ممدوح عزّام: "أنا من المؤمنين أن كل رواية جديدة هي مشروع نظرية في الرواية"

2018-11-07 11:00:00

ممدوح عزّام:
من موقع العربي الجديد

في النهاية تتجمع كل تلك الصفحات التي كتبها الروائي كي تلقي الضوء على موجز المصائر التي اجتمعت معاً في هذه الرواية أو تلك. حيث يكون الكاتب أيضاً قد استثمر طاقته كلها حتى الثمالة. فجأة يصبح أي قول بلا طعم، ولا معنى. تقفل الرواية على نفسها كما لو كانت تصرخ في وجه الروائي: كفى لم أعد أستطيع أن أحتمل عدداً أكبر من الكلمات.

ممدوح عزام، كاتب سوري من مواليد السويداء 1950، ترجمت بعض رواياته إلى الإنكليزية والألمانية. أصدر مجموعتين قصصيتين، وست روايات، وبمناسبة صدور روايته الأخيرة، وإعادة طباعة رواياته القديمة في طبعات جديدة، كان لي معه هذا الحوار عن رواياته وعن مشاغل الكتابة وتقنياتها.

 

بدايةً، دعني أسألك سؤالاً نابعاً من رغبة شخصية في معرفة ما هي المصادر التي يستقي منها الكاتب أفكار رواياته... كيف تأتيك فكرة رواية؟

لكل رواية قصة مختلفة. وهو ما يمكن أن نسميه اليوم: قصة الرواية. فـ ”معراج الموت“ جاءت من حكاية رواها لي والدي الراحل، عن فتاة تعرضت للقتل على يد ذويها بعد أن حملت سفاحاً من أحد الشبان. كان الشاب قد فرّ وتركها فريسة بين أيديهم، فقتلوها كما قتلت سلمى. تختلط في الرواية بعد ذلك قصص وحكايات أخرى. أما ”قصر المطر“ فلها قصة غريبة تحكي عن تحولات الحكايات، فقد روى لي شخص ما من شمال سورية قصة عن مقتل أسرة كاملة على يد أحد الآغوات في المنطقة، بسبب فتاة كان يحبها، ورفضوا أن يقبلوا مصاهرته. كانت هذه هي البداية، لكن قصة أهلي كانت ثاوية في ضميري ووجداني منذ الصغر. أو منذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، وبدأت أسمع حكايات جدي وأبي وأعمامي عن الاضطهاد الذي تعرضوا له على يد أحد الإقطاعيين الصغار من زعماء العشيرة حيث كانوا يسكنون. لقد اضطروا لهجرة بيوتهم فيما بعد، وقايضوا أراضيهم بأراض أخرى في البلدة التي أنتمي إليها اليوم.

وحين بدأت أكتب قصة العائلة القتيلة تبدل السرد، واختلطت الحكاية بالحكاية. وصارت الكتابة عن أهلي وأجدادي وأعمامي. ثم انتهى ذلك كله إلى أن تكتب رواية تخرج من جسد الحكاية، وتلغيها، وتحوّلها إلى نص مختلف.

“أرض الكلام“ لها قصة أخرى، وقد حاولت فيها أن أجد أجوبة عن حيرتي تجاه أهل قريتي الذين اشتروا مكتبة للبلدة من أموال عامة. أولاً حيرتي تجاه المادة ذاتها، أي اقتناء مكتبة عامة في بلدة نائية معزولة بين صخور اللجاة. وثانياً أسباب اختفاء المكتبة، وتدميرها. أفكر الآن في كتابة رواية أبحث فيها عن الكتب، وأحاول أن أجد أولئك الذين أخذوها، نهبوها، سرقوها... يمكن قول أي وصف لما حدث.

أصدرت مؤخراً روايتك السادسة "أرواح صخرات العسل"، وتقارب فيها الحرب السورية الدائرة في البلاد، كيف جاءت فكرتها، وما هي صعوبات العمل في رواية تتناول حدثاً حاراً لم ينته بعد؟

روى لي أحد أصدقائي أن شاباً في الخامسة والعشرين من العمر قد انتحر قبل سنة، وذكر لي أن ذلك الشاب كان قد خسر اثنين من أعز أصدقاء عمره في المعارك الدائرة في سورية.  قال إن الشاب بدا في الشهور الأخيرة التي أعقبت موت صديقيه يائساً، وغاضباً، ورافضاً للتعاون مع أي شخص أو جهة بمن في ذلك أسرته. إلى أن جلس ذات يوم في البيت، ووضع فوهة البندقية في فمه، وأطلق الرصاص. وفيما كنت أروي تلك الواقعة أمام صديقة لي قالت بأسى: "لقد قتلتهم الحرب". كيف يمكن أن أكتب رواية عن الحرب لا يرى القارئ فيها الحرب البتة؟ ما هي الحرب؟ وما الأثر الذي تتركه وراءها في أرواح الناس؟ غير أن للحرب الدائرة في سورية وجهاً آخر هو القمع المديد الذي تعيش تحت وطأته أجيال من السوريين. وهو قمع شامل، لا يتعلق بطبيعة الأنظمة السياسية، بل امتد امتداداً أخطبوطياً إلى كل تفصيل من تفاصيل حياتنا. وهذا هو ما واجهه الشبان الثلاثة، فبسبب القمع خسروا تعليمهم، إذ كان وجود معلم قاسٍ عديم الرحمة يجعل التعليم والعلم مكروهين. هذا مصير عشرات الآلاف من الشبان السوريين أيضاً. والمعلم صورة الحاكم. والحقيقة هي أن الحرب هنا لم تتضح أبعادها وأسرارها والتفاصيل التي تجعل الناس ينخرطون فيها بعد. ولا يكفي أن يكون الكاتب إلى جانب هذه الجهة أو تلك من الجهات التي تتقاتل على الأرض كي يتمكن من تحقيق قسمة عادلة تضع الأشرار هناك، والأخيار هنا. تتبعت قصة حياة الشبان الثلاثة قليلاً، وعرفت القليل من التفاصيل عن حياتهم من بضعة أشخاص. لم يكن متاحاً لي أن أعرف الكثير عن ذلك، بسبب التكتم الذي يلف قصص الانتحار والموت. وحين بدأت الكتابة انتهت الحكاية الحقيقية عن الشبان الثلاثة تماماً. وأول ما ظهر فيها هو أسماؤهم الجديدة التي تشابهت في الإيقاع والصوت: عابد وحامد وخالد. وفي ظني أن اليأس جزء من مخلفات كل حرب أينما كانت.

في الرواية الأخيرة تبدأ من اللحظة التي يقرر فيها الراوي كتابة حكاية الأصدقاء الثلاثة، وتخبر القارئ مباشرة بنهاية هذه الحكاية، كيف تقرر أن تبدأ روايتك من حدث معين أو نقطة معينة؟

أبدأ أكثر من بداية. هذه هي المرحلة الأشد صعوبة وقسوة على الكاتب. لأن البداية تضع النص كله تقريباً في سياقه الروائي. إنها ترغم الكاتب، بمعنى من المعاني على أن يمضي من هنا، أو من هناك في الكتابة. كما أنها تكون قد قررت طبيعة الحكاية التي ستحكى. ولهذا فإن تعدد البدايات يعني أن الروائي يضع نفسه أمام اختبار، واختيار الروايات. فإذا سألنا من أين سنبدأ، فإننا نكاد نعلم إلى أين سنمضي. يمكن أن أبدأ من حدث ما، كما في ”معراج الموت“: "صباحاً بدأت تبصق دماً". كانت هذه البداية واحدة من أكثر اللحظات تألقاً في البدايات الروائية. أو كما في قصر المطر: "أيقظته الطلقات" فمن لحظة اليقظة التي أفاق منها حسان أبو غانم على حياته الماضية، سوف نشرع في قص ما جرى في تلك الحقبة لآل الفضل جميعاً.

قرار البداية هو قرار كتابة الرواية، أو قرار السير في هذا الخط أو ذاك من خطوط الرواية، بعد أن يكون الروائي قد حزم أمره على الكتابة.
 


يقول أحد الشخوص في "أرواح صخرات العسل": "الحقد لا الحب هو الذي نشأ عليه جيلهم كله"، وفي مواضع كثيرة في الرواية هناك غوص عميق في محاولة لفهم أسباب العنف المتفلت أخيراً في الحرب السورية الحالية، والأحقاد التي وجدت لها مكاناً للظهور.

هذه مشكلة أخلاقية وفكرية وإنسانية وقل ما تشاء من صفات عنها، عاناها السوريون في النصف الثاني من القرن العشرين. وهي مشكلة لا يعرفها غير السوريين ومن الصعب أن تشرحها لأحد ممن يتخذون مواقف سياسية أو أيديولوجية محض من بين العرب أو غير العرب. إنها أمر يتعلق بنمط حياة عاشته أجيال من بينهم. نمط كان يخزّن قدراً هائلاً من العنف والحقد والضغط المتواصل بلا رحمة على الأفراد والجماعات كي يتم تطويعها إلى الأبد. غير أن هذا مستحيل بالطبع، وهو أمر لا تفهمه السلطة أو أي قوة مسيطرة، فتواصل الضغط باستمرار. على كل حال، ما كانت الرواية تريد أو تستطيع أن تجيب عن أي سؤال، بل سعت لتسجيل لحظة فقدان الأمل لدى البشر بسبب مثل هذه السياسات العجيبة.

تعتمد في هذه الرواية أيضاً تكنيكاً صعباً ومجهداً جداً في الكتابة، هو الراوي الذي يحاول لملمة الحكاية وملء فراغاتها بالاعتماد على مرويات الشاهدين عليها. لماذا هذه التقنية وما هي التحديات التي واجهتك بعد أن اخترتها؟

بعكس ما يشير إليه السؤال فإن هذه التقنية هي التي حلت صعوبة الحكي عن الحرب ومآلات الناس فيها. فوجود الراوي الأول، وهو رجل متعلم، وربما مثقف من أقرباء أحد الشبان الذين يمثلون محور العمل، حلّ كثيرا من مشكلات المعرفة، أو العلم، بحياة ذلك الشاب، وحياة صديقيه، بالنسبة للراوي الذي يقدم النص. كان هذا هو الحل الأول الذي استندت إليه الرواية أثناء القص. وفيما بعد تبين لي أنه لا يكفي. ثمة الكثير من الغموض يلف بعض الجوانب من حياة الشبان الثلاثة، ومن غير المعقول أن يستطيع الراوي الأول الإلمام بها، وهنا ظهر شخص آخر كان قد تدخل في النص منذ البدايات كراوٍ محتمل، وحين أجريت له اختباراً في القص وجدت أنه يستطيع بالفعل أن يستكمل الثغرات في حكايات الراوي الأول. بل إنه تمكن من تصحيح بعض النقاط، أو تقديم الحكاية عنها بطريقة مختلفة.

عطفاً على السؤال السابق، لم تكرر الشكل نفسه في روايتين... دوماً هناك شكل جديد وتقنيات جديدة. لماذا هذا البحث الدائم عن التجديد في كتاباتك؟

كي تكتب رواية، يجب أن تكتشف أولاً التقنية، أو الشكل الذي يجب أن تكتب هذه الرواية به. يشبه الأمر إلى حد بعيد طرائق الحكي نفسه. ليس بوسع الناس جميعاً أن يصبحوا حكواتيين مثلاً، وحين يموت الحكواتي في أحد المقاهي الدمشقية، كان يصعب على الناس إيجاد بديل له، إلا إذا كان شخص آخر قد امتلك الموهبة والتدريب. لماذا؟ ما الصفة النادرة في هذا الرجل؟ فكتاب الحكايات موجود بين أيديهم، ويستطيع الكثيرون من بين المستمعين قراءة النص من الكتاب. غير أن طريقة الحكي تتطلب تقنية إيصال خاصة لا يستطيع أي شخص أن ينفذها. هذه ميزة تقنيات الحكواتي، إنه يكفل الاستماع، والحضور، ووصول الحكاية، عبر أسلوبه الخاص الذي يستخدم فيه الصوت والحركة وفواصل الصمت. أنت تعلم أيضاً أن من يروون الطرائف يتمتعون بهذه الميزة. وهم يروونها كل مرة بطريقة جاذبة تجعل المستمعين مشدودين إلى الراوي.

ليست الرواية ماذا تقول فقط. بل الرواية كيف تقول. والكيف هنا هو الشكل الذي ستصل به إلى القارئ. وعدم فهم هذه الناحية، هو ما يودي بكثير من الروايات والقصص إلى الضياع. إذ لا يحفل القارئ برواية لأنها ضد الظلم، أو لأنها تنشد للحب، بل لأنها تروي الحكاية عن الحب بطريقة شائقة. ولا يتعلق الأمر بأي رغبة في تقديم التقنيات الجديدة، أو التعلق بالشكل، بل باكتشاف شكل كتابة الرواية وحسب. لهذا لا يمكن أن أكتب رواياتي بطريقة واحدة. أي عبر تكرار التقنية نفسها. هذا ممل وعاجز. وأنا من المؤمنين أن كل رواية جديدة هي مشروع نظرية في الرواية.
 


هنا أريد سؤالك عن الشكل الذي اعتمدته في "جهات الجنوب"، وأين كانت عقدة الرواية؟

لدينا في الرواية أكثر من شخصية: يونس العائد من المعتقل الفرنسي بعد غياب دام ستاً وعشرين عاماً. وأبو الريش الباقي هنا، الفقير الذي يعمل في دار السينما. وهما صديقان قديمان في أيام الشباب.

كان على يونس أن يبحث عن زوجته التي ضاعت منه، ولهذا خصصت فصولاً لهذا البحث، رحل فيها يونس إلى القرى والبلدات التي قدّر أنها يمكن أن تكون قد ذهبت إليها في غيابه. وفي تلك الرحلات كان يستعيد، ويرى ما الذي يحدث أو يكون قد حدث في البلد أثناء غيابه.

”جهات الجنوب“ رواية عن الرجل العائد من سجون غوايانا الفرنسية. الحقيقة تكاد منطقة السويداء تنفرد بالحكايات عن أولئك الثوار الذين اعتقلتهم السلطات الفرنسية المحتلة، وأرسلتهم إلى سجونها الفظيعة في مستعمرة الغوايانا. ولدينا عشرات الأسماء ممن سيقوا إلى هناك، ولم يعد من بينهم سوى اثنان، أحدهم كتب عنه سعيد حورانية، وسلامة عبيد، أما الآخر فقد عاد متأخراً عن زمن عودة رفيقه بأكثر من عشرين عاماً. كان ضائعاً في تلك البلدان. وقد التقيت به، وسجلت أحاديث طويلة معه. وعرفت أن لقاءه بالعائلة كان يفتقر إلى الحنان والحب. ربما كان الغياب الطويل الذي جعل ولديه يكبران ويتزوجان في غيابه هو السبب. وفي الرواية لا يجد زوجته، وهذا يترك الباب مفتوحاً على كثير من الاحتمالات غير ذلك الاحتمال الوحيد الذي قد يحتاج لمعالجة خاصة، تبحث في الغياب والقطيعة بين السجين وأهله، ربما أمضي في تلك الناحية ذات يوم، ولدي العشرات من الحكايات عن افتراق الأزواج والأحبة بعد تجربة السجن.

اختفاء العائلة يتيح ليونس أن يتجوّل في المنطقة، بحثاً عنها. وهذه هي التقنية الضرورية لمتابعة الرواية. تقنية التجوال التي شغلت مستوى البحث الذي ينفذه يونس.

في "أرض الكلام"، هناك أكثر من تقنية، لدينا الراوي العالم بكل شيء، والذي يروي بشكل دائري أحداث الرواية، لدينا "كتاب السفر" الذي يكتبه معلم القرية، يروي فيه حكايات الرحيل عن القرية، وهناك الطفل "فيصل الخضرا" الذي يكتب قصصاً بلغة طفولية، يغيّر فيها الواقع، ويعيد تشكيله على هواه. ما سبب هذا التعدد في التقنيات ضمن الرواية الواحدة؟

السبب هو تعدد الرواة. لدينا هنا عوالم مختلفة تعيش معاً في مكان واحد، ولدى كل منها عالمه ورؤيته للأشياء وللكون وللحياة وللعالم من حوله، وهو يريد أن يقدّم هذه الرؤية لنا، لهذا فإن ”كتاب السفر“ هو وجهة نظر معلّم القرية في التحولات التي تجري أمام عينيه. كانت البلدة تفرغ من سكانها بسبب القحط والجوع والطموحات أيضاً.
 


في "نساء الخيال" كان النص مختلفاً كلياً، عن رواياتك السابقة، اللغة هنا تقريرية ومباشرة، خالية من المفردات الملونة (حسب تعبيرك في النص)، قد كتبت رواياتك السابقة على لسان الراوي العارف بكل شيء، أما هنا نحن أمام راوٍ يلملم الحكايا ويفندها ويأخذ جميع الاحتمالات والمرويات، لا شيء مؤكداً، كما لا شيء منفياً قطعاً، حتى "حضور المكان" في هذه الرواية مختلف. المكان هنا وصف للأبنية ولنمط العمارة، لا للوعر واللجاة والجبل والسهول والتلال، أخيراَ الحوار الذي جاء هذه المرة بالفصحى بدلاً من لهجة أهل السويداء. لماذا قررت في هذه الرواية أن تغيّر كل ما اعتاد عليه قارئ رواياتك؟ أرى ذلك مغامرة!

أظن أن الراوي يتحمل قسطاً من المسؤولية عن اللغة، فاختياره وضعني أمام مشكلة التعبير. إذ إن العودة للكتابة باللغة السابقة الملونة كما في ”قصر المطر“ أو ”معراج الموت“ يعني أن الراوي لا يزال هو ذات الشخص الذي كتب الروايتين السابقتين، ومن المستحيل أن يروي وأن يعمل على اللغة في آن واحد. هذا ما فكرت به، وقد غامرت بهذه التجربة، ولا أعرف تماماً مدى نجاحها، إلا من القراء الذين يقرؤون النص. ولقد كانت اللغة تجربة، ولست نادماً عليها، وأنا لا زلت حتى اليوم في حيرة من الأمر تجاه موضوع الحوار في الرواية: هل أكتبه بالعامية أم بالفصحى المخففة؟ علماً أنني أكثر ميلاً للعامية التي تقترب من الفصحى قليلاً. وربما، أقول ربما، كانت الشخصيات المتعلمة هي التي أوحت لي بهذا الاختيار. وهم مجموعة من طلاب دار المعلمين الذين كان عليهم أن يمضوا أربع سنوات قبل تخرجهم ومنحهم شهادة التعليم الابتدائي.

وهذه الرواية تشبه السيرة الذاتية بمعنى من المعاني، بعد أن تتعرض لعمليات الحذف والإضافة التي تتحقق أثناء تحويل السيرة إلى نص روائي. وقد كان المكان أو الأمكنة الجديدة هي المدينة التي ينتقل إليها الطلاب من الأرياف حين يصبحون في مراحل الدراسة الإعدادية وما فوق. المكان الجديد هو تشكيل مختلف للحياة اليومية، ولعلاقات الشخصيات التي يستحيل وجودها في الريف. ومن بين تلك التبدلات يدخل المكان المختلف من حيث حضور الشخصيات عن حاله في الريف. فالمغامرة التي يخوضها الشبان الأربعة تحتاج لوجود الشوارع والمنعطفات مثلاً، والحياة التي سيختارها كل واحد منهم بعد أن ينتقلوا إلى الحياة العملية تتطلب وجود المدينة والنشاط السياسي والاجتماعي، ولا وجود لمكتبة عامة في الريف مثلاً. وهكذا فإن كل التفاصيل تدعو لتغيير العناصر التي تشكل أعمالي الروائية السابقة.

بما أننا بدأنا حوارنا بالبدايات في الرواية، أحب أن أنهيه بالحديث عن النهايات. حين أنهيت قراءةمعراج الموت" ظلّت كلمات جميل الذيب: "موتي! موتي! موتي!" ترن في أذني. العواء الكلبي الذي يطلقه كريم في نهاية "أرض الكلام" جارح ويغوي القارئ بأن يطلق هو الآخر عواءه أيضاً، النهاية المفتوحة على الفجيعة في "جهات الجنوب"، نهاية "نساء الخيال" الأولى، جملة تحتاج إلى تتمة، بعدها مباشرة هامش طويل ينتهي بسؤال يعيدنا إلى البداية من جديد. وفي "أرواح صخرات العسل" رغم أني كنت أعرف النهاية منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها الرواية إلا أني تأثرت جداً حين وصلت إليها. متى تعرف أن روايتك انتهت، وكيف تختار نهايتها؟ ما هي المخاوف التي تعتريك وأنت تكتب نهاية رواية؟ وما هي المشاعر التي تتلبسك حين تغادر أبطالك وتتركهم أسرى كتاب؟

في ”أرض الكلام“ كان ندَم الخسارة يكمن خلف عواء كريم في النهاية. ربما كان ندمي أو ندمك على خسارة بشر أو مواقف ثمينة ضاعوا منا إلى الأبد. ليس بوسعنا إلا أن نعوي في هذه الخلاء القفر. وفي "جهات الجنوب" كانت الحيرة والأسئلة المفتوحة على البراءة التي يقتلها الطغيان، والتوحش. وحين أستعيد هذه الرواية التي تحدثت عن مقتلة مدنيين، وعن سعيي لتركها مفتوحة. أتعجب اليوم من حجم حيرتي، حين أرى المقتلة التي يتعرض لها السوريون الأبرياء في مقتلتنا الحالية. وفي الغالب فإن رواياتي لم تنته تماماً، وإن كان على النصوص أن تنتهي أخيراً، وإلا فنحن سنكتب رواية بلا نهاية. طيب. ”ظلت قصر“ المطر مفتوحة على استمرار الظلم والطغيان. وظلت ”معراج الموت“ مفتوحة على الموت الذي لا يتوقف للنساء العاشقات.

الحقيقة هي أنني لا أرى النهاية البتة في البداية. إنها تأتي حصيلة الأحداث والتشابكات الماضية في النص، وقد حدث معي أخيراً أن وضعت تصوراً مسبقاً لنهاية روايتي التي كتبتها أخيراً. غير أنه لم يتم. ذهبت الرواية في منحى آخر ألغى مشروع النهاية المسبقة التي أعددتها. أضحك أحياناً من هذا. أشعر بسعادة لا مثيل لها من قوة النص، ومن قدرته على أن يتحرر من سيطرة الكاتب. وأشكر نفسي على أريحيتي في التعامل مع الكتابة، ومنحها هذا القدر من الحرية.

في النهاية تتجمع كل تلك الصفحات التي كتبها الروائي كي تلقي الضوء على موجز المصائر التي اجتمعت معاً في هذه الرواية أو تلك. حيث يكون الكاتب أيضاً قد استثمر طاقته كلها حتى الثمالة. فجأة يصبح أي قول بلا طعم، ولا معنى. تقفل الرواية على نفسها كما لو كانت تصرخ في وجه الروائي: كفى لم أعد أستطيع أن أحتمل عدداً أكبر من الكلمات.