ضمن "مهرجان سينما فلسطين–الدوحة" و "مهرجان قلنديا الدولي"

مسرّات قطر السينمائية... بين التراث والحداثة

2018-10-15 10:00:00

مسرّات قطر السينمائية... بين التراث والحداثة
سمجة، شيشبرك، المصعد

فيلم يكرّس مقولة المخرج المصري الراحل توفيق صالح "السينما أداة تغيير لا تكريس لتخلّف الواقع ودغدغة مشاعر الجماهير قبل النوم مع كل الأماني الطيبة بأحلام سعيدة"

في عام 2013 يتم إغلاق دار سينما الخليج في الدوحة، وهي أول دار سينما قطرية وقد تم تأسيسها عام 1975، وعلى الرغم من المطالبات بإعادة فتح هذه الدار لتكون معلماً تاريخياً شاهداً على بداية النشاط السينمائي في قطر، إلا أن السينما ما تزال مغلقة، في الوقت الذي تشهد فيه البلد نشاطاً سينمائياً ملحوظاً..

هذا لم يمنع من حضورها في فيلم "أعترف أنني بقيت أراقبك طويلا" -إنتاج 2016- للمخرجة روضة آل ثاني التي أعادت الحياة إلى هذه الدار وعلى الرغم من خلوها من أفلام تُعرض على شاشاتها إلا أن المكان صار نفسه فيلماً على الشاشة لتحكي لنا مخرجته عن تجربة سينمائية عاشها سُكان قطر، وتعكس من خلال تجوال فتاة صغيرة في أروقة المكان وبين الأشرطة السينمائية القديمة شغفها بالسينما، ويكتمل المشهد وهي تُشاهد لقطات من فيلمي الرسوم المتحركة بعرائس الظل وهما ”سندريلا“ (1922) و ”ثمبلينا“ (1954) للمخرجة الألمانية روتا رينيجر، ترافقهما أغنية الجندول للموسيقار محمد الوهاب..

لتعيدنا إلى "الزمن الجميل" وكأنها تحكي لنا عن تاريخ السينما من خلال دار الخليج التي كانت حافلة بعروض الأفلام السينمائية وشاهدة على محاولات إنتاج سينمائي في قطر.

أعترف أنني بقيت أراقبك طويلا


لمحة عن السينما القطرية

يوثق الباحثون لإرهاصات إنتاج سينمائي في قطر بدأ في خمسينات القرن الماضي من خلال شركات النفط التي قامت بتصوير عدة أفلام عن الحياة في هذا البلد.

في عام 1970 تأسست شركة قطر للسينما وكان لها دور كبير في إنشاء العديد من دور السينما ومنها سينما دار الخليج، وكانت أولى المحاولات لإنتاج الأفلام من خلال الفيلم الروائي "الشراع الحزين" عام 1974 للمخرج المصري محمد نبيه، ليتبعه إنتاج سينمائي متقطع طوال السنوات التي تلت هذه التاريخ، ومن الأفلام التي أنتجت لاحقاً الفيلم الوثائقي "السمّاكين في قطر" للدكتور مدكور ثابت، وفيلم عن الفنون التشكيلية لخيري بشارة، والفيلم الروائي "حارس الفنار" عام 1983 بإشراف المخرجين المصريين كمال أبو العلا وفهمي عبدالحميد واشترك في إخراجه عدد من مخرجي التلفزيون، وقد ساهم إنشاء وحدة للأفلام التسجيلية في تلفزيون قطر بإنتاج عدد من الأفلام.

وفي عام 2009 تم الاحتفاء ببدء إنتاج وزارة الثقافة والفنون القطرية لأول فيلم روائي طويل هو "عقارب الساعة" للمخرج القطري خليفة المريخي، وتشير صحيفة الراية في خبرها حول الفيلم في نوفمبر 2009  بأنه بعد إنتاجي فيلمي الشراع الحزين وحارس الفنار مرت سنوات طويلة "كان فيها إنتاج الأفلام متعثراً ولم يتم تحقيق إنتاج أفلام روائية حقيقية باستثناء بعض مشاريع التخرج لعدد من الدارسين القطريين في معاهد السينما المختلفة"، وفي نفس العام شهدت قطر انطلاقة مهرجان الدوحة ترايبيكا السينمائي وقبله وفي عام 2005 انطلق مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية.

وكان لتأسيس مؤسسة الدوحة للأفلام في عام 2010 دور كبير في جعل صناعة السينما في قطر أكثر تنظيماً وذلك بهدف "ضم كافة المبادرات السينمائية في قطر تحت مظلة واحدة" كما تشير في موقعها الإلكتروني ولرفع " الذائقة السينمائية والمساهمة في بناء صناعة سينمائية إبداعية ومستدامة في قطر" وقد ساهمت المؤسسة وشاركت في دعم وتمويل العديد من الأفلام المحلية والإقليمية والعالمية والتي ترشحت في العديد من أهم مهرجانات العالم وحازت على العديد من الجوائز ومنها "تمبكتو" لاسماعيل سيساكو، و"ذيب" لناجي أبو نوار و"في محبة فينسنت" لدوروتا كوبيلا وهيو ولتشمن، و"البائع" لأصغر فرهادي و "كفر ناحوم" لنادين لبكي و "اصطياد أشباح" لرائد أنضوني وتقوم المؤسسة بتنظيم مهرجان أجيال السينمائي وملتقى قُمرة السينمائي ويتم فيه استضافة خبراء سينمائيين من مختلف أنحاء العالم.. بالإضافة إلى العديد من الفعاليات السينمائية وعروض الأفلام المختلفة على مدار العام.

مسرّات قطر

ومع الاهتمام المتزايد بالسينما في قطر وتنوع العروض السينمائية المختلفة على مدار العام تشهد الدوحة هذه الأيام انطلاق فعاليات ”مهرجان سينما فلسطين-الدوحة“، وهو مبادرة فردية مستقلة، ومن ضمن فعالياته برنامج "مسرات قطر" ويتضمن أفلاماً صُنعت في قطر لمخرجين قطريين وعرب مقيمين فيها، وسيتم لاحقاً عرض الأفلام ضمن جولة في خمس مدن فلسطينية.

وبالإضافة إلى فيلم "أعترف بأنني بقيت أراقبك طويلاً" تُعرض ثمانية أفلام روائية ومنها فيلم "كشته" للمخرجة الجوهرة آل ثاني وفيه جعلت من الرحلات إلى البرّ للتخييم والصيد -وهي عادة الكثيرين من سكان قطر- إطاراً عاماً للحكاية، حول طفلين شقيقين يصحبهما والدهما في رحلة إلى الصحراء، ونشاهد في الفيلم براعة في التصوير تأخذنا إلى جمال المكان، وتألقاً في تصميم الملابس والعناية بتفاصيل المشهد، وأداءً لافتاً للطفلين يبدو جلياً خلال شجارها المستمر والدائم والذي يوقعهما في مأزق فيتعاونان في سبيل إيجاد الحل.. مأزق وقعا فيه رغم تحذير والدهما لأحد ابنيه حينما صوب السلاح إلى شقيقه الأصغر قائلا له "لا تصوب سلاحك على أحد، وإلاّ قد يقع ما لا يمكن إصلاحه".
 

كشته


لكن فيلم "المصعد" للمخرجة حميدة عيسى والحاصل على منحة صندوق الفيلم القطري عام 2017، يحاول إصلاح ما قد يقع من أخطاء، إذ تعلق امرأة قطرية مع خادمتها الفلبينية في مصعد المنزل، لتبدأ بلوم الخادمة وتحميلها المسؤولية، في نقد لاذع وجريء لفئة في المجتمع القطري تُعامل العمال الأجانب بازدراء وفوقية، فيلم يحاول أن يذكّر هذه الفئة بأصل المجتمع القطري وتراثه القائم على الطيبة والصبر، نشاهده في لقطات قارب الصيد، واستخدام أغاني الصيادين وحوار مع امرأة عجوز، ترتدي الزي التقليدي، تُذكر المرأة المتكبرة بأصلها، وتستعيد الماضي المجبول بعرق الصيادين في سبيل لقمة عيشهم قبل الازدهار الاقتصادي واكتشاف النفط والغاز.
 

المصعد


فيلم يكرّس مقولة المخرج المصري الراحل توفيق صالح "السينما أداة تغيير لا تكريس لتخلّف الواقع ودغدغة مشاعر الجماهير قبل النوم مع كل الأماني الطيبة بأحلام سعيدة"

وإلى واقع مسكون بالطيبة والصبر، وعلاقة دافئة بين طفلة وجدها صاحب الذاكرة الضعيفة، يأخذنا فيلم "سْمِجة" -وهي كلمة باللهجة القطرية وتعني سمكة- للمخرجة أمل المفتاح لنُشاهد قصة لولوة التي تطلب من جدها أن يشتري لها سمكة ذهبية، ونراها تحاول تذكيره بطرق طفولية جميلة تترافق مع لحظات عنايتها واهتمامها به، في فيلم يعتمد الصورة أساساً للحكاية مع التقليل من الحوارات.
 

سْمِجة


بينما في فيلم "شيشبرك " للمخرجة بيان دحدح وهو إنتاج فلسطيني قطري مشترك، يُعتمد على الحوار لسبر غور علاقة بطلة الفيلم مع أمها، وخلافها معها والذي تستحضره المخرجة من خلال طبخ الفتاة للشيشبرك -وهي أكلة مشهورة في بلاد الشام وفلسطين- لصديقها الأجنبي الذي تشعر بالوحدة في غيابه وتنتظر عودته، فنسمع انتقادات أمها لها حول قلة خبرتها في الطبخ، خلاف يبدو عميقاً حينما نسمع البطلة معظم الوقت تتحدث بالإنجليزية بينما تتحدث أمها باللهجة الفلسطينية، وربما في دلالة على محاولة الانفصال عن الماضي قبل أن تبدأ باكتشاف أهميته في حاضرها المتشح بالوحدة في فيلم تدور كل أحداثه في نفس المكان هو المطبخ، ومع ذلك تغلب التصوير على محدودية المكان باختيار زوايا وأحجام اللقطات بعناية.. وكما يقول المخرج السوفييتي الراحل ميخائيل روم في كتابه أحاديث حول الإخراج السينمائي ”إن المَشاهد في السينما متنوعة مثلما هي الحياة متنوعة، ومع أي قطعة من الحياة تعامل المخرج فإن عليه إيجاد الحل الدقيق للمشهد، سواء جرى في حقل ضخم وواسع، أو في مكان آخر ضمن حدود غرفة صغيرة..“.
 

شيشبرك


وفي مكان أوسع ومحاولة اكتشاف العلاقة به تحكي لنا المخرجة روان ناصيف في فيلمها "سكون السلحفاة" عن سعيها لاكتشاف تفاصيل المكان الذي تعيش فيه بقطر، وهي -كما تقول في مقابلة لها على البي بي سي ضمن برنامج سينما بديلة - بأنها وبسبب سفرها الدائم تسعى لتعزيز الانتماء للمكان الذي تمكث فيه مهما كانت المدة قصيرة ولخلق التفاعل معه، ولهذا كان وطنها حقيبة بعكس ما قال الشاعر الراحل محمود درويش "وطني ليست حقيبة وأنا لست مسافر“.
 

سكون السلحفاة


في الفيلم لمسة شاعرية، ومزج للأصوات المختلفة وكيف تتناغم وتتآلف فيما بينها، مع الملاحظة والتأمل وهو أسلوب متبع في السينما منذ البدايات كما في فيلم "المطر" - 1929- لبوريس ايفنز ومانوس فرنكن.. وتحاول المخرجة أيضاً رصد نمط المكان فترصد مثلاً متى تمر الطائرات من فوقه لتوثق لروتين الحياة فيه في الوقت الذي يبدو فيه المكان معظم الوقت فارغاً إلا من عمّال وحراس أمن نرى انعكاساتهم من خلال الواجهات الزجاجية للمحلات المنتشرة فيه.

هذا الانعكاس نراه مُختلفا في فيلم "دُنيا" للمخرج عامر جمهور وهو إنتاج أردني قطري مشترك حينما تحمل الفتاة الصغيرة دُنيا المرآة وتنظر إلى نفسها محاولة تقليد أمها المضطهدة من زوجها، لينقل لنا الفيلم انعكاس العلاقة السيئة بين أمها وأبيها على شخصيتها.. مستحضرا العنف الذكوري وقمع المرأة التي تحاول الانتقام لنفسها وسط مجتمع يتجاهل ألمها ومعاناتها مثّله الشرطي الذي تتعارك معه بعد أن اكتشف وجودها مع ابنتها في مكان ناءٍ حيث تحاول الأم دفن جثة زوجها في علاقة خالية من الحب متمثلة بالقسوة التي شاهدناها في أداء الطفلة الصغيرة لدورها.
 

دُنيا


وفي حكاية عن الحب وكبح جماح شهوات النفس، وصولاً إلى أعلى مراتب العشق تبدو هذه قصة فيلم "رحلة إلى من الحب" للمخرج عبد الله الملا وحكاية شخص محطم يعيش حالة من الصراع الداخلي مستعيناً برموز وأفعال صوفية ظهرت بالفيلم من خلال رسوم متحركة لرقص صوفي، والمرأة التي يلتقيها في بداية الفيلم، وللسبحة في يده -وبحسب الإمام الساحلي، هي كلمة مشتقة من التسبيح وهو تفعيل من السبح الذي هو المجيء والذهاب لأن لها في اليد مجيئاً وذهاباً.

الحب الذي يكتوي بناره بطل الفيلم حينما يكون في الحانة التي يظهر فيها مجموعة من الأشخاص المحطمين بأرواحهم الحزينة، وكأننا في بعض تفاصيل هذا المشهد أمام قصة "قبو البصل" للكاتب الألماني غونتر غراس.. وتصبح الحانة -الخمّارة- تجسيداً لأعلى مراتب العشق، ولدى الصوفية فإن أعلى مراتب العشق التي يتجلى ويفني فيها العاشق في الذات الإلهية تشبه "السّكر" فيغيب عن هذا العالم.
 

رحلة إلى من الحب


وبقصة تدور حول الفناء والخلود، يقدم المخرج عبد الجبار مكي فيلمه "أتباع جلجامش" والمستوحى من أسطورة "ملحمة جلجامش" وحكاية طفل يموت والده ولكنه ممنوع من دخول غرفته فيسعى جاهداً إلى معرفة ما الذي يخفونه عنه في هذه الغرفة، حتى يكتشف بأن فيها جلجامش وقد نجح في سعيه للوصول إلى الخلود -بعكس ما جاء في الملحمة التي يموت في آخرها- قائلاً للصبي الصغير: ”تخيل عالم خال من الموت، سيفقد السيطرة وسيتساوى جميع الناس.. قصتي صارت خيالية ثم صارت ملحمة لمحو فكرة البحث عن الخلود“.

الأفلام التي تُعرض تلقي الضوء على سينما بدأت تتشكل ملامحها تعكس شغفاً بالفن السابع لدى جيل شاب، يسعى لأن يحكي قصته ويوثق تفاصيل الحياة في بلد متمسك بتراثه وهويته مليء بالحكايات وتتنوع الأعراق والثقافات فيه.. وعلى الرغم من أن الأفلام في معظمها تجارب أولى وحصيلة ورشات تدريبية، إلا أن المتابع يلحظ المحاولات الجادة للتمكن من الأدوات الفنية والتقنية ومحاولة تسخيرها لخدمة الحكاية بأفضل طريقة ممكنة مما يبشر بمستقبل سينمائي متميز.