ألعاب الجلالة أو "في مديح الأحذية"

2018-08-03 12:00:00

ألعاب الجلالة أو

فالفاشية في نظره لم تغب يومًا عنها، وما صعود التيارات اليمينية على السطح إلا دليل على ذلك. السؤال: أتراه يعلم هذا الجسد العسكري القائد أنّ حربه لن تنتهي؟! وأن الجسد والجنس ساحات حرب كما هو الميدان والعقل؟! ولكن أين عقل هذا القائد، هذا الجسد المزدان ببزته ما هو إلا وسيط جنسي إيروتيكي بين يد "تداعب" وتطلب المزيد من المداعبة، ورأسٍ حلوى، يثير الشهوة ويُشتهى، وكأن الحرب دائرة لا تنتهي!

1


للأحذية حضور كثيف في معرض "ألعاب الجلالة" (Majestic Play)، للفنان الأردني خلدون حجازين، ما يدفع بمرآة التناص إلى البحث عن طرفها الغائر في ذاكرة بصرية وفنيّة، لتجد مُبتغاها في شكلين من الأحذية، أحذية فان جوغ وأحذية الثورات العربية التي رُفعت في ميادينها في وجوه حكامٍ أزيلوا.

يقول القائل في القرآن الكريم: ".. فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" (سورة طه – الآية 12)، ثمة علاقة عكسية بين القداسة والأحذية، أو هكذا أريد لها أن تكون؛ عكسية. لكن الأمر لم يعد كذلك في أشكال الأحذية ونظرتنا إليها بعين ما بعد حداثيّة، ارتأت الهدم والتفكيك معنى ووجودًا، للقداسة والدناسة معًا، وهذه إحدى الألعاب التي تقوم عليها سرديّة الجلالة في الأعمال الفنية.

تصلح الأحذية لدخول المدينة، فالريف لا يخجل من عري اللحم، المدينة فضاء السلطة الأبهى، سلطة الدولة والمكان، بل وأحيانًا سلطة "الجليل"؛ (أوليس من لعب الإغراء في المدن الكبيرة أن تقدم كل ما يخطر على بال أهلها؟ أوليست تلك أيضًا غواية الجنة، أيمكن أن تكون الجنة مدينة؟!) لمن تصلح الأحذية إذن؟ للمقدس أم المدنس؟! للريف أم المدينة؟ للحياة أم للموت (نحن لا ندفن بأحذيتنا)؟

في لوحته الشهيرة "زوج من الأحذية" (1886)، يلفتنا فان جوغ إلى ما لا نتقصد/نريد النظر إليه، إلى شكل آخر من تقديم العالم والظهور فيه/منه؛ الأحذية، فالأحذية بلا وجه، بل هو يقع على النقيض من الجهة والوجاهة والوجه، يقع على الطرف المهمش من الوجود، أحذية فان جوغ هي الدعوة إلى التأمل إلى موقعنا من العالم/حيث نقف، عوضًا عن التأمل إلى العالم/حيث الأفق والسماء، التأمل في هويةٍ نبنيها ونستند إليها وننجذب إلى معاملها ومعاولها، بدلًا من الهويات التاريخيّة التي قذفتها لنا السرديات الكبرى المتجاوزة، والتي لم تسأم بعد من انهياراتها، رسم الأحذية تبرئة لها من تأثيم اللاهوتيين، ومحتكري الجمالية من زبانية المعنى، وأنظمة الحكم.
 

A Pair of Shoes. Vincent van Gogh. Van Gogh Museum. 1886. Post-Impressionism


الشكل الثاني من تناص الأحذية، على غير تمام انفصال عن الشكل الأول، ملقيًا بظلالٍ ثقيلة على أي عملية تلقٍ قد يمارسها الفرد العربي في محيط بات متخمًا بالمعاني الحادة، هي الأحذية التي رفعها المتظاهرون والمتظاهرات في ميادين الثورات العربية (التي لم تنته بعد، على ثقل اليأس فينا!)، في وجه أنظمة ثاروا عليها، وأسقطوها ليدخلوا مواجهة أخرى معها. فالفرد العربي إذ يرفع حذاءه لحاكم استبد بالمعنى والهوية والجسد لعقود، جاعلًا من المعنى -أي معنى-  تقديسًا له وحده، ومدًا لظله، إنما يفعل ذلك عن وعيٍ واعٍ أو غير واعٍ لقدرته على امتلاك المعنى وذاتيته كفرد ونحن في هذا العالم، ما يكفي لإسقاط وتعرية أنظمة تسبح في مسام أجسادنا وأرواحنا كبقعة زيتٍ أسود على سطح الماء. هو -المواطن- يكسر كل الثنائيات التي لطالما لعبت بها الأنظمة العربية لتشرعن نفسها في أرواحنا بالقمع، فيسكر مفهوم الدولة الأم والرئيس/الملك الأب، والوطن المقدس والنشيد الأخرس. إذ يرفع المواطن حذاءه في وجه قامعه إنما يحدد موقعه من هذا العالم، لا بالمتجاوز الذي وعده به فقهاء الظلام، على منابر مساجد (وليست جوامع) ترفض دخول الأحذية إليها، جاعلين من هراوات الملك والرئيس مقدسًا وتطهرًا، أثمانًا بسيطة لصورة فقيرة لجنة التهويمات الجنسية الجماعية سقفًا للمتخيل لديه، فتحديده هذا يمنحه الفاعلية، والحق في الذاكرة والحياة والسرد وموقع الوقوف؛ بالحذاء.

وحتى في خضم هذا السيل من الصور والمعاني في عصر السماوات المفتوحة، للعربي والعربية وتحديدًا الفلسطيني والفلسطينية أن يتساءل/تتساءل عن رمزية الحذاء فلسطينيًا، والتي باتت جزءًا أساسًا من صور الشهداء الفلسطينيين، فما الذي يعنيه مثلًا حذاء الشهيد باسل الأعرج الذي تركه وراءه مخضبًا بدمائه، بجانب مجموعة من الأوراق والكتب، ووصيته، أليس من الضروري أن نسائل الحذاء عن رمزيته، باعتباره أثرًا من الشهيد؟ (الشهيد كله أثر، لكن على/من من؟!)، على ماذا يدل هذا الأثر، وإلى ماذا يشير؟ أي أرض وقف عليها؟ الدولة أم الوطن؟  ولماذا عليه أن يلتبسه الرمز كما فعل مع صاحبه؟ وهل عليه ذلك؟

بين هذين الشكلين من الأحذية (الحق في الوجود)، تأتي عملية التلقي بشأن أعمال حجازين، والتي لا تمر دون أن تجعل الأعمال الفنيّة من عملية التلقي في ذاتها ممارسة ثوريّة. فموقع الأحذية في أعماله إنما لا تأتي لكسر ما نعرفه عن السلطة، إنما بما نريد قوله لها، فموقع الحذاء من الوجاهة/الوجهية/الجهة في الأعمال الفنيّ، لا يأتي ليصف السلطة بقدر ما هو انعكاس لمعرفتنا كمتلقيين بهذه السلطة. فالسؤال النمطي: كيف ترى السلطة نفسها؟ لم يعد هو الهدف من هذا التخيل، إنما كيف نراها نحن كمتلقين، إن عملية التلقي ثورية في ذاتها، فهي بمنطق الشكل الأول من الأحذية (أحذية فان جوغ) تكون قد موضعت الأحذية في الأعلى محل الوجه، فكسرت الثنائيات والجهات الألق القائمة عليها، وبمنطق الفعل الثوري عربيًا، وحدت بين الدال والمدلول، وأخبرت عن الثوار والثائرات ما أرادوه لأنظمتهم/ن وثوراتهم/ن.
 

A portrait of Syrian President Bashar al-Assad at the Bab al-Salam border crossing to Turkey

 

2

في أعماله المعنونة "حديث عميق" (Deep Talk) و"كعكة جميلة" (Cutie Cake) و"فضيحة" (Scandal)، والتي استخدم الفنان فيها تقنية تتماهى مع الفوتوغرافيا كمبنى يمكننا أن نلاحظ  توظيف ديناميات جنسية في شكلها الإيروتيكي لضخ المعنى وإيصاله عبر الثنائيات المباشرة. فمثلًا في لوحة "حديث عميق" والتي يظهر فيها جسدان مؤنثان متقابلان، وأمامهما كعكة محشوة، مسفوحة على الأرض، فيما يشبه تهويمات جنسية فيتيشية للمهبل وسوائله وأنسجته، والذي يتماشى مع عمق الحديث الدائر أعلاه، بين جسدين خاضعين لسياسات ضبط جسدية حادة وإن بدرجات مختلفة تكشف مواقع مختلفة من السلطة، وكأن الأجساد تحت داعٍ جنسي/إيروتيكي، يرمي بثقله المستتر على المعنى والتلقي، تتناول الحديث عن عقلنة الجسد في حديث عميق، مركزه بطبيعة الحال الأنثى، فالجسد الأنثوي والسياسات الجنسية الواقعة عليه، هي لب سياسات الضبط، ولعل وقوع الجسد الأنثوي ضحية لغوية دائمًا للتحيزات الجندريّة لمؤسسة اللغة، هو ما يجعل حديثًا في ظل الجسد والجنس والأنوثة، حديثًا عميقًا.

ولأن الصور الفوتوغرافية تحاكي "غيابًا" ما، وهي النموذج البنيوي الذي انبنت عليه هذه اللوحات الثلاث، فهي كذلك تحاكي حضورًا ما، وهو حضور السارد/الفنان. الفنان في اللوحة وإن ظهر أثره من ضربات ريشته في خلفية مفتوحة لا حدود لها، وإن تحدد الفضاء في اللوحة بما احتواه من أجساد (والجسد الأنثوي على الدوام موضوع امتلاك وتهويمات)، فذلك يشي بما وقع عليه هو أيضًاً -ونعني الفنان- من سياسات ضبط، فضربات اللون تخفي استجابة شديدة الانضباط لثقل سياسات الضبط، ذاتها التي وقعت على الأجساد في اللوحة.

أمّا في اللوحة الثانيّة؛ "فضيحة"، فنرى المآل الدلالي للعلاقة المتتالية سرديًا بعد اللوحة السابقة؛ فـ"الحديث العميق" بات "فضيحة"، والفضيحة تستلزم اتخاذ قرارٍ ما، إذ أن الفضيحة بما هي انفلات معنى ما من يد التأويل الوحيد له -قسرًا-، ولأن من يستحوذ الحق في التأويل على مدى الوجود البياني واللغوي للبشرية هو دومًا الذكر في صورة السلطة: الأب/الزوج/الأخ/المثقف/الشيخ/ النبي/الإله، وجب أن يكون قطبا اللوحة، ذكران متقابلان (إله ونبي/أبٌ وأخ، وغيرهما)، وما بينهما محض تماهٍ قضيبي يقع في مركز السردية البصريّة للوحة، في فيتيش مقابل لسابقه الأنثوي، هو ولأن الذكر هو من يحدد فضاءه/إقليمه/مكانه، كان الفضاء محددًا في هذه اللوحة بالأجساد المذكرة، على عكس الأجساد الأنثويّة التي احتواها الفضاء/المكان، فلم ينطلق منها كما هو الحال مع الذكور.

وفيما اللوحة الثالثة "كعكة جميلة" تشكف مظهرًا ملكيًا فوتوغرافيًا، انبنى على أبهة الحضور لملك وزوجته، لا تظهر من أبهتهم تلك إلا ما لا يُحكى. فيتحدد فضاء الصورة الفوتوغرافيّة بالذكر الملك وكأنه هو البداية، والقطب الذي يشع منه المكان، ثم تأتي في ترتيب سلطوي الزوجة فيما يبدو وكأنها جالسة على كرسيٍ وثير، تجمعهما خلفية زرقاء، أجبرت بلونها الملكي هذا ضربات ريشة الفنان أن تنبط، وهذا الخضوع يختلف في اللوحات الثلاث، فاللوحات التي ضمت جنسًا واحدًا، ذكرًا أو أنثى، كانت ضربات الفرشاة باللون أكثر حرية، دون أن تكسر الانضباط الذي تكثف وأثقل على الحرية في النموذج الثالث، الملكي، ما يظهر خضوع الرسام إلى اشتراطات الهيراركية مرتين، الأولى تجاه المضمون والثانية تجاه السلطة.
 

Deep Talk

 

Cutie Cake

 

Scandal

 

3

في عملين آخرين؛ "السيدة غراند" (Madame Grand) و"ذكي" (Smarty)، يقع  الفنان ضحية تحيزاته الجنسية، فثنائية التقابل بين الرجل "ذكي" والمرأة "مدام غراند"، لا تعني الندية، ولا المساواة بحالٍ من الأحوال، حتى ولو استُخدمت في ذلك الأداة الرئيسيّة في الأعمال الفنيّة، وهي السخرية من مفهوم الظهور،إذ أن كلا الرجل والمرأة يظهران باعتبارهما حلوى، مبهرجة، إلا أن تقسيم العمل واضح، ففي حين كان الرجل محدد الهوية "ذكي"، وله شكل/وسم فاعل، فإن المرأة ليست كذلك، هي مفعول به، ينتظر فاعلية الآخر بأن ينزع عنها غلافها، وكأن هذا الغلاف هو امتداد لكم البهرجة التي خضعت له، وهو ليس ذات الأمر بشأن الرجل، والذي له دونًا عنها وجه، والوجه أول الدلالة والوجود والجسد، إنما المرأة جسدها يحدد بمن ينزع عنها، وكأن الرجل "ذات" مستقلة، والمرأة "موضوع".
 

Candy Head

 

Candy Bear

 

في لوحة "القائد الحلوى" (Lolly pop Commander) والذي استخدمت نفس الشكل الفني ونعني التندر، في بنية فوتوغرافيّة، يظهر القائد العسكري ببزته الخضراء، الساطعة، وكأنها قد خاضت كل الحروب، وحررت كل الأوطان، وعلقت لأجل ذلك عليها النياشين، والآن وقت الحساب. ولأن الحرب والجنس، من دينامية واحدة، ومركزها الجسد والهيمنة عليه، كان استخدام رمزية أساسيّة في أدبيات فنون البورنوغرافيا وهي الفاكهة الحمراء، والتي عادة ما تكون إحدى أربعة: التوت، الفراولة والرمان أو التفاح، لمركزية اللون فيها جميعًا، وتلقينا هذه اللوحة على عتبات نص "السرعة والسياسة" لبول فيريليو، والذي يخلص فيه إلى أن الحرب هي المحرك الفعلي للتاريخ، فـ"إن ما يجعل الحرب (باعتبارها مشروعًا متجانسًا نشيعه في الزمان والمكان ونعيد إنتاجه على الدوام لنفرضه متى أردنا على خصمنا) محركًا للتاريخ ليس كونها أداة بل كونها مصدر خطاب كلياني في التاريخ. هذا الخطاب هو السعي المشترك بين الدول الأوروبيّة وبقية العالم نحو الجوهر المطلق للحروب، والذي هو السرعة"، وما يتضمنه ذلك من سيطرة على العقل والجسد، والجنس يقوم على نفس ديناميات السيطرة والامتلاك للعقل والجسد، ويصل فيريليو إلى السخرية من الأصوات الفزعة من عودة الفاشية إلى أوروبا، فالفاشية في نظره لم تغب يومًا عنها، وما صعود التيارات اليمينية على السطح إلا دليل على ذلك. السؤال: أتراه يعلم هذا الجسد العسكري القائد أنّ حربه لن تنتهي؟! وأن الجسد والجنس ساحات حرب كما هو الميدان والعقل؟! ولكن أين عقل هذا القائد، هذا الجسد المزدان ببزته ما هو إلا وسيط جنسي إيروتيكي بين يد "تداعب" وتطلب المزيد من المداعبة، ورأسٍ حلوى، يثير الشهوة ويُشتهى، وكأن الحرب دائرة لا تنتهي!
 

Lolly Pop Commander