رواية «اختبار الندم»... تمثيل الحرب روائياً

2018-08-11 12:00:00

رواية «اختبار الندم»... تمثيل الحرب روائياً

إن فكرة السلام في الأدب الروائي السوري بشكل عام وفي هذه الرواية بشكل خاص باتت مقتصرة على البحث عن السلام الفردي أثناء الهدنة بين قذيفتين أو بين موتين، ولذلك فإن تمثيلات السلام في هذه الرواية تحضر بوصفها توجد دائما في مكان آخر مكان متخيل يخرج من كتاب، أو حلماً مشتهى بمدن جميلة بعيدة مثل:

كانت الكلمة منذ الأزل، حمّالةً لتمثيلات الواقع، تستوعب، واعية أو غير واعية. أنماط التفكير وترمّز الحقائق باختزال عقلي حين يكون إبداعياً نسميه أدباً. نستطيع عبر قراءة الأدب التوصل إلى فهم أعمق للحروب، لا لأثرها على الأفراد فحسب، وإنما ربطها بالموروث الجمعي للبشر إبان كوارثها ومواجهاتها المستمرة مع ذاتها في تساؤلها المستمر عن غاية هذه الحروب وفظائعها، عن جدوى العنف، ومفهوم السلطة، ودوافع القتل عند البشر بوصفه تهديداً للجنس البشري ومستقبل وجوده على هذا الكوكب.

سنعالج هنا فكرة تحليل الأسماء والرموز بوصفها علامات دالة تستوعب أطياف الحرب والسلم وتستنطق الواقع بقدر ما تحيل إليه، من خلال حضورها في المنجز الروائي السوري الرازح تحت هول الحرب السورية، هذه الحرب التي تفرض ثقلها في المنتج الإعلامي العربي والعالمي المعاصر منذ ما ينوف عن ست سنوات. عند تناول الأدب السوري يجد الباحث  تمثيلاً إشكاليا للصراع الداخلي والخارجي الذي يُقلق تفكير الكاتب؛ الصراع الداخلي الذي يتعلق بالعجز عن الفعل وسط ضجيج التطرف والأسلحة، والصراع الخارجي الذي يتعلق بالقهر الناجم عن خيبته بمواقف دول العالم المتمدن بإعلامه وأساطيله وحقوق الإنسان فيه، لا سيما أن الآثار الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لما يحدث في سورية قد طالت معظم بلدان العالم مثل: أفواج اللاجئين التي وصلت حدود الدول الأوربية، وظهور المتطرفين المجهزين بأحكام مسبقة وبفكر عنيف جاهز للانتقام، وتنامي الأزمات الاقتصادية، وكذلك صعود اليمين المتطرف وفوزه في الانتخابات في بعض البلدان.

فرضت الحرب ذات المستويات المتعددة في سورية طرائق متباينة لتناولها في السياسة والإعلام والأدب، ونتيجة لتعقيد الواقع اليومي الذي فرضته الأطراف المختلفة على الأرض السورية نجد بالتوازي تعقيداً مكافئاً في تمثيله روائياً؛ مما استدعى بالتالي ترميزاً معكوساً نقصد به إن الواقع هو الذي يرمز ويشير، بينما الرواية تكتفي بتصويره ونقله حرفياً في سابِقة غريبة، فما حدث حقيقة في السنوات الأخيرة على الأرض السورية هو ما يمكن أن يكون ضرباً من ضروب الخيال غير القابل للتصديق في القرن الواحد والعشرين.

ولكن هل تحتاج الحروب إلى ترميز؟ وإذا كانت صورة الواقع هي الدال والمدلول في الوقت ذاته فأين المجاز في هذه الصورة؟ كيف نعرف حين يتحدث الروائي عن الرجم وقطع الرؤوس وضرب الدراهم في الإمارة الإسلامية كيف نعرف أنه يحكي الواقع أم يحكي المجاز؟ بعبارة أخرى؛ أيهما الواقع وأيهما المجاز؟ هل ينقل حكاية من حكايات القرون الماضية استمدها من كتب التاريخ أم أنه يصف أحداثاً وقعت فعلاً نلمس أثرها في مكان حقيقي على خارطة الجغرافية الحديثة، مكان يقع شرقي سوريا وغربي العراق.

ولأن اللغة كائن اجتماعي حضاري ينمو ويتطور بتطور المستعمِل، كما يرى عبد الملك مرتاض، كان لا بد من تقصي المحمولات الجديدة للكلمات التي توصّف الحرب والسلم بمقاربات استكشافية، حيث سنجد منها ما اتكأ على الموروث واستعار منه أسماء شخصيات تاريخية ومنها ما اشتق طرائقه المبتَكَرَة بالترميز. هذا ما سوف نتناوله بالنسبة للتسميات والترميزات في رواية خليل صويلح "اختبار الندم“ (دار نوفل، 2016) -الرواية التي فازت مؤخرا بجائزة الشيخ زايد للكتاب- حيث سنتقصى اكتسابها لمدلولات مُنزاحة عن المدلول الأصل بسبب السياق الذي يُفرش حولها ويُعدّها لحمل معان جديدة.

هذا الترميز المعاكس يستثمر بمفارقات مأساوية معطيات الواقع لتصبح هي الرمز بذاته أي لا تحتاج الرواية إلى الترميز والمجاز في إيراد مفردات التراث القديم مثل: أسواق النخاسة، السواطير، الهيئات الشرعية، الخليفة. هذه المفردات اليوم وفي القرن الواحد والعشرين هي ليست مفردات روائية اختارها الكاتب مجازاً أو كناية بل هي تمثل الواقع الحرفي المعيش في سورية، حيث الواقع يتجاوز الحاجة إلى ترميزه بل يتم الاكتفاء بتصويره كما لو كان صورة فوتوغرافية، هذا الواقع الممثّل في هذه المفردات هو الماضي وقد تم سحبه\حمله\نقله حرفياً بضعة قرون باتجاه الحاضر دون آلة زمنية من أفلام الخيال العلمي.

أبطال الموروث الشعبي الذين يُستحضرون عادة للتذكير بالأمجاد الغابرة، يحضرون في الرواية السورية المعاصرة منكسرين مهزومين، فيتم وضعهم ضمن السياق المعاصر للحرب اليومية. مثلاً، نجد عنترة العبسي يدفع فدية من النوق لتحرير عبلة من خاطفيها، بعد أن يرشو الجند المتمترسين في إحدى نقاط التفتيش، ثم يجد عبلة منتحرة بعد أن تَعَاقَب على اغتصابها أربعون مسلحاً. وفي سياق آخر نقرأ أن الزير سالم يخرج من سيرته البطولية مدركا أن سيفه قُدّ من خشب وأنه لن يصلح لضرب" أربعين رأساً إلى اليمين ومثلها إلى اليسار" كما في سيرته المتخيلة التي طالما حفظها وكررها العرب بوصفها مثالاً على البطولات الخارقة المتخيّلة التي توهّمها العقل العربي لتبرير عجزه على مدى عقود.

رحلة أوديسوس لن تعود كما كانت رحلة الإياب إلى الوطن إيثاكا بعد سقوط طروادة، بل تصبح أوديسة السوريين التائهين في البحر، كما تاه أوديسيوس، بقواربهم المثقوبة الجاهزة للغرق، السوريين الهاربين من إيثاكا الوطن سورية \الموت\الحرب إلى إيثاكا الحلم أوروبا\الملجأ\السلام.

أبو العلاء المعري السوري القادم من مدينة "معرة النعمان" العالم بالأديان والمذاهب والتاريخ ضد ادعاءات العادات والتقاليد البالية التي تلبس لبوس الدين يحضر في الرواية متعثراً حاملاً رأسه بين يديه -تماماً مثل الصورة التي تداولتها الصحف والمواقع الإلكترونية- رأسه أو رأس تمثاله الذي قطعه أصحاب الرايات السود، بعد وفاته بمئات السنين انتقاماً من فلسفته وعقيدته.

وضمن خانة التوظيف المعاكس نجد سفينة نوح تحضر في الرواية بوصفها نسخة مفزِعة عن السفينة المنقذة للجنس البشري تتوه في بحر الظلمات وتفشل في العثور على بر ترسو عليه وتحيط بها غيوم من الغربان. كما أن الفينيقيين لن يغادروا شواطئ المتوسط من الشرق لاستكشاف قرطاجة وللتجارة باللون الأرجواني؛ بل سيهربون من الدم الذي يبلل أجسادهم بلونه القاني.

إن فكرة السلام في الأدب الروائي السوري بشكل عام وفي هذه الرواية بشكل خاص باتت مقتصرة على البحث عن السلام الفردي أثناء الهدنة بين قذيفتين أو بين موتين، ولذلك فإن تمثيلات السلام في هذه الرواية تحضر بوصفها توجد دائما في مكان آخر مكان متخيل يخرج من كتاب، أو حلماً مشتهى بمدن جميلة بعيدة مثل:

- الكوكب الذي أتى منه الأمير الصغير في قصة أنطون دو سانت إكزوبري، حيث لا توجد قذائف ولا جثث موتى.
- إيثاكا، المدينة المشتهاة حيث السلام المنشود والحياة الهادئة.
- الجنس والمتع الجسدية بوصفها مقارعة لفعل الموت بفعل الحب\بفعل الحياة.

أما الميديا، فيتم تناولها في هذه الرواية بوصفها الوحش المتغوّل الأشد شراسة بسبب استثمارها المقتلة السورية دون أدنى مساهمة في الحد من فظائعها: "ميديا اليوم تحتفل بالموت السوري ببث صور مفزعة، تمحو صوراً مفزعة من وليمة الأمس، في متوالية بصرية باذخة بوصفها فُرجة كونية، فرجة لم تنقذ الضحايا ولم توقف أسباب الكارثة"

"المجد هنا للموت غرقاً، فهو أكثر إثارة لغيرة الميديا المتوحشة التي استهلكت ما يكفي من أنواع الموت السوري، في مطحنة الصورة، سلاح فتاك تقابله صورة فتّاكة، في أقصى حالات الفتنة البصرية (حرب تنظر إلى نفسها في المرآة) كي تتحقق من قوة إغوائها" إن الميديا لم ترمّز الحرب على الأرض السورية بل قامت بتصوير الحرب ببث مباشر وعلى الهواء دون رتوش إخراجية إلا في تمويه الأشلاء حفاظاً على مشاعر المشاهِد الحساس. وكأن الصورة تخجل من نقل حقيقتها فيُعمد إلى التخفيف من واقعيتها بالتمويه تارة وبالحذف تارة أخرى، في الإعلام والميديا تنظر الحرب إلى نفسها في مرآتها فترفض صورتها وتنكِر المرآة.

كان رولان بارت قد أشار إلى أن كلام الرواية، ليس أحادي المعنى، لأن تعاضد القراءة النحوية/الأفقية، مع القراءة السياقية/العمودية، سيتسبب في قراءات متعددة، تفتح أبواباً جديدة للتأويل. ولكن أي تأويل سوف يحتاجه الروائي لتوصيف حرب يعيشها بوصفها جحيماً يومياً، مع ملاحظة أن مفردة الجحيم هي أكثر المفردات تكراراً في الروايات السورية الصادرة بعد الحرب، قد يحاول الأدب في العقود القادمة تأويل ما تتركه الحروب من آثار على الأجيال القادمة، لكن الأدب الذي يعاصر زمن الحرب سوف يعمد إلى التصوير لأن الكوارث لا تحتمل بذخ المجاز والتأويل بل يحضر بدلاً عنهما بين الكلمات: الدم الطازج وأصوات قصف الطائرات وروائح الأجساد المحروقة.

على مدى السنوات القادمة لن ينفك الروائيون عن تقديم مكافئ روائي يشرح ويصور ويحتج أكثر من اهتمامه بتقديم مكافئ روائي إبداعي متحرر من مخلفات الحرب، وأظن أن الأدب العالمي والسينما والفن بجميع أشكالهم سوف يستثمرون تجليات هذه الحرب بوصفها فُرجة طارئة في السياق الرتيب ليوميات العالم المتمدن. ولكن أثرها الذي بدأ مثل أثر الفراشة سوف يصل أقاصي الأرض، ليقلق راحتها، إن لم يزلزلها.