«نادي ركوب الأمواج».. «نائلة والانتفاضة»: الفلسطينيات في وثائقيين

2018-09-08 12:00:00

«نادي ركوب الأمواج».. «نائلة والانتفاضة»: الفلسطينيات في وثائقيين
نائلة والانتفاضة

إن طريق صباح إلى حلمها أقرب إليها مما تخيلت، بل هو مرتبط بما تحبه وتتقنه أي ركوب الأمواج، إلا أن جداراً قاسياً وصعب التعامل معه يباعد بينها وبين تحقيق حلمها، وهو جدار يدعى " العادات والتقاليد التمييزية بحق الإناث"، وهو ما يقودنا إلى موضوعة الفيلم الثاني.

من بين عروض ”مهرجان كرامة“ لأفلام حقوق الإنسان في بيروت، في تموز/يوليو، برز الفيلمان المتعلقان بالواقع الفلسطيني «ركوب الأمواج في غزة» و «نائلة والانتفاضة»، كنموذجين من أفضل الأفلام التي أنتجت في الأعوام الماضية، والتي تسعى موضوعاتها لمقاربة سينما الالتزام، المرتبطة بقضايا الراهن السياسي والإجتماعي بما تحمله خصوصية الفيلم الوثائقي كنوع سينمائي يسمح بمعالجة هذه الموضوعات.

 

«نادي ركوب الأمواج»

لفيليب غناد وميكي يمين، وثائقي – ألمانيا، 2016

ترتبط رياضة ركوب الأمواج في ذهن العامة بالرياضات الترفيهية المرتبطة بالبحر والشواطئ الآمنة، ولا يتوقع أحد أن تشعر أية سلطة سياسية بالخطر من ممارسة هذا النوع من الرياضة، لكن لهذا الأمر في غزة خصوصية تأتي من الوضع السياسي التي تعيشه المدينة. هو فيلم عن نادي ركوب الأمواج في مكان حيث رياضة ركوب الأمواج غير معترف بها رسمياً لكي يكون هناك نادٍ خاص لها أصلاً، وفي مكان حيث إسرائيل تحظر دخول ألواح التزلج على الماء إلى غزة، وحيث يصعب على هواة هذه الرياضة استيراد المواد الأولية اللازمة لصناعة ألواح التزلج على الماء، وأخيراً في مكان حيث يصعب على محبي هذه الرياضة السفر للخارج وإكتساب الخبرة في صناعة الألواح وفي اللقاء بأشباههم من الرياضيين ليتم تبادل الخبرات. ها هي موضوعة «ركوب الأمواج» تحمل كل هذه الأبعاد السياسية والإجتماعية المتعلقة بغزة.

لكن كيف بدأت فكرة الفيلم؟ يحدثنا المخرج فيليب غناد عن الأمر: لقد قرأت مقالة صغيرة عن ركوب الأمواج في غزة. فكرت بأنه شيء جديد عن غزة. هي كما نعلم رياضة تعبر عن الشعور بالحرية الشخصية، خاصة في منطقة معزولة عن العالم. لذلك تكونت لي فكرة واضحة بهذا الشأن، ثم إني بدأت بالبحث واتصلت بأصدقاء. كانت عدم معرفتي باللغة العربية مشكلة كبيرة. ومن خلال بحثي عن مساعد تعرفت إلى ميكي الذي ترعرع في القاهرة.“
 

تبدو وقائع وإجراءات صناعة وتصوير هذا الفيلم، بأهمية الموضوعة التي يحاول تناولها، لأن مراحل التصوير وتحقيق هذا الفيلم أيضاً تعكس الواقع السياسي الصعب الذي تعيشه غزة، وهنا فلنعد إلى ما رواه المخرج فيليب غناد حول هذا الأمر: ”عندما بدأنا بالتخطيط للفيلم كان هناك من حين لآخر حرب دائرة في غزة. لم نبدأ بتصوير الفيلم إلا بعد أشهر قليلة من توقف الحرب. طبعاً من الصعب السفر إلى غزة، وقد توجب علينا التحضير والبحث لتحديد كيفية الدخول إلى هناك. ميكي الذي ترعرع في مصر اقترح الدخول عبر رفح، لكن وفي غضون ثلاثة أسابيع، حدثت اضطرابات في مصر، وبعدها تغيرت العلاقات بين مصر وحماس، فتم إغلاق الحدود وتفجير الأنفاق التي يستعملها المهربون ومعها أصبح من الصعب عبور الحدود. لقد حاولنا تجنب السفر عبر إسرائيل لأننا تخوفنا من أن يكون لإسرائيل نظرة تمنع من تصوير الفيلم.“

إبراهيم عرفات، علي أرحيم، مودي الرياشي، يوسف أبو غانم، هؤلاء هم الذين يشكلون الشخصيات الرئيسية في الفيلم، والذي يجمع بينهم تعلقهم برياضة ركوب الأمواج. يأخذنا الفيلم بعدسته إلى رحلة في يومياتهم، أساليبهم في التواصل، وسعيهم لتحقيق حلمهم في تأسيس نادي لركوب الأمواج، وكذلك في صعوبة أمور العيش التي لا تسمح لهم لا بالتفرغ لهذه الرياضة، ولا بالوصول إلى المعدات الأولية البسيطة التي تسمح لهم بتطوير هوايتهم. إنهم يجتمعون في براكة خشبية صغيرة على البحر، تتسع لكأس من الشاي، ومكاناً آمناً للإقفال على بعض الألواح الخشبية التي يملكونها، والتي حصلوا عليها من متطوع أميركي، ماثيو وهو أحد شخصيات الفيلم أيضاً، لكن قبل الانتقال للحديث عنه، أتابع عن فكرة تتعلق بعدسة كاميرا المخرج، التي سمحت لنا بالإطلاع على الوضع الإعماري ومقدار الخراب والدمار في غزة، من خلال تصوير الأبنية والمنازل والساحات العامة التي تنقلها العدسة إلى عين المشاهد بكونها جزءاً من المحيط العام للأماكن والمنازل التي تسكنها الشخصيات الأساسية في الفيلم.

ماثيو الأميركي هو الصديق الذي تبرع للمجموعة الشبابية الرياضية بألواح التزلج القليلة التي يملكونها داخل غزة، وذلك عبر منظمة ”ركوب الأمواج من أجل السلام“، وهو واحد من شخصيات الفيلم لأنه مايزال على تواصل مع المجموعة وخصوصاً مع إبراهيم عرفات الذي تحتل قصته باقي مدة الفيلم.

إبراهيم عرفات هو شاب من غزة درس التمريض، وهو الأكثر طموحاً من بين أفراد المجموعة لتطوير هذه الرياضة، وهو يفكر بتحويل سطح منزله أو مكان عمله إلى نادي ركوب الأمواج -الحلم. مازال التواصل قائماً بين إبراهيم الفلسطيني والأمريكي ماثيو لأن الأخير يحاول تشجيع إبراهيم على طلب الفيزا الأمريكية للقدوم إلى هاواي لفترة تعليم وتدريب على مهارات هذه الرياضية وكيفيات صناعة ألواح التزلج الخاصة بها. يُرفض طلب إبراهيم بالحصول على الفيزا أكثر من مرة، ويكاد الفيلم أن ينتهي هنا، بهذا الأفق المسدود واللا أمل في تحقيق إبراهيم لحلم المجموعة.

إلا أن تطوراً يجري، حيث يحصل إبراهيم بعد عدة محاولات على الفيزا التي تسمح له بالسفر، فيقرر فريق تصوير الفيلم مرافقة إبراهيم في رحلته إلى هاواي، وهناك يتبع إبراهيم برفقة ماثيو عدداً من التدريبات وجلسات النقاش مع الإختصاصيين في صناعة ألواح التزلج على الماء، ويكتشف أكثر عن الرياضة، ورغم أنه يحاول طيلة الوقت التخطيط لكيفية تحقيق ما يراه وما يتعلمه في غزة، فإن الفيلم ينتهي بالعبارة التالية: إبراهيم لم يعد حتى الآن إلى غزة، أي أنه قرر دراسة اللغة الإنكليزية والبقاء في الولايات المتحدة.

أثارت هذه النهاية حفيظة العديد من النقاد والصحفيين العرب الذين وجدوا في النهاية خياراً من المخرج يوحي برغبة جميع قاطني أهل غزة للخروج منها. لكن الفيلم لا يروي مصيراً جماعياً، بل هو يروي حكاية فردية، قصة شخصية ترغب بتحقيق حلمها في تعلم ركوب الأمواج وتحقيق نادٍ رياضي خاص لها، وليس تغيير أوضاع كامل البلاد. فإبراهيم ليس مناضلاً سياسياً وليس قائداً عسكرياً، إن حكايته تعكس مصيراً شخصياً، تعكس أن أبسط الأحلام في غزة ممنوعة. إن تحقيق كل فرد لحلمه الشخصي هو أكبر مساهمة في تحقيق الحلم العام والجمعي في المجتمع.
 


عن هذا الفيلم، نختم بحكاية تضمنها الفيلم دون أن نذكرها حتى الآن، وهي حكاية الفتاة صباح، لقد علّمها والدها الركوب على الأمواج حين كانت صغيرة، الآن، وقد أصبحت في الخامسة عشر من العمر توقفت عن ممارسة هذه الرياضة وارتدت الحجاب، يبرر الأب السبب بالنظرة الاجتماعية والعادات والتقاليد التي تجبرها التوقف عن ممارسة هذه الرياضة. حين تتحدث الكاميرا إلى صباح، تروي أنها تحلم بالكثير من الأشياء، منها الشهرة. في حلمها ترى صباح نفسها في حال من النجومية يحيط بها العديد من المعجبين الذين يرغبون منها توقيع أوتوغرافات.

ينجح فريق العمل السينمائي، بإقناع والد صباح وصباح بالسماح لهم بتصويرها عميقاً في البحر تمارس هوايتها بركوب الأمواج. حين يصل القارب إلى عمق البحر، نكتشف أن صباح ترتدي ملابس البحر الخاصة بهذه الرياضة، وترفع الحجاب عن شعرها لتتمكن من ركوب الأمواج مشدودة إلى القارب، في مشهد جميل، تتجمع فتيات متوجهات إلى المدارس عند الشاطئ ويراقبنها وهي تركب الأمواج ببراعة، وحين تعود صباح إلى الشاطئ، تتحلق من حولها الفتيات للتحدث إليها، ها هي صباح حيث من حولها المعجبون والمعجبات يطلبون التحدث إليها عن نجاحها في تعلم ركوب الأمواج، إن طريق صباح إلى حلمها أقرب إليها مما تخيلت، بل هو مرتبط بما تحبه وتتقنه أي ركوب الأمواج، إلا أن جداراً قاسياً وصعب التعامل معه يباعد بينها وبين تحقيق حلمها، وهو جدار يدعى " العادات والتقاليد التمييزية بحق الإناث"، وهو ما يقودنا إلى موضوعة الفيلم الثاني.
 

 

«نائلة والانتفاضة»

لجوليا باشا، وثائقي الولايات المتحدة – فلسطين، 2017 

تتجسد العلاقة بين السينما والتوثيق، وخصوصاً التوثيق البصري وليس فقط الحكائي، بأفضل ما يكون، وكتجربة عربية، في فيلم «نائلة والانتفاضة» من إخراج جوليا باشا. الفيلم أرشيف بصري هام، تطلّب الكثير من العمل والبحث للحصول على فيديوهاته وصوره الفوتوغرافية، ولقاءاته الشخصية بالنشطاء. موضوعة الفيلم هو دور المرأة الفلسطينية في النضال السياسي، منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، وصولاً إلا أن تلعب نائلة عايش أدواراً متقدمة في الحركة النسوية الفلسطينية، من أبرزها تسلمها منصب مديرة عامة لمركز شؤون المرأة لخمس سنوات في غزة، وحصولها في العام 2007 على الجائزة الدولية "المرأة والسلام " من المركز الوطني الإيطالي "جوري".

في لقاء معها تصر نائلة عايش على أن الفيلم الوثائقي الذي يحمل اسمها، لا يدور عنها فقط، بل يتعلق الأمر بكل امرأة فلسطينية قاتلت من أجل الحرية ضد الإحتلال الإسرائيلي، تقول نائلة: ”هذا الفيلم ليس عن قصتي فحسب، فقد قاتلنا الاحتلال كنساء بشكل جماعي، قصتي واحدة من العديد من القصص.“

شهدت نائلة في الثامنة من عمرها هدم منزل عائلتها في فلسطين عام 1969 من قبل القوات الإسرائيلية. وفي بداية الثمانينيات حصلت نائلة على منحة دراسية لاستكمال دراستها في أكاديمية العلوم ببلغاريا، وبينما كانت هناك، التقت بطلاب نشطاء سياسياً من جميع أنحاء العالم العربي، كانوا ملتزمين بالقضية الفلسطينية، ومن بينهم زوجها اللاحق، جمال زقوت.

إن عدد المناضلين الفلسطينيين الذكور الذين تمت ملاحقتهم والزج بهم في السجون أثناء الانتفاضة الأولى يدفعنا لتخيل الدور الذي لعبته النساء لاستمرار الانتفاضة، بينما يقبع أغلب النشطاء السياسيين الذكور في السجون. تقول مخرجة الفيلم جوليا باشا: ”لم تكن لتستمر الانتفاضة خمس سنوات بسبب شبان يلقون الحجارة على الدبابات، لقد استمرت بسبب وجود هيكل منظم للعصيان المدني، وإنشاء مؤسسات موازية للسلطة أدت بالفعل إلى إزالة سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على السكان الفلسطينيين بشكل فعال، دون وجود حكومة فلسطينية، وكان السبب في تمكنهم من فعل ذلك هو أن النساء كن على رأس السلطة.“

دخلت نائلة السجون الإسرائيلية وهي حامل بابنها الأول ثم خرجت منه، وراحت توزع المنشورات في الليالي، وتعمل مع غيرها من النساء في التحضير للاعتصامات والمقاطعات، تنظيم العمل المدني، وإيجاد سبل لمساعدة العائلات الأكثر فقراً وتضرراً في ظل الأحداث الجارية في تصعيد الانتفاضة الأولى. كان لا بد لسلطة أن تُنظم من داخل الحركة النسوية التي كانت تتمتع بهامش أوسع من الحرية من باقي فئات المجتمع النضالية.

ينوع الفيلم في طريقة تحقيقه للموضوعة التي يطرحها، والتي في أجزاء كثيرة من الفيلم لا تلتزم فقط بحكاية الشخصية الرئيسية نائلة، بل تنتقل لتتناول كامل الحراك النسوي وأدوار المرأة في الحركة السياسية الفلسطينية، كما أننا نعايش انعكاسات الأحداث السياسية العالمية مثل انعقاد مؤتمر أوسلو للسلام في العام 1993، على النضال النسوي.

يبين الفيلم بشهادات شخصية من ناشطات من مثل زهيرة كمال، وعزة قاسم أن اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية كانا حدثاً مؤثراً في تراجع دور النساء في الحراك السياسي والإجتماعي، بل يوضحن أن السلطة طلبت من النساء التراجع إلى الأدوار الخلفية، رغم شعارات التغني بحقوق المرأة، لدينا دليل ملموس على ذلك، وهو إصدار قانون يجبر المرأة الفلسطينية على الحصول على إذن من زوجها في حال التقدم بطلب الحصول على جواز السفر الفلسطيني، ما اعتبر انتكاسة في حركة النضال النسوية، التي بدأت تدرك منذ تلك اللحظات أنها تواجه قوتان تسلبانها حقوقها، ألا وهي قوة الإحتلال الإسرائيلي، وثقافة المجتمع البطريركي الذكوري الفلسطيني نفسه.

على المستوى الفني، تنوع المخرجة جوليا باشا في أنواع المواد البصرية المقدمة في الفيلم، فهناك صور أرشيفية للانفاضة الفلسطينية، وصور شخصية تجسد حياة نائلة، ولقاءات مع شخصيات نسائية مشاركة بالأحداث السياسية. ولتروي بصرياً ما ترويه نائلة سمعياً عن حياتها الشخصية من تجارب وجدانية ونفسية فإنها تلجأ إلى تقنية الرسوم المتحركة، التي تظهر ذكريات نائلة عن تجاربها، ومشاعرها، وذلك عبر صور أنيقة ومصممة ومصنوعة من ألوان رسوم متحركة تتراوح بين الرمادي، البني والأسود.

لذلك قد نعدّ الفيلم من أهم النجاحات السينمائية التي حاولت معالجة مثل هذه الموضوعات السياسية والإجتماعية المعقدة، والتي يضمها تاريخ القضية الفلسطينية في طياته، وتاريخ الأفراد الشخصية داخل القضية برمتها، ودور المرأة في النضال اللاعنفي والسياسي والاجتماعي. هذه الموضوعات استطاع الفيلم أن يقدمها برؤية بصرية ملائمة، وقدرة سردية واضحة ومنهجية، ما جعل من فيلم «نائلة والانتفاضة» لجوليا باشا نموذجاً يحتذى في المزاوجة بين الفن السينمائي، والقضايا السياسية والاجتماعية التي تشغل بال المبدع العربي.