخولي الوسط الثقافي، اختلفت الأمور: لا أحد يهتم بالسيارات، ولكن قضية كرة القدم ظلّت معقدة: ينقسم المثقفون بين أعداء للطابة، وهم عموماً مملون تقليديون زائفون مدعون، وبين أنصار الطابة، وهم متعصبون حماسيون مغرورون مهووسون وقحون.

كنت أفضل الانتماء إلى الصنف الثاني، ولكنني فشلت.

لازمني شعور الفشل هذا وضرورة الانتماء إلى جانب الحماسيين سنين طويلة.

في النهاية سلّمت بمصيري التعس، ورافقتني مرارة وحسد وكراهية مكبوتة للحماسيين لم أتخلّص منها بعد.

(7)

في السنتين الأخيرتين، تخليت عن السخرية. لا شيء يدعو للسخرية فيما يحبه الناس، لهم اهتمامات متعددة متنوعة غنية شيقة غريبة: بعضهم يحب السيارات، وبعضهم يحب الشّعر، أو الطبخ، أو أنواع مَرضية من البورنو، أو الطابة، أو لعب الورق، الهندسة الوصفية، سارية السواس، ترجمات سامي الدروبي أو صالح علماني، الحشيش، كتابات مصطفى محمود، البرتقال "أبو صرّة"، أفلام اسماعيل ياسين، حسان بن ثابت أو الصعاليك، مخلل لفت، "عيلة خمس نجوم"، إبداع تاركوفسكي، أحلام مستغانمي، فوازير نيللي، "داي هارد"، "قمر الدين" الدبق، أحاديث راتب النابلسي، سيجارة بعد "الزفر"، الطريقة الخاصة للحجاب في تركيا، عينا شكري سرحان، مسلسل "أبو كامل"...

بعد معاناة طويلة مع الأنا، قبلْتُها كما هي، أو، بالأحرى، وجدتها وطوّرتها: كاتب قصة قصيرة وصحفي؛ فقير عاطل عن العمل في بلد غريب؛ أمارس السباحة (بدون انتظام)، وكذلك اليوغا (لأسباب صحية وليس فلسفية)؛ أقلعت عن التدخين، وتقريباً لا اشرب الكحول؛ فأر كتب متوحد، بلحية خفيفة يغزوها الشيب بتسارع، ونظارات ليست بالثخينة ولا بالرقيقة، وشعور لا يني يكبر بغربة وجودية واجتماعية ثقيلة الوطأة كهزيمة تاريخية.

ولكنني ما زلت أخشى الذين يشجعون فرقاً رياضية بحماسة كبيرة، وأكرههم قليلاً، وأحسدهم بجرعات صغيرة؛ وما زلت أحمل في داخلي عبء مواجهة المجتمع الذي كسر طفولتي بسخرية لم يواسيني فيها أحد يومها: أخاف أن يسخر الناس من بطئي؛ من نسياني المتكرر لكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة؛ من خوفي من الأماكن المزدحمة والعالية والمُقفرة؛ من إقامتي في المكتبات العامة واختبائي فيها في الأيام الماطرة والمشمسة؛ من كوني ما زلت "دلوع الماما"؛ من ملبسي الهادئ المكرر: جينز "سادة" لا يتغير، وقميص أو كنزة "سادة"؛ من جهلي الكامل تقريباً بالموسيقا؛ من إيماني التقليدي جداً بالحياة الزوجية البسيطة؛ من تعلّقي الطفولي بالأصدقاء؛ من نومي مبكراً؛ ومن ارتباكي الأخرق أمام النساء اللواتي يكثرن المكياج والرجال الذين يلبسون بدلات رسمية.

لا يؤدي التقدم بالسن، بالضرورة، إلى التخلص من مخاوفك النفسية العميقة: ولكنه يؤدي، غالباً، إلى معرفتها وتفهّمها.

(8)

التقيت بفراس قبل تركي سوريا بسنتين، أي في 2007. ذكرني بلؤم بالمباراة التاريخية، ضحكنا سويةً.

تغير الولد المشاكس كثيراً: تزوج وأصبح متزناً، لطيف المعشر، يسلّم بما كتبه الله، ويسعى في الأرض لرزقه بتفان وإخلاص، وبقي قريباً إلى القلب ومتحدثاً أليفاً لطيفاً.

بعد اللقاء، وفي مراجعة ذاتية تأخرت كثيراً، هدأت نفسي القلقة على نفسها، ورضي الطفل الذي لم يكبر داخلي قليلاً.

تجولت في شوارع "البحصة" و"29 أيار" و"عين كرش"؛ ثم اتجهت إلى مقهى حديث فيه شاشة كبيرة تعرض مباراة كرة قدم.

جلستُ أتفرج على الناس يتفرجون على المباراة، بدون أي شعور بالقلق أو الغضب أو الدونية، للمرة الأولى في حياتي...

 

هذا المقال هو جزء من ملف "أبطال الملاعب" وهو من إعداد تمّام هنيدي.